اختلاف وجهات النظر وتعارض المصالح، بل الصراع بين البشر من سنن الله في خلقه، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود)، وهو القائل سبحانه: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ﴾ (البقرة: من الآية 251).

 

ولا سبيلَ لحسم الخلافات إلا بواحدةٍ من اثنتين لا ثالثَ لهما؛ قمع القوة أو نصفة القضاء، وفي ظل منطق القوة لا يأمن الإنسان على نفسه ولا عرضه ولا ماله، فيعيش عيشةَ الضواري يقتنص فريسته ولا يأمن أن يستبقي منها شيئًا، ولا يزرع لأن الحصاد للأقوى، ولا يبني لأنه لا يضمن السكنى، بل يخاف من الاستقرار في مكان.

 

ويوم هدى الله الناس إلى الحقِّ بإذنه- واختار خصمان ألا يتقاتلا، وفضلا أن يحتكما إلى ثالثٍ، ولم يجدا في نفسيهما حرجًا من الخضوع لحكم القضاء رغم قوتهما.. في هذا اليوم بدأت مسيرة الحضارة- عرف الإنسان أن له حقوقًا يصونها القضاء فاطمأنَّ إلى ثمرة كده، فتعلَّم الرعي والزراعة والبناء.

 

في حمى القضاء نشأ القانون، وليس له من هدفٍ إلا تأمين الفرد على نفسه وماله وعرضه، ونشأت الدولة ضمانًا لحقِّ الأفراد في التقاضي ليكون الحق فوق القوة، يتنازل الأفراد للدولة عن حقهم في استعمال القوة ويعهدون بها إلى نفرٍ منهم هم حكامهم، لا لكي يستعملوا القوة على هواهم كشأنٍ من شئونهم وإنما ليحتفظوا بقوة الجماعة كلها كوديعةٍ لديهم يسخرونها نيابةً عن الأفراد في ضمان سيادة قانون الجماعة وتحت رقابة قضائها.

 

وتتجمع أسباب القوة لدى سلطة الدولة، فتنسى سبب وجودها وتتسلَّط، ويدرك الناس أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فيسعون إلى تقييدها عن طريق تقسيم سلطات الدولة، ويعهدون إلى القضاء برقابة احترام السلطة التنفيذية للقانون الذي تُسنه السلطة التشريعية وبرقابة احترامهما معًا للدستور؛ لعل هذا التوازن بين السلطات يحمي حقوقهم، ثم يكتشف الناس أن الفصل بين السلطات ليس ضمانًا كافيًا، فالنازية والفاشية وأشباههما قد نشأت في حمى الديمقراطية، وفي ظلِّ مبدأ الفصل بين السلطات فعصف بحقوق الإنسان.

 

وتطوَّر الفكر القانوني إلى أن الدولة بجميع مؤسساتها لا تستطيع خلق القانون، وإنما هي تتكشفه، فالقانون الطبيعي ومبادئ العدالة أمر مستقر في فطرة الناس، ويعلو على إرادتهم العابرة، ولا تملك سلطة التشريع مخالفة هذه القواعد العليا، وإنما تنحصر مهمتها في صياغتها والتعبير عنها دون أن تملك الخروج عليها.

 

وينتهي الفكر الحديث إلى أن سلطة القضاء يجب أن تتسع لمراقبة مشروعية الدستور نفسه، وألا يخضع حق الفرد في التقاضي لأي قيد، وحقٌّ للبشرية أن ترى في كفالة حق التقاضي أقوى ضمانات حقوق الإنسان وحماية حرماته ضد بطش القوة، سواء أكان مصدر هذا البطش دكتاتورية السلطة في النظم الشمولية أو شطط الأغلبية في النظم الديمقراطية.

 

وهكذا كانت كفالة حق التقاضي أبعد أثرًا في حماية حقوق الإنسان وحرياته من حرية الصحافة وتشكيل الأحزاب؛ فقدرتها على التأثير تأتي من خلال الرأي العام الذي يصعب أن يكون له أثر في مجتمعات العالم الثالث، فضلاً عن العجز المتزايد في قدرة الأفراد على حشد الرأي العام أصلاً في هذه المجتمعات.

 

أما تمكين الفرد من التقاضي فإنه يعني أن يلوذ بالقاضي ليطلب منه عن طريق الشكوى أن يقاوم انحرافًا للقوة أو عن طريق الدعوى أن يرد إليه حقًّا سلبته، وليتساوى مع خصمه في ساحة المحكمة؛ حيث يمكن عزل آثار القوة جميعها سواء كانت مالاً أو سلاحًا أو ضغطًا للرأي العام، وحيث يستطيع القاضي أن يُسخِّر قوة الدولة في حماية الحق.

 

ومن هنا تلتقي البشرية على ميثاقٍٍ بإعلان مبادئ حقوق الإنسان تستلهم فيه قواعد القانون الطبيعي ومبادئ العدالة، وتجعل له مكانةً فوق دساتير الأمم، وتسعى بين الحين والحين إلى توسيع نطاقه، ولا تجد سبيلاً لتطبيقه إلا أن تُقيم محاكم دولية يجوز للأفراد أن يخاصموا فيها دولهم بكل مؤسساتها ودساتيرها وقوانينها، وبات أمل البشر معلقًا على أن يتسع اختصاص هذه المحاكم ليشمل كل الأفراد وكل الدول لتخضع القوة دائمًا للحق؛ فيسود السلام الذي لن يقوم إلا على العدل.

 

ذلك أنه ولئن كان الخلاف بين البشر من سنن الله في خلقه، إلا أن الخالق سبحانه قد فَطَرَ الناس أيضًا على حُبِّ العدل، فلا تطمئن نفوسهم إذا احتجب.

 

ولنتدبر عبرة التاريخ فلقد أُحرِقَتْ جان دارك ظُلمًا بقرارٍ من الكنيسة، فلم تهدأ نفوس الناس طوال قرنين حتى نصبتَّها الكنيسةُ نفسها قدسيةً.

 

وعلى الجانب الآخر دُفن كرومويل بمقابر العظماء في احتفالٍ عظيم من رعاياه فور وفاته، فلمَّا ذهب عنهم روع بطشه عادوا فنبشوا قبره وحاكموه ميتًا.

 

ولم تزل البشرية حتى اليوم تعبد محاكمة سقراط لعلها تُزيل عن نفسها وصمةَ إعدامه ظلمًا من آلاف السنين، وهكذا تظل البشرية قلقةً ما لم تظفر بالعدل الحقيقي الذي فُطرت عليه.

