رجال العقيدة كالجبال الرواسي، لا تؤثر فيهم العواصف ولا تهزهم الرياح العاتية؛ فهم العقبة الكؤود أمام آمال الظالمين المعتدين، تبدد مخططاتهم، وترد كيدهم في نحورهم أمام ثباتهم وإصرارهم على مواصلة السير في طريقهم، فلا يعوق مسيرهم تهديد ولا يفت في عضدهم وعيد، ولا يغيِّر من منهاجهم تضليل أو تشويه أو شبهات، ولا تثني عزائمهم كثرة مضلة أو مقالات مفتراة أو إفك مبين، أو كذب صراح؛ لأن طريقهم نور، وعونهم من الله بلا حدود، وثقتهم في نصر الله لهم من الإيمان واليقين، فهم منصورون في الدنيا قبل الآخرة ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾ (غافر) وتمكين الله لهم وعد محقق؛ لأنه من العزيز الحكيم الذي لا يخلف وعده ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ (النور)، والتاريخ شاهد على صدق هذه الحقائق التي أثبتها القرآن، وأصبحنا نتعبد لله بها.

 

إن عقيدة التوحيد هي التي صنعت الرجال في كل زمان ومكان، وسل التاريخ عنهم قبل بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعدها، سل عن الذين اصطفاهم الله من بين خلقه من النبيين والرسل الكرام وأتباعهم من لدن آدم حتى رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

 

سل القرآن عن إيمانهم ومواقفهم وثباتهم وتضحياتهم وصبرهم وتحملهم الأذى في سبيل دعوتهم، سله عن زكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإبراهيم وموسى وعيسى، سل عن أصحاب الأخدود ﴿النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ (5) إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)﴾ (البروج)، وقف متأملاً حال سحرة فرعون، وكيف صنعت عقيدة التوحيد منهم نماذج إيمانية، وهم الذين ما عرفوا لهم قبلها ربًّا إلا فرعون، فأقسموا بعزته، واحتموا بقوته، وافتقروا إليه، فلما دخل الإيمان قلوبهم صاروا رجالاً أفذاذًا، وهانت عليهم أرواحهم، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا حين هددهم أطغى الطغاة وأبغى البغاة بقوله: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ومَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأَبْقَى (73)﴾ (طـه).

 

وأما سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والرجال الذين كانوا حوله فما أكثر مواقفهم الإيمانية، وقد قصَّها علينا كتاب ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ (فصلت)، فصارت دروسًا تربوية يهتدي بها الدعاة.

 

إن القرآن الكريم قصَّ على رسولنا صلى الله عليه وسلم تاريخ رجال العقيدة ليثبت فؤاده ويبين له ثمرة ثباتهم، فكان صلى الله عليه وسلم أثبت الرجال وأشجعهم وأقواهم، وكان قمة سامقة في كل شيء دينًا وخلقًا وإقدامًا (كنا إذا حمي الوطيس واشتد البأس واحمرَّت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه)، وهذا فