جاء في الحديث الصحيح: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه".

 

طريق طويل:

يقول الأخ الشافعي بدر من الدقهلية: إنه في أبريل 1947م كان الأستاذ البنا- رحمه الله- بمستشفى الروضة بسبب إجراء عملية بسيطة له، وحضرتُ خصيصًا لزيارته، وذهبتُ إلى المستشفى في الأتوبيس وكنت أرتدي عباءة، وفي الأتوبيس وجدت منظرًا خُلقيًّا أثارني، وكدت أشتبك في معركةٍ مع مرتكبيه، ولكن تركتهم وأنا ساخطٌ على الأوضاع، وانصرفت إلى تفكير عميق في أمر الدعوة التي نحملها، ومتى سنصلح كل هذا الفساد؟ وكيف؟ وكم من الأجيال أو الزمن الطويل نحتاج إليه؟

 

ويقول: وسرت في الطريق حزينًا، وقابلت الأستاذ وأنا على هذه الحال، فلم تخف عليه حالتي؛ فسألني: ماذا بك؟ فلم أجبه بصراحة، وبعد قليل كرَّر السؤال، فذكرت له كل ما حدث في الطريق، وكل ما مر بخاطري بعد الحادث، وقلت له: متى نصلح كل هذا، وكل الذي يدور في المجتمع؟ وكيف نوقف عجلته؟

 

فابتسم رحمه الله، وقال: نعم إن الطريق طويل ولها أعباؤها، ولكن مفتاح المسألة بين يدي اليأس والأمل، والأمل واليأس هما المفتاح: الأول يفتح الباب أمام المؤمن المجاهد فيمضي في الطريق، والثاني يقفله، فلا يمضي إلى الغاية أحد، وإن هذه الأفكار والتساؤلات هي مبادئ المرض، مرض اليأس فاحذروه.

 

ونأخذ المثل الحي للأمل المشرق الذي أشار إليه الإمام من سيرة الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، ولعل من خير ما نوضح به هذا المعنى ما كان منه عليه الصلاة والسلام في العام الحادي عشر لبعثته؛ فقد خرج في هذا العام إلى وفود العرب، وقد حضرت إلى مكة في موسم الحج، يدعوهم إلى الله، وأخذ يطوف بالخيام ومضارب الحجيج طوال أيام الحج، فهو صلى الله عليه وسلم يغشى المجالس، ويعترض القادمين يعرض نفسه عليهم، فلم يظفر من أحد باستجابة.

 

وها هو موسم الحج قد أوشك على الانتهاء، وبدأ الحجاج يرحلون من مكة، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغ الخمسين من العمر ماضٍ في طريقه، وبينما هو عائد رأى ستة من أهل يثرب يتحللون ويستعدون للرحيل، فجلس إليهم.

 

عن عاصم بن عامر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "من أنتم؟" قالوا: نفر من الخزرج. قال صلى الله عليه وسلم: "أمن موالي يهود؟" قالوا: نعم، قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟" قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.

 

تبارك الله رب العالمين، لقد كان هؤلاء النفر أهل العقبة الأولى ونواة الأنصار بالمدينة، ومفتاح العهد الجديد الذي استقبله الإسلام، بعد الهجرة الكبرى. (من كتاب تذكرة الدعاة للأستاذ البهي الخولي).

 

والفارق كبير جدًّا بين الواقع الآن والواقع الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالآن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمون موحدون، وربما كان بينهم من هو أفضل منا وأغير على الإسلام وعلى حرمات الله أكثر منا، وهم على استعداد للعمل لهذا الدين لولا العوائق والموانع، الآن توجد الصحوة الإسلامية التي تبشِّر بكل خير، ويوجد العلماء الفضلاء، وهم أغير منا على هذا الحق، ومستعدون دائمًا للتضحية في سبيل الله، ولا يهم أن نعرفهم، فالحق تبارك وتعالى يعرفهم، وكان الإمام البنا رحمه الله يدعوهم في كل عام إلى حفل يقيمه لهم، يتبادل فيه معهم الآمال والآلام يشاركهم ويشاركونه، وهم أصحاب غيرة على حرمات الله، وكان يقول لهم: أنتم الضباط ونحن الجنود، ائتوني بألفٍ من علماء الأزهر، يحفظون القرآن، ويعملون به ويفقهون السنة، ويطبقونها، وأعطي كل واحد من هؤلاء ألفًا من الإخوان يقودهم في سبيل الله، هذه ألف ألف لو أوتيتها لفتحت الدنيا، رضي الله عنه وأرضاه، يحيي الأمل ويجدد الثقة، وينمي الإيمان في القلوب.