 

وإذا كانت تلك هي مسيرة الإنسان المظفرة بقيادة الغرب؛ وذلك منتهى سعيه فعلى الجانب الآخر نزل الروح الأمين منبهًا إلى أهمية العدل وكفالة حق التقاضي.. يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25).

 

والكتاب يدل على القانون، والميزان يدل على القضاء، وكلاهما أنزله الله من السماء، وأرسل الرسل ليقوم الناس بالعدل.

 

يقول ابن القيم- رحمه الله-: "إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريقٍٍ كان فثمَّ شرع الله ودينه".

 

ويقول الصادق الأمين: "لا قُدِّست أمةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع" (صحيح).

 

وتترى آيات الله وسنة نبيه تحصر مقاصد الشريعة في حماية حقوق الإنسان بحفظ دينه وعقله ونفسه وعرضه وماله، فللبشر كل البشر مؤمنهم وكافرهم حقوق، بل للكلب العقور.. وللحيوان حتى عند الذبح، وللشجر والحجر والنبات.

 

وتبني الشريعة أن سيادة القانون وحماية حقوق الأفراد هما أساس الحكم في الدولة، وهما السبب الوحيد لمشروعية السلطة.. "أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعةَ لي عليكم".

 

كما تؤكد الشريعة أن كفالة حق الأفراد في التقاضي هي رسالة الحاكم الأول؛ وذلك ليكون الحق دائمًا فوق القوة.. "ضعيفكم قوي حتى آخذ الحق له، وقويكم ضعيف حتى آخذ الحق منه"، والكل سواء أمام القاضي الطبيعي.. يفتقد أمير المؤمنين درعه وقت الحرب فيجده عند يهودي فلا يستولي عليه بدعوى أنه ملكه أو أنه لازم للمجهود الحربي، بل يقاضيه أمام قاضيه الطبيعي، وبالإجراءات المتبَّعة أمامه، فلا قانونَ استثنائي، ولا محكمة استثنائية، ثم يُغتال رئيس الدولة في زمن الفتنة الكبرى وعاصمته محاصرة والدولة تمر بأشد الظروف ضراوةً.. فلا يُعلن الطوارئ، بل لا يفوته وهو يحتضر أن يُوصي بقاتله فيقول: أحسنوا إساره- حبسه - فإن عشتُ فإني ولي دمي- أي إن شئتُ عفوتُ أو اقتصصتُ- وإن متُّ فضربةٌ كضربتي".. ذلك هو الدين القيم، فأيًّا ما كانت الظروف فلا ينبغي أن تُهدر الضمانات أو تُستباح الحرمات.

 

ويُبطل العز بن عبد السلام قاضي مصر قرارَ السلطان بفرض ضرائب لتمويل حرب المسلمين ضد التتار حتى تفرغ خزائن السلطان ويبيع ما في حوزته من جواهر، كما يقضي ببيع نائب رئيس الدولة بالمزاد في السوق نهارًا ويقبض ثمنه، ويخضع سلطان مصر لحكم القضاء.

 

ويلجأ كفار من سمرقند إلى قتيبة القاضي الطبيعي المختص فيحكم لهم على جيش المسلمين ببطلان الحرب؛ لأن الجيش اقتحم المدينة قبل أن يُخير أهلها بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، ويأمر القاضي بإطلاق أسراهم ويرد إليهم سلاحهم ويُعاد حكامهم إلى عروشهم، وبأن ينسحب جيش المسلمين وتخضع الدولة لحكم القضاء، فتردُّ مدينةً فتحتها بحدِّ السيف وتحرر شعبًا معاديًا من أخطاء جيش أمتها.

 

وهكذا وصل المسلمون بالشرع إلى ما تطمح البشرية أن تصل إليه بالعقل، وكان حتمًا أن يلتقي الشرع والعقل فمعجزته كتاب، وأول ما نزل منه "اقرأ"، وفيه العلم قرين الإيمان، والكفر جهل وجاهلية.

 

غير أن هذا لا يعني أن دار الإسلام صانت حق التقاضي في مختلف عصورها، فمنذ "صفين" انحسر نطاق تطبيق القانون عن أن ينظم طريقة اختيار الحاكم، ثم أعقب ذلك أن انفلت الحاكم نفسه من الخضوع لأحكام القضاء إلا برضاه، ثم أعقبته أسرته وحاشيته وجنده في شأن الدماء والجنايات، فالحكم فيها للخليفة بما يراه أنسب لسياسته، وتوالى الانتقاص من سلطان القضاء حتى حدثنا المقريزي عما يُسمَّى بقضاء الحجاب، وهم جند السلطان، يقفون بباب القاضي لا لحراسته أو تنفيذ أوامره، ولكن ليحجبوا الناس عن الوصول إلى القاضي، مغتصبين سلطةَ الفصل في بعض القضايا يحكمون فيها- كما يقول المقريزي- بأحكام السياسة لا بأحكام الشريعة، ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم.

 

ورغم هذه الفترات المظلمة فقد كان الاعتداء على حقِّ التقاضي في ظلِّ تطبيق الشريعة مما يسهل كفَّه فيتيسر رفعه؛ ذلك لأنه ينتقص من أطرافها ولكنه لا يتوصل إلى إفساد أحكامها، فصياغة القاعدة القانونية الشرعية تبعد عن يد الطاغية، فهو يستطيع أن يُعطِّل حكم القانون لكنه لا يستطيع أن يتدخل في صنع القاعدة القانونية؛ لأن مصدرها الكتاب والسنة، ثم اجتهاد القاضي، فمتى سقط سقط معه ما أحدثه من طغيان.

 

لكنَّ الداءَ المستحكم أن الاستعمارَ استدرجنا لنقتلع الشريعة من جذورها، واستبدل بها نظامًا قانونيًّا غرس في داخله قانون الطوارئ لا ليكون سبب فساده فحسب بل ليكون سببًا لإفساد طبائع شعبنا المستعمر، أما كيف يكون القانون، وهو في الأصل مستودع القيم وراعيها سببًا لإفساد الطبائع، وكيف قابله المصريون بفطرتهم وقت غرسه؟ وما آل إليه أمرهم بعد أن طالَ عليهم العهد به؟ فذلك ما يستوجب البيان فيما يلي.

 

أ- ويضرب الله الأمثال للناس:

* يحذرنا الله أن يطول بنا الخروج على القوانين الطبيعية فتفسد طبائعنا كشأن أهل سدوم استحدثوا فاحشةً ما سبقهم إليها أحدٌ من العالمين، لا شك أن بدايتها كانت فردية مستخزية، فلما تقادم عليهم العهد بها تشرَّبتها نفوسهم حتى نساؤهم، ففسدت طبائعهم فضاقوا بنبيهم حين دعاهم إلى العودة إلى فطرةِ الله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)﴾ (الأعراف)، فالطهر جريمة تهدد استقرار المجتمع وأمنه، وجزاؤها النفي؛ ذلك رأي أهل سدوم حتى نسائهم بمَن فيهم زوجة لوط عليه السلام.

 

* فساد الطبائع إثم بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته الأبرار المعتمرين بإيمانهم وتجردهم وطهرهم حين قال: "كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر. قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون. قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا. قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون".

 

* وهكذا شأن كل استثناء يُولد مستخزيًا ثم يستغلظ، فحتى أواخر العشرينيات لم يستطع الاستثناء أن يقترب من ساحة العدالة، بل كانت جميع القضايا على تفاوت أهميتها تتساوى عند سلطات التحقيق والاتهام، وتُعرض في دورها أمام محكمتها العادية، ويوم أن أبدت النيابة اهتمامًا بإحدى القضايا السياسية حدثنا المحامي الكبير الراحل مكرم عبيد عن خوف الناس من اختلال التوازن القانوني للقضايا قبل أن تصل إلى ساحة المحاكم فقال: من طبيعة الاستثناء أنه لا يعرف حدًّا؛ لأنه لا يعرف قاعدة، بل هو ضد كل قاعدة، ولا يعبأ بعدلٍ أو مساواة لأنه لا مساواة مع استثناء، ولا يخضع لضمان؛ لأنه لا يرى ضمانًا إلا في هدم الضمانات، ثم إن الاستثناء هو الفكاك من كل قيد، ومن سوء حظ البشرية أن هناك نفوسًا إن لم تُكبح تجمح، وإذا لم ترعوِ لا تستحي، وهناك نفوس تجزع ونفوس تطمع، وهكذا.. فالاستثناء مهما تلطفنا في تسميته هو الظلم بعينه؛ لأنه يفتح الباب لكل شهوة، ويتنافى مع كل مساواة، ولهذا قلت إن الناس قلقوا وأوجست نفوسهم خيفةً؛ لأن كل ظلم مهما كان فرديًّا فهو ظلمٌ مزدوج، ظلم واقع على الفرد وظلم يُهدد المجموع، فهو إذن فعل وتهديد وواقعة وسابقة.

 

* وهكذا خاف الأستاذ مكرم عبيد أن يختل التوازن القانوني في القضايا قبل أن تصل إلى حرم القضاء، فيجر إلى إجراءات استثنائية في مرحلةِ الاتهام والتحقيق، فإذا بالاستثناء يتغوَّل فلا يكتفي بالوصول إلى حرم القضاء فيشوه إجراءات المحاكمة، بل يلاحظ ذلك إلى العبث بتشكيل المحاكم نفسها، ثم يصل إلى تعطيل تنفيذ الأحكام، وباتت العدالة تختنق تحت ركام الاستثناء.

 

كان الاستثناء هاجسًا ثم أصبح واقعًا، ثم فقدنا القدرة على دفعه، وغدًا نفقد الرغبة في دفعه، ثم نفقد القدرة على تمييزه، ثم يصبح عقيدة لنا نلعن مَن يخالفها.. "إنهم أناس يتطهرون"، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حذَّرنا من زمانٍ نأمر فيه بالمنكر وننهى عن المعروف.

 

ب- قانون الطوارئ وفساد المنبت:

* كالشأن في كل الفواحش، ومثل أبناء السفاح خجل الإنجليز أن يُنسب إليهم غرس قانون الطوارئ في مصر، فسماه الجنرال ماكسويل قائد قوات الاحتلال يوم فرضه على مصر لأول مرة في 2/11/1914م بالأحكام العرفية.

 

وكان هذا الاسم ذاته هو الذي اختاره الإنجليز حين اشترطوا إصدار قانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1923م لموافقتهم على أن تنعم مصر بدستور 1923م.

 

* ثم كان ذلك شرطهم لسحب قواتهم من داخل البلاد إلى منطقة القناة، فنصَّ البد السادس من معاهدة 1936م على أن من حقِّ إنجلترا إلزام الحكومة المصرية بإعلان الأحكام العرفية، وهكذا سمَّى الإنجليز قانون الطوارئ الذي فرضوه على المصريين كرهًا بـ"الأحكام العرفية" تنصلاً من نسبته إلى إنجلترا.

 

* والعرف هو ما اعتاده الناس في تعاملهم، واستقامت عليه أمورهم، والأحكام العرفية هي القواعد التي تواتر الناس على احترامها بمحضِّ اختيارهم وبمعزلٍ عن تدخل السلطة العامة لإيمانهم بأن فيها صلاحهم.

 

* فكأنما يقول لنا الإنجليز ليست هذه الأحكام من صنعنا، وإنما في فطرة سكان مصر المحليين، فأنتم لستم مثلنا من البشر وإنما مجرد أهالي محليين (NATIVES) لا يضبط سلوككم غير السوط والعصا.

 

ولا ينبغي أن تكون لكم ضمانات في مواجهة السلطة التي تحكمكم، بل تتحكم في مصائركم، فالضمانات حق البشر، أما أنتم فغير ذلك تمامًا، كما قالها الفرنسيون يوم عذَّبوا سليمان الحلبي، وبرروا ذلك بأن قالوا "عذبناه كعادةِ أهل البلاد".

