حين تداولت وسائل الإعلام خبر ضم الكيان الصهيوني للحرم الإبراهيمي لهيئة الآثار اليهودية؛ توقعت أن يكون الحادث صادمًا للجميع، أقلّها على مستوى الشعوب؛ مما يجعل (الصدمة) مقدمة لانتفاضة شعوبية مستحقة طال انتظارها على ما يحدث في فلسطين المحتلة.

 

لكن صدمتي الكبرى كانت بالصمت المطبق الذي خيَّم على العواصم العربية والإسلامية بعد نشر الخبر؛ مما لم يدع للمرأ مجالاً للشك من أن الأمة تعاني من حالة موات أو غيبوبة في أحسن الأحوال.

 

لم يفلت من هذا المشهد الكئيب سوى مدينة الخليل ذاتها التي انتفض أهلها؛ احتجاجًا على ضم الحرم الإبراهيمي، في حين اكتفت بقية الأمة بمقاعد المتفرجين، وهي مقاعد لحسن الحظ بلا رسوم!- وإلا لوجدناها خاوية هي الأخرى!!-؛ حيث يكفيك أن تضّجع في مقعدك الوثير تشاهد على شاشة التلفاز ما يحدث أمامك، ولا مانع من بعض التسالي لزوم (المشاهدة)!!، وعندما تثور نخوتك قليلاً فما عليك سوى أن تمصمص الشفاه أو تقطب جبينك قليلاً حزنًا على ما يحدث، ثم تنام قرير العين مرتاح البال على تأدية واجبك النبيل، هذا على ما يبدو أقصى نضال لأمة تعيش في زمن التيه.

 

لم يشفع للحرم الإبراهيمي- لتثور الأمة- أن به قبر الخليل إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وسيدنا إسحق  ويعقوب عليهما السلام، وزوجاتهم سارة ورفقة ولائقة وإيليا على التوالي عليهم السلام، دُفنوا جميعًا في مغارة (المكفيلا) التي يقوم عليها الحرم الإبراهيمي الشريف ، وفي الحرم الشريف كذلك ضريح للنبي يوسف عليه السلام، وقبر سيدنا آدم ونوح عليهم جميعًا السلام, كما تقول بذلك الروايات المختلفة.

 

العجيب أن هؤلاء الأنبياء العظام الذين دُفنوا في هذا المكان كانت حياتهم قصة نضال وكفاح بالغة الروعة ضد الظلم والطغيان، حرروا بها البشر من أسر الشهوات وظلامات الجهل، وذل العبودية لغير الله، فما الذي حدث لهذه الأمة؟!.

 

لم أجد تفسيرًا للوضع الذي نحياه سوى ما قاله الرسول صلى الله عليه و سلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن؟ - أي ما سببه وما سره فإن معنى الوهن معروف وهو الضعف- قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

 

يقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حول هذا الموضوع: "لقد بات إيمانهم إيمانًا (جغرافيًّا) بحكم ولادتهم في أرض المسلمين، أو إيمانًا (وراثيًّا) يأخذونه عن آبائهم كما يرثون الدور والعقارات، بات إيمانًا مخدرًا نائمًا لا تأثير له، ولا حيوية فيه، فكيف يورث القوة، ويهب للنفس العزيمة والمضاء؟!".

 

هذا هو مبعث الوهن الحقيقي، وسر الضعف الأصيل، أن يخلد المرء إلى دنياه الخاصة، فيعيش عبدًا لها مطواعًا لأوضاعها الرتيبة، أسيرًا لقيودها الثقيلة، تحركه الشهوات كالخاتم في الإصبع، وتسيره الرغائب المادية كالثور في الساقية، يتحرك في مدار محدود، فاقد الهدف معصوب العينين.

 

حب الدنيا هو الذي يجعل الملك في صولجانه عبدًا ضعيفًا، رخو العود، أمام امرأة يعشقها، أو شهوة يطمع في نيلها، أو نديم يخشى أن يفضحه، أو حاشية تعينه على سرقاته ونزواته.

 

وكراهية الموت هي التي تجعل الأفراد والجماعات يؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، يؤثرون حياة يموتون فيها كل يوم موتات، على موت يحيون بعده حياة الخلود..

ومن لا يمت تحت السيوف مكرمًا                  يعش ويقاسي الذل غير مكرم

انتهى، فهل يتعظ أحد؟!