الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" (الموت) مفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، وقاطع الأعمال الصالحات، المقرب إلى العرصات، المجرع للحسرات، الناقل من البيوت والقصور إلى القبور الموحشات، المفجع للأهل والقرابات.. وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في الخيرات.

 

قد يكره الناس الحقائق الناصعة، ويتناسون المواعظ الثابتة التي لا مهربَ منها؛ وذلك لأسباب لا يصعب معرفتها، ولا يغمض فهمها، كما أنه من الواضح والبين أن معرفة الطريق إلى الصواب ميسر، والوصول إلى الحقائق ممهد بشريعة سمحة وتعاليم نبرة، جعلت الحقائق مسلمات أمام الإنسان وبدهيات في حياته؛ لأن الإنسان مقدر له عمر محدود وأجل معلوم وحساب على الأعمال موجود، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾ (آل عمران)، وقال تعالى ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾ (الحجر)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾ (الغاشية).

 

من العجيب الغريب أن كثيرًا من الناس لا يذكرون الموت ولا يحبون أن يذكَّروا به، ومنهم مَن يتشاءم بمن يذكِّره بذلك، وينبهه لما هنالك، كأنما كتب الموت على غيرهم، ونسوا أو تناسوا أن الأحياء جميعًا هم أبناء الموتى، وذراري الهلكى، أين الآباء والأجداد؟ بل أين بعض الأبناء والأزواج والأقارب والجيران والأحفاد؟!

 

ما منا من أحد إلا ومعه أصل شهادة وفاته، فقد نعى الله إلينا رسولنا ونعانا إلى أنفسنا فقال:

﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)﴾ (الزمر)، وما يستخرج من شهادة بعد الوفاة إنما هي صورة طبق الأصل لما سجَّله الملائكة للعبد وهو في رحم أمه، ورحم الله ابن الجوزي حين قال في قول الله عز وجل: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)﴾ (الرحمن) هذا والله توقيعٌ ليس فيه تزوير، لا يقبل المراجعة، ولا تجدي فيه الشفاعة.

 

فالموت لا يميز بين صغير وكبير، ولا صحيح وسقيم، ولا غني وفقير، ولا أمير ووزير وغفير، ولا عالم ولا جاهل، ولا بر ولا فاجر ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4)﴾ (نوح).

 

رحم الله العلامة الشهير والشاعر المجود القدير والواعظ الناصح البصير أبا إسحاق الألبيري، حين قال مذكرًا ابنه أبا بكر بأن الموت لا يفرق بين صغير وكبير، في قصيدته الشهيرة التي حثَّ فيها ابنه على طلب العلم والاشتغال به والتي مطلعها:

تنام الدهر ويحك في غطيط          بها حتى إذا مت انتبهتا

فكم ذا أنت مخدوع وحتى           متى لا ترعوي عنها وحتى

أبا عقل دعوتك لو أجبت            إلى ما فيه حظك لو عقلتا

إلى علم تكون به إمامًا              مطاعًا إن نهيت وإن أمرتا

 

إلى أن قال:

ولا تقل: الصبا فيه امتهال             وفكر كم صغير قد دفنتا

 

وقال مذكرًا نفسه على لسان ابنه:

تقطعني على التفريط لومًا         وبالتفريط دهرك قد قطعتا

وفي صغري تخوفني المنايا        وما تدري بحالك حيث شبتا

وكنت مع الصبا أهدى سبيلاً        فما لك بعد شيبك قد نكثتا

وناداك الكتاب فلم تجبه           ونبهك المشيب فما انتبهتا

ونفسك ذم لا تذمم سواها         لعيب فهي أجدر من ذممتا

 

الأمراض المهلكة التي تحول بيننا وبين تذكر الموت والاستعداد له؛ هي أمراض القلوب المعنوية: حب الدنيا، وطول الأمل، والغفلة، وكراهية الموت، وذلك لأن كثيرًا منا إيمانه بالموت إيمان نظري شبيه بالشك، كما قال الخليفة الراشد والعبد الصالح عمر بن عبد العزيز:

لم أر يقينًا أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق، ولكن لا يعملون له" أو كما قال.

 

إذا أردت الخلاص من هذه الأدواء المضلة المذلة، فعليك بوصية رسولك صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ حيث قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

 

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".

 

قال النووي يرحمه الله: "قالوا في شرح هذا الحديث، معناه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها إلا بالصالحات، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.

 

هذا هو الداء المانع من ذكر الموت والاستعداد له: حب الدنيا وطول الأمل ينتج منه كراهية الموت، وهذا هو الدواء التقلل من الدنيا، والعزوف عنها، المؤدي إلى الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له.

 

ثم يقولون ألا وإن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحبها يموت؛ فلا يغرنكم إقبالها من معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها؛ أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، أقاموا فيها أيامًا يسيرة غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم والله كانوا في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعها، ما صنع التراب بأيديهم والرمل بأجسادهم  والديدان بعظامهم أوصالهم؟ كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة وفرش منضدة بين خدم يخدمون وأهل يكرمون وجند يعضدون، فإذا مررت فنادهم أن كنت مناديًا، وادعهم إن كنت داعيًا، مر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون، وعن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع به الديدان؟

 

أمحت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، وقُبحت المحاسن، وكُسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء؛ فأين حجالهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم ومكنوزهم؟ والله ما زادهم فراشًا ولا وضعوا هنالك متكأً، ولا غرسوا لهم شجرًا، ولا أنزلوهم من اللحد قرارًا، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات؟ أليس عليهم الليل والنهار سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة فكم من ناعم وناعمة تركوا القصور والأموال والمناصب والتيجان إلى القبور والديدان؛ فهل ترك الطامع طمعه والظالم ظلمه أم ظل في لهوه وبغيه إلى أن يلقى مصيره وحتفه نسأل الله جزاء المحسنين وثواب المتقين آمين... آمين.

------------

* [email protected]