 

وهكذا تنصل الإنجليز من هذه الفاحشة بأن نسبوها إلى أعرافنا، وحين بدأت السلطات المصرية في تطبيق قانون الطوارئ لأول مرة إعمالاً للبند السادس من معاهدة 1936م تنصَّلت الحكومة منه بدورها، فبناءً على طلب المستعمر في 19/1939م، وبمناسبة الحرب العالمية الثانية قدَّم ممثل الحكومة المصرية مرسومَ إعلان الطوارئ إلى البرلمان معتذرًا عن ارتكاب الحكومة هذه الفاحشة، فقال: إن قانون المعاهدة أراد أن يثبت نظامًا خاصًّا لا شبيهَ له في أي بلدٍ من البلاد، وهو نظام الأحكام العرفية يوصف أنه مساعدة أو تسهيل لحليفٍ- يقصد المستعمر- وبهذا لا يرد على الأحكام العرفية صورة إصدار قرار بالاستمرار أو بالإلغاء تبعًا لاعتبارات ذاتية لمصر، وإنما تقوم وتسقط بقدر ما يتعلق بها شرط الطلب أو العدول من جانب الحكومة الإنجليزية؛ تنفيذًا لأحكام قانون المعاهدة، فالحكومة تعتذر بأنها مغلوبةٌ على أمرها إذا أُكرهت على ارتكاب هذه الفاحشة رضوخًا لإرادةِ المستعمر وتنفيذًا للمعاهدة.

 

* وحين عُرِضَ الأمر على مجلس الشيوخ شكَّل لجنةً فقالت في تقريرها: إن هذا القانون يتناول موضوعات شتى وضع لها أحكامًا استثنائية تخالف الدستور، وتغلب القواعد العامة للتشريع، ففي نصوصه ما لا يحرم الأفراد من حريتهم الشخصية، وما ينتهك حرية الملك وما يعطيه للحاكم من حقٍّ مطلقٍ في تفتيش منزل مَن شاء في الوقت الذي يشاء ليلاً أو نهارًا، وما يُبيح له من الاستيلاء كرهًا على أدوات النقل، وأن يقطع بمشيئته كل أسباب المواصلات، وما يُبيح له من أن يفرض الرقابة الكاملة على الصحف والتواصلات التليفونية والخطابات، وأجازت له أن يتخذ في ذلك كل إجراء، وأن يبرز أمره في كل سبيل، فله أن يصدره بطريق الكتابة أو بطريقةٍ شفوية، وله أن يعاقب مَن يخالف أوامره بعقوباتٍ تصل إلى السجن 8 سنوات، وتلك المخالفات تنظرها محاكم عسكرية.

 

وأكثر من ذلك فإن هذا القانون جعل أحكام تلك المحاكم نهائية لا معقبَ عليها، وهي سلطة هائلة لا يحدها قانون، ولا يُقيدها قيد اللهم إلا مشيئة الحاكم، ونسارع إلى القول إننا لم نجد لهذا القانون في شرائع الدول الديمقراطية الأخرى مثيلاً.

 

ج- قانون الطوارئ سوء في الطوية

* لماذا يفرض المستعمرون الإنجليز على مصر قانونًا يتبرءون من نسبته إليهم، وتقول عنه الحكومة المصرية إنه لا شبيه له في بلاد العالم، وإنه يساعد ويُسهِّل مهمة المستعمر، ويلعنه برلمان مصر؛ لأنه يطلق سلطة الحاكم فلا يقيدها قانون؟! لماذا يحرص الإنجليز على فرضه إذن؟!!

 

يعلم المستعمرون قبل سواهم أن بقاء الاستعمار ليس مرهونًا بقوة المستعمر، وإنما هو مرهون بعجز شعوب المستعمرات وتخلُّفها وانحلالها وضعف انتمائها لأوطانها، وأن كرامة الوطن انعكاس طبيعي لكرامة المواطن، ذلك أن الفردَ هو حجر الأساس في بناء الوطن، وبقيمة الفرد وبعمله وبكرامته في وطنه تكون مكانة الوطن وقوته وهيبته.

 

وهم يعلمون كذلك أن مهمة القانون الأساسية هي ضمان حرية الأفراد وحرماتهم ورعاية كرامتهم والتعبير عن آمالهم في العدل والحرية، ومن ثَمَّ فيتعين أن تتولى الأمة بنفسها وضع قوانينها، وهم يعلمون أن القضاء هو الأمين على حرية الأفراد هو ضمانهم الأخير، ومن ثم ينبغي أن يعلو قدره فوق ما عداه من سلطات الدولة، وهم القائلون إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولأنهم يريدون الفساد كان حرصهم على إصدار قانون الأحكام العرفية لتكون سلطة الحاكم على شعبه مطلقة، فتكون إرادته هي القانون، ولو من خلال برلمان مصطنع، وليكون القضاء تحت سيطرته ليحكم بما يهوى.

 

ذلك أنه كلما ازداد الحاكم طغيانًا وبطشًا بشعبه في الداخل كان ذلك صدًى لازدياد ذله وخضوعه لأعداء وطنه في الخارج، وهكذا تزداد البلاد عجزًا وتخلفًا وانحلالاً أو قابليةً للاستعمار، فلا يرى الأفراد قي استقلال الوطن كرامة لهم، وتسمع مَن يرى بطش حاكم من صلبه أشد وطأةً من بطش المستعمر، ولنتدبر دلالة ما قاله أشهر علماء الدين في أيامنا، وعبر أجهزة الإعلام الرسمية من أنه فرح بهزيمة الوطن أمام إسرائيل سنة 1967م خوفًا من ازدياد بطش حكامنا، ولنتدبر أن الاحتلال لم يبدأ إلا بعد أن نجحت ثورة عرابي واستصدرت دستورًا يجعل للإفراد ضمانات في مواجهة حاكمهم، وقال المستعمرون كذبًا بأنهم جاءوا ليعلمونا الديمقراطية، وهكذا بدأ كفاح شعب مصر طلبًا للاستقلال والدستور معًا.

 

يقول مصفى كامل سنة 1906 مؤسس الحزب الوطني: "إننا لا نقبل مطلقًا السلطة الشخصية والحكم المطلق؛ لأن الشعبَ لا يصح أن يكون قطعيًا يملكه واحد، أما مقاليد الحكم فيجب أن تُترك لرجالٍ من الأمة أكفاء قادرين وتحت مراقبة الأمة نفسها، وعلى ذلك فنحن نطلب أن تُمنح مصر دستورًا".

 

وهو القائل: "نحن نرى من العار والخيانة عدم المطالبة بالجلاء، ونحن نرى من الجبن ومن الموت عدم المطالبة بالدستور"، ويجعل عنوان مقاله "الجلاء والدستور".

 

* ثم يحمل محمد فريد لواءَ الدعوة ويقول: إن مطالب مصر تنحصر في كلمتين "الجلاء والدستور"، ويدعو الشعب إلى أن يسير كرجلٍ واحدٍ إلى فتح قلعة الحرية وامتلاك أبراجها وتحصينها بالنظام النيابي الدستوري، حتى لا يمكن إخراجنا منها ثانيًا، ويقول: "لا تسرع في طلب الدستور؛ ذلك الحق الطبيعي الذي منحه الخالق لكل أمةٍ مهما كانت درجة رقيها".

 

* ويدرك مبكرًا سوء طوية المستعمر فيقول: "إننا نجاهد لنسترد مكانتنا، ونحصل على دستورنا الذي قضى عليه الإنجليز سنة 1882م بدعوى أن يعلمونا كيف نحكم أنفسنا بأنفسنا، ولا بد أن ننال ذلك الدستور".

 

ويفضح في أوائل القرن الإنجليز فيقول: أتعرفون كيف بدأت إنجلترا الإصلاحات الضرورية لإعطائنا حكومةً ثابتةَ الدعائم شبيهةً بالحكومات الأوروبية، إنها ألغت النظام الدستوري الذي منحه لنا الخديوي توفيق".

 

* وعلى الجانب الآخر كان المعتمد البريطاني الدوق جون جورست سنة 1908م يعلن أن شعب مر ليس أهلاً للتمتع بالحقوق الدستورية، وأن الديمقراطية ينبغي أن تعطي له جرعة، وإلا ضاع الاستقرار فيقول: إذا كان الهدف من هذه الصيحة في طلب الدستور إنشاء حكومة نيابية بإطلاق المعنى كما هو الحال في إنجلترا وفي بلدان أخرى أوروبية فليس عندي على ذلك إلا جواب واحد هو أن الشروط اللازمة لإرادة البلاد بموجب نظام مثل هذا النظام غير متوافرة الآن، إن إدخال النظم النيابية إلى البلاد قبل أن يجيء أوانها يؤدي لا محالةَ إلى رد فعل يذهب بآمال الذين يتمنون مثلي مجيء ذلك اليوم بأسرع ما يمكن مع حفظ الفوائد المكتسبة.

 

* هكذا كان الحوار بين الحزب الوطني بلسان عميديه وبين المحتل فكان طبيعيًّا أن يشترط الإنجليز إصدار قانون الأحكام العرفية لموافقتهم على الدستور، وكان طبيعيًّا أن نرفض- شعبًا وحكومةً- أن يكون من بين قوانينها مثل هذا القانون.

 

د- جلاء المستعمر وتمصير شراسته:

* يمضي الزمان وتقوم الثورة فتقول إن هدفها إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وتمتلئ شوارع مصر بصور أبنائها الجنود يحملون السلاح، وقد سُطِّر أسفل الصورة "نحن نحمي الدستور"، ويرحل المستعمر ويصدر دستورنا الدائم تقول مقدمته: "نحن جماهير شعب مصر تصميمًا ويقينًا وإيمانًا وإدراكًا لكل مسئولياتنا الوطنية والقومية والدولية وعرفانًا بحقِّ الله ورسالاته وبحق الوطن والأمة وبحق المبدأ والمسئولية الإنسانية، وباسم الله وبعون الله نُعلن في هذا اليوم الحادي عشر من سبتمبر سنة 1971م أننا نقبل ونمنح لأنفسنا هذا الدستور، مؤكدين عزمنا الأكيد على الدفاع عنه وعلى حمايته، وعلى تأكيد احترامه، نحن جماهير شعب مصر باسم الله وبعون الله نلتزم إلى غير ما حد ودون قيدٍ أو شرط أن نبذل كل الجهود لنحقق الحرية لإنسانية المصري عن إدراكٍ لحقيقة أن إنسانية الإنسان وعزته هي الشعاع الذي هدى ووجَّه خط سير التطور الهائل الذي قطعته البشرية نحو مثلها الأعلى.. إن كرامة الفرد انعكاس طبيعي لكرامة الوطني؛ ذلك أن الفرد هو حجر الأساس في بناء الوطني، وبقيمة الفرد وبعمله وبكرامته تكون مكانة الوطن وهيبته، إن سيادة القانون ليست ضمانًا مطلوبًا لحرية الفرد فحسب، لكنها الأساس الوحيد لمشروعية السلطة.

 

* وتتدفق نصوص الدستور تُشرق فيها هذه المعاني، فتنص المادة 41 على أن الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمس، وتشترط لتقييد الحرية أن يصدر بها أمرٌ من القاضي المختص أو النيابة العامة، وأن تستلزمه ضرورة التحقيق، وتنص المادة 42 على أن من قُبض عليه تكون معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان، وتنساب نصوص الدستور تُبيِّن أن للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها (المادة 44)، وأن لحياة المواطنين الخاصة حرمة (المادة 45)، وللمراسلات حرمة، وللملكية الخاصة حرمة، والصحافة حرة، ثم إن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، وتخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحصانته ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، والقضاة مستقلون، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة.

 

ويمضي الدستور يُوزِّع سلطات الدولة بين سلطاتٍ ثلاث؛ السلطة في الدستور ليست تسلطًا، فالحكم ليس شأنًا من شئون مَن يتولاه ليباشرها على هواه، بل وظيفة يؤديها مَن كُلِّف بها لحساب مواطنيه مقيدًا بالحدود التي رسموها له في قوانين تابعة من ضمائرهم سنَّتها سلطة تشريعية مستقلة فبات الحاكم منفذًا للقانون وليس صانعًا له، وهو لا يستطيع أن يمس حرية أحدٍ من المواطنين ولا أمواله، وإنما عهد الدستور بذلك وفي الحدود اللازمة لاحترام كرامة الإنسان وإنسانيته إلى قضاءٍ طبيعي محصن يستطيع الناس أن يحاسبوا حكامهم أمامه فيخضعون لأحكامه، ولا يجدون في أنفسهم حرجًا، فمصر باتت مستقلةً تُحكَم بأبناء مصطفى كامل ومحمد فريد وحزبهما الوطني.

 

لكننا نخدع أنفسنا لو توهمنا أن تلك النصوص جاوزت أن تكون أحاديث نتلهى بترديدها في مجالسنا لتشغلنا عن النبتة الشيطانية التي غرسها الاستعمار فصارت تنمو نموًا سرطانيًّا لتغتال كل فضائلنا.