 

وهناك اليوم المرأة المسلمة، المحجبة والمنتقبة، وهذا دليل على أن بنات أسماء والسيدة عائشة وأحفاد السيدة أم سلمة بحمد الله يثبتن أن المرأة المسلمة بخير، وأنها تذود عن دينها بعد أن التزمت به، وهناك من الأعلام المسلمة الكثير فأمتنا بخير، يملئون المساجد، ويتلون القرآن، ويحتاجون إلى مَن يحسن تذكيرهم، ويضع يده في أيديهم، ويبشرهم برحمة من الله وفضل، وقد قال الله عز وجل في رواد المساجد وأمثالهم: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)﴾ (النور).

 

وهناك من يتحرقون شوقًا إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى البذل والعطاء، والتضحية والفداء، وأحب أن أؤكد أن مهمتنا سهلة وميسرة إن شاء الله؛ لأن الخامة موجودة، والإيمان موجود بحمد الله في هذه الأمة.

 

وهناك الشباب المؤمن النظيف العفيف الذي لا همَّ له إلا نصرة هذا الحق، ورفع أمر هذا الدين، وإعلاء هذه الراية، لا تخلو منهم بحمد الله قرية ولا مدينة.

 

فكيف لا يكون الأمل والثقة في وعد الله، يقول الإمام البنا مؤكدًا هذه المعاني: "إننا ينبغي أن نعيش دائمًا، ونحيا على الأمل، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وإننا والحمد لله مؤمنون فوجب أن نعيش على الأمل في الله بهذا الإيمان، فما كان الله ليضيع هذا الإيمان، ومهما كان الإسلام في محنة، ومهما اشتدت به المحن، ومهما تكاثرت عليه، فإننا آملون في الله خيرًا، ومن أحق بالأمل عند الله من رواد الإيمان، الذين اهتدوا بهدى السماء، وبنور محمد صلى الله عليه وسلم".

 

وهل يسيء الزارع ظنه بأرضه الخصبة التي قامت كل الشواهد على سلامتها وقوتها؟ إذن فكيف يسيء ظن الداعية بفطر الناس التي فطرهم الله عليها، وإسلامهم الذي تربوا عليه، وإيمانهم الذي ذاقوا حلاوته.

 

إن المسلمين اليوم في شتى بقاع الأرض في حاجة إلى قائد يقودهم إلى الله، ويفعل ما يقول، ويرفق بهم، ويحمل ضعيفهم، ويمسح على رأس اليتيم والمسكين والفقير، ويسهر على مصالحهم، ثم بعد ذلك يرفع اللواء أمامهم، ويعمل القرآن في يمينه، والسنة المطهرة في يساره، ويردهم ردًّا جميلاً إلى الله، ويعود القرآن غضًا طريًّا، عندئذٍ سيجد أن هذه الأمة تفعل الكثير، وتستجيب لله ورسوله.

 

ويقولون مرة أخرى كما قال أسلافهم يوم بدر "والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، فامض لما أراك الله لعل الله يريك منا ما تقر به عينك" (السيرة النبوية).

 

نحن نملك أعظم ثروة لا في الذهب ولا الفضة ولا في المعادن كلها، بل هي في كتاب الله الدستور الخالد الذي يخرج الناس جميعًا من الظلمات إلى النور قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)﴾ (إبراهيم).

 

تحتاج الأمة أيضًا إلى العمل الدائب بعد الأمل العميق في نصرة الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).

 

وليس معنى الصبر القصور والقعود والاستكانة، وإنما المقصود من الصبر أن المؤمن لا يشعر بأن هذه العقبات لا علاج لها؛ فإن ذلك يضايق المؤمن ويجعله لا يروض نفسه على التغلب عليها.

 

إن ميزة الإيمان الحق في الثبات والاطمئنان؛ في ثبات صاحب المبادئ عليها، واطمئنانه إليها فلا يشك لحظة في أنها منتصرة؛ لأن الله عز وجل قال لنا ذلك: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)﴾ (الرعد)، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)﴾ (الأنبياء)، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

-------------

* من علماء الأزهر الشريف