 

تنص المادة الثالثة من القانون 162 لسنة 1985 بشأن حالة الطوارئ على أن لرئيس الجمهورية متى أُعلنت حالة الطوارئ أن يتخذ التدابير المناسبة- أي ما يراه- للمحافظة على الأمن والنظام، وله على وجه الخصوص وضع قيود على حرية الأشخاص كلهم في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور والقبض على المشتبه فيهم (وكل الناس يُشتبه فيهم) أو الخطرين على الأمن والنظام (وكل الناس خطر)، واعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية- أي على هواه-، والأمر بمراقبة الرسائل أيًّا كان نوعها والصحف والمطبوعات والمحررات والرسوم، وكافة رسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإغلاق أماكن طبعها، والاستيلاء على أي منقولٍ أو عقار، وإخلاء بعض المناطق أو عزلها.

 

ويمضي النص يُعدد ما يملكه الحاكم على وجه الخصوص- أو قل على سبيل المثال- ذلك أن النص بدأ بأن له أن يتخذ التدابير المناسبة، ثم عدد ذلك الهول، وانتهى البعض بأن لرئيس الجمهورية توسيع دائرة الحقوق المبينة في الفقرة السابقة.

 

ولا تحسبنَّ هذه السلطات مقصورةً على شخص رئيس الجمهورية، فهي وغيرها من الصلاحيات يمكن أن تُفوَّض لأي شخصٍ من رجاله (م 18)، وأوامر القائم على شئون الطوارئ تشريعات، وهو الذي يحدد عقوبة مخالفتها بحيث لا تزيد عن الأشغال الشاقة مدة 15 سنة (م5)، ويقدم المخالف إلى محكمة يأمر هو بتشكيلها من قاضٍ وضابطين (م7) أو من ثلاثة ضباط، وتتبع في هذه الحالة الإجراءات المنصوص عليها في قرار تشكيلها (م8)، ويجوز أن تختص هذه المحاكم بجرائم القانون العام (م9)، ولا يجوز لضحاياها أن يطعنوا على أحكامها (م12)، وإنما يجوز لرئيس الجمهورية أن يعفو أو يخفف أو يأمر بإعادة المحاكمة لمضاعفة العذاب، وهكذا فكل الحرمات صارت بذلك الإعلام وحده مستباحةً لا حرمةَ لحرية ولا لشخص ولا لمسكن ولا لرأي، وهكذا صارت كل السلطات في قبضة واحدة تنفيذًا وتشريعًا وقضاءً، وما غرسه الإنجليز كرهًا عنَّا لم نكتفِ بالمحافظة عليه بل طورناه.

 

* كان نص المادة الأولى من القانون 15 لسنة 1923 لا يجيز فرض الطوارئ إلا بسبب إغارة قوات العدو المسلحة؛ أي كان لا بد من وقوع غزو تُقتحم فيه أرض البلاد فصار نص المادة الأولى من القانون الحالي يجيز إعلان الطوارئ بسبب وقوع حرب حتى ولو لم يقع غزو أو قيام حالة تُهدد بوقوعها أي حتى ولم تنشب الحرب أصلاً، وليتنا تقيدنا بهذه الأسباب، بل باتت تُفرض متى شاء الحاكم (ولو جعلها مستديمة)!.

 

* وكانت قرارات سلطة الطوارئ تخضع لرقابة القضاء العادي فأصبح الطعن عليها من اختصاص محاكم أمن الدولة، وكان جزاء مخالفة قوانين الطوارئ السجن ثماني سنوات فصار الأشغال الشاقة المؤقتة لمدة 15 سنة.

 

* ولم يكن للحاكم سبيل على مَن برَّأته محاكم الطوارئ فبات من حقِّ ولي الأمر أن يأمر بإعادة محاكمته، وكان الاعتقال يُنفَّذ في سجون الأجانب ويُعامل بما يصون كرامة الإنسان فبات المعتقل يُقذف به في مقامع، ويُسام خسفًا تشمئز من هوله الوحوش.

 

هـ- تطبيع الطوارئ:

* يستشري الفساد في حياتنا القانونية كلها، فالسلطة هي التي تصنع القانون، وليس القانون هو الذي يصنع السلطة، فيُفرِّخ قانون الطوارئ أشباهًا له.

 

تقول المذكرة الإيضاحية لقانون الأحكام العسكرية 25 لسنة 1966م ما يبرر اغتصاب سلطة القضاء وتضييع ضمانات المواطنين (أصبحت القوات المسلحة جزءًا من الدولة يؤثر عليها ما يؤثر على الدولة، بل أضحت هي المسئولة عن أمن الدولة وحمايتها في كل المجالات).

 

أهذا منطق القانون أم منطق القوة؟! وهل هذه الحقوق جزء من أجزاء الدولة؟! وهل هذا مبرر لاغتصاب سلطة القضاء ومحاكمة المدنيين؟! وهل يطمع جيش غاز أن يفعل بأعدائه أكثر من ذلك؟!!.

 

* وينفس المنطق تصدر قوانين حماية القيم من العيب والاشتباه وإنشاء محاكم أمن الدولة، ومحكمة الثورة، وحماية الوحدة الوطنية، وحماية الجبهة الداخلية، والسلام الاجتماعي، ونظام الأحزاب السياسية، وغير ذلك كثير كلها خرج من ذات الجحر الذي خرج منه قانون الطوارئ، فلم يعد أحد يعرف ما إذا كان القانون ضمانًا لحريةٍ أم سيفا مصلتًا عليها.

 

وكلها يصطنع لقاء خاصًّا ليحول بين الناس وقاضيهم الطبيعي، ويبدد أمل الناس في العدل، ولتتعدد الموازين فيقاس كل أمرٍ بما أُريد له، وتضيع هيبة القضاء، فلا يعرف الناس ما إذا كان ملاذاً أم أداة بطش.

 

يقول أحد زعماء النهضة في الهند: "التاريخ شاهد على أنه كلما طغت القوات الحاكمة، ورفعت السلاح في وجه الحق والحرية كانت المحاكم آلاتٍ مسخرة بأيديها تفتك بها كيف تشاء، وليس هذا بعجيب فإن المحاكم تملك قوةً قضائيةً، وتلك القوة يمكن استعمالها في العدل والظلم على السواء، فهي في يد الحكومة العادلة أعظم وسيلة لإقامة العدل والحق، وبيد الحكومة الجائرة أفظع آلة للانتقام والجور ومقاومة الحق والإصلاح، والتاريخ يدلنا على أن قاعات المحاكم كانت مسارح للفظاعة والظلم بين ميادين القتال، فكما أريقت الدماء البريئة في ساحات الحروب حُوكمت النفوس الزكية في إيوانات المحاكم، فشُنقت وصُلبت وقُتلت وأُلقيت في غياهب السجون".

 

في مثل هذا المناخ تمرض العدالة بل تموت، وتشتبه السبل على الناس فيأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، يقول كبير إنه سيلزم خصومه بسيادة القانون، ويتمكَّن من ذلك، ويقول آخر: لكل جريمة وسيلة لمعالجتها، فهل يعامل ضابط الشرطة مرتكب جريمة قتل على أنه مواطن؟ أم أن الواجب والعرف والعدالة وفن التحقيق تقتضي أن تستعمل مع هذا المتهم شيئًا من الإهانة كصفعه على وجهه أو توجيه ألفاظ السباب إليه؟.

 

وكذا ضاع النص في القانون على أن التعذيب جناية، وضاع النص في الدستور على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأن يعامل بما يحفظ عليه كرامته، وبات التعذيب أمرًا يوجبه العرف والعدالة.

 

ويقول ثالث بصراحة: "إن الاعتقالات وسيلة للتغلب على إجراءات الإفراج، وإنه إذا وقع حادث من فردٍ أو فردين اعتقلنا 400 من أفراد الجماعة؛ لأن من بينهم مَن ارتكب الفعل أو كان ينوي ارتكابه"!!

 

ونقرأ في الصحف عن تسليم أحياء بكاملها بما يقتضيه ذلك من انتهاك حرمات عديدة واجتياح قرى وهدم منازل، وعن الضرب في سويداء القلب، وكل ذلك لا يسمح به حتى قانون الطوارئ ولا أشباهه، وتقصر يد العدالة أن تمتد إلى مرتكبي هذه الآثام؛ ذلك أن القوة صارت فوق الحق في هذا الزمان.

 

و- فساد الطبائع:

* استشرى فكر الطوارئ في نظامنا القانوني كله، فأُشربته نفوسنا، وطال عهدنا به فأفسد طبائعنا، وأرمد عيوننا، فلم نعد نرى ما فيه من عيوب لا تعد، ولو استعادت نفوسنا فطرتها لراعنا ما فيه من شذوذ.

 

أولاً: فالطوارئ ينظم أحكامها قرارٌ من رئيس الجمهورية بالقانون 162 لسنة 1958م، ولا يستقيم مع دستورنا الحالي أن يستمر تنظيم أحكام الطوارئ شأن كل القوانين العامة بحريات المواطنين بغير قرار صادر عن مجلس الشعب وليس قرارًا صادرًا عن رئيس الجمهورية، فقد نصت المادة 148 من الدستور على أن يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ، وعلى الوجه المبين بالقانون، ومعنى ذلك أن الدستور لم يشأ أن يترك سلطة رئيس الجمهورية مطلقة في إعلان حالة الطوارئ بل قيَّدها بقانون ينظم أحكامها، والقانون لن يكون قيدًا إلا إذا كان صادرًا عن السلطة التشريعية المختصة، فيمتنع على رئيس الجمهورية مهما كانت الظروف أن يصدر قرارًا بقانون ينظم أحكام الطوارئ، وإلا كان معنى نص الدستور هو أن يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه الذي يهواه وليس على الوجه المبين في القانون؛ وذلك هو ما ذهبت إليه محكمة النقض في شأن كل القوانين العامة بحريات المواطنين.

 

ثانيًا: ولو تجاوزنا عن هذا، وقلنا إن حق رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة القانون يتسع ليشمل تنظيم أحكام الطوارئ، فمما لا خلافَ عليه فقهًا وقضاءً أن سلطته في إصدار قرارات لها قوة القانون لا تكون إلا بناءً على تفويضٍ صادرٍ من مجلس الشعب أو لضرورة استوجبت اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، ولم تكن هناك ضرورة تستوجب أن يبادر رئيس الجمهورية لإصدار هذا القرار (المواد 53 من دستور 1958، 108 /147 من الدستور الحالي).

 

ثالثًا: ثم إن قرار رئيس الجمهورية بهذا القانون لم يعرض على مجلس الأمة فور انعقاده، ولا بعد ذلك، وقد حرصت دساتير مصر المتعاقبة على أن توجب عرض القرارات التي لها قوة القانون سواء استندت إلى تفويض أو ضرورة على المجلس النيابي في أول اجتماعٍ له نال لصدورها وإلا زال ما لها من قوة القانون اعتبارًا من التاريخ الذي كان يتعين عرضها فيه (المواد 53 من دستور سنة 1958، 108/ 147 من الدستور الحالي).

 

رابعًا: ثم إن صدور دستور سنة 1971م مضيفًا الحماية على الحرية الشخصية أن تمس، وعلى المساكن أن تُفتش إلا بأمرٍ قضائي (م41، م44).

 

ومانعًَا من التدخل في القضايا ولا في شئون العدالة (م 166) قد نُسخ (ألغي) ما يعارض ذلك من نصوص قانون الطوارئ الذي يبيح للسلطة اعتقال الأفراد وتفتيش المساكن وتشكيل المحاكم والاعتراض على أحكامها، فالدستور تشريع لاحق ينسخ ما قبله- والطوارئ على ما قالت المحكمة العليا- (وإن كانت نظامًا استثنائيًا إلا أنه يتعين أن تتفق أحكامه مع أحكام الدستور وإلا كانت غير مشروعة)، وإذا كانت محكمة النقض قد قضت بأن (صدور الدستور سنة 1971 قد نسخ نص المادة (47) من قانون الإجراءات الجنائية التي تخول لمأموري الضبط القضائي تفتيش مسكن المتهم في حالة التلبس بجناية أو جنحة) فلا يستقيم في فطرة البشر أن يضفي الدستور حمايةً على المتهم المتلبس بجناية ويُحرَم منها غير المتهم، إلا أن يكون قانون الطوارئ أعز وأمنع من قانون الإجراءات الجنائية!.

 

خامسًا: كما أن القرار بقانون 162 لسنة 1958 اشترط لقيام الطوارئ توافر إحدى حالات ثلاث (أ) وقوع حرب أو التهديد بوقوعها (ب) قيام اضطرابات تعجز الإدارة عن مواجهتها بالإجراءات المعتادة (ج) وقوع كوارث أو وباء، وأن يكون من شأن ذلك تعريض النظام للخطر.. وجميع هذه الحالات منتفية ولم يعد هناك مبرر لقيام الطوارئ إلا أن طبائعنا قد ألفتها.

 

سادسًا: ثم إن موافقة مجلس الشعب على مدِّ حالة الطوارئ بعد 30/4/1988م باطلة لصدورها من مجلس حُكِمَ ببطلان تشكيله، ولا يُغير من ذلك أن يكون نص المادة (93) من الدستور قد أعطى المجلس الحقَّ في الفصل في صحة عضوية أعضائه فلا يجوز تفسير نص في الدستور بمعزلٍ عن بقية نصوصه، خاصةً بعد إلغاء نظام الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي)، وتعديل الدستور بإدخال نظام الأحزاب بما يستوجب الالتزام الصارم من مجلس الشعب بكافةِ تحقيقات وآراء محكمة النقض في طعون صحة العضوية؛ لأن وجود الحزبية مانع من مواقع صلاحية المجلس للفصل في تلك الطعون، ولأن حجية كلمة محكمة النقض أنزلها الدستور والقضاء منزلة تعلو على كلمة المجلس طالما كانت تعلو كلمة القانون ذاته، وفي الأمر تفصيل لا يحتمله المقام.

 

ولكن يكفي أن وزن القانون خفَّ، وأن هيبةَ مجلس الشعب الذي يسنه وهيبة القضاء الذي يطبقه قد ضاعتا.

 

هكذا فسدت طبائعنا حتى باتت حالة الطوارئ تمتد أكثر من ثلاث سنوات دفعةً واحدة، ولا تتوقف للتقدير ما إذا كان الظرف الذي يستمر ثلاث سنوات يصلح أن يُسمَّى طارئًا، ولا يستشعر أعضاء مجلس الشعب ما في طلب مدِّ العمل بحالة الطوارئ لهذه المدة من استخفافٍ بهم وبالدستور معًا.. وإلا فلماذا لا يطلب التجديد سنويًّا؟

 

* هكذا فسدت طبائعنا فاستخفَّ بنا حكامنا حتى باتت مطالبة الحكام بتحقيق أحد مقاصد الأمة سببًا لعدم الاستجابة، ويتباهى حكامنا لو فعلوا ما يرضينا بأنه كان من تلقاءِ أنفسهم وليس استجابةً لمطالبنا، ويحرصون أن يؤكدوا لنا أنه لو سبقت مطالبتنا بهذا الأمر ما فعلوه كأن للحاكم مهمةً أخرى غير تحقيق مطالبنا، وكأنَّ الحاكم لا يستمد سلطانه من رضا شعبه عنه، (بل من رضا أعداءِ هذا الشعب).

 

* هكذا فسدت طبائعنا فأدمنَّا الطوارئ، وتعللنا بأنها تساعد على مكافحة المخدرات كأنَّ اعتقال المهربين استنادًا لقانون الطوارئ أردع لهم من عقابهم بالإعدام طبقًا لنصوص القانون العادي.

 

ونتناسى أنه لم يحدث أن انتشرت المخدرات في بلادنا مثلما انتشرت في ظل حالة الطوارئ.

 

* وأسوأ من أن تنقض الطوارئ قواعد الدستور والقانون قاعدةً قاعدةً، أن تتسمى باسم القانون لتلوث معناه.

 

فالقانون كلمة طيبة يُعبِّر بها الأفراد عن آمالهم ويحمون بها مقدساتهم، فتطمئن إليه نفوسهم، وتهفو إلى تطبيقه واحترامه، في حين أن تلك النصوص لا تعدو أن تكون دمدمة بطش ووعيد، وتسلط على رقاب الناس لإخافتهم فتمجها نفوسهم، وهكذا يُلبس الحق بالباطل، والخبيث بالطيب، فيفقد الناس احترامهم للقانون وما يحميه من قيمٍ فتفسد طبائعهم.

 

* كذلك يسلب الناس حق التقاضي، يُقبض عليهم وتُفتش منازلهم بأمر القائم على سلطة الطوارئ بغير إذنٍ من القضاء، ويُحرمون من التظلم إلى قاضيهم الطبيعي ويساقون إلى محاكم أمرت سلطة الطوارئ بتشكيلها ليعاقبوا على أفعالٍ انفردت في تجريمهها وتحديد العقوبة عليها- بإجراء قامت القوة بنسجها فإذا أفلت الأفراد من براثنها كان لسلطة الطوارئ أن تعترض على الأحكام (أو تعيد محاكمتهم) لتبدأ الدورة من جديد.

 

* وهكذا تشتبه المحاكم (التي يسعى إليها الناس طلبًا للعدل لتطمئن به نفوسهم بغيرها)، ويختلط البر بالفاجر، والظلم بالعدل وتفسد الطباع.

 

* ولا يجد الناس لغير القوة سلطانًا فتضيع كل القيم وتفسد الطبائع، فمن الناس من يخنع فيجاري جلاده، ويرى في النفاق ذكاءً وتطيب نفسه إلى ذلك، يستحب العيش في خوفٍ دائم وهم مقيم، وآخرون رأوا أنه لا عاصمَ من القوة إلا مثلها، فاستبدلوا الإرهاب بالحوار، وتشتبه السبل فتجد مَن يلتمس في الطوارئ علاجًا للإرهاب، وهي مصدر الداء، فلن يستقر حكم يجعل أساس ملكه (أمن بغير عدل).

 

* وييأس الناس من منطق الحق والعدل فتتعرى كل الفضائل، ويُظلم البريء، ويطلب صاحب الرأي فلا فيجد ناصرًا، ويسرق المنحرفون ويستبيحون الحرمات، ويقتلون من العقاب، فأسباب القوة قريبة من أيديهم، فتفشو الفاحشة إذ يندر أن تجد مَن يكدح، والسرقة أجزل عطاءً، ومن يبني والنصب أدنى ثمرة، ومن يغرس الفضائل في أبنائه ومجتمعه يسوده الكذب والنفاق، فتعمنا الأزمات وتتلمس في الطوارئ علاجًا لهذا، وننسى أن لجنة تحقيق الديون قالت لنا منذ قرن: إن الحكم المطلق- في ذلك الزمان- هو سبب أزمة مصر الاقتصادية، بل ننسى أن ربنا ليس بظلام للعبيد، وأنه توعَّد قومًا ضاع الحق بينهم، ووعد الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أن لهم الأمن، والحمد لله رب العالمين.

-----------

* المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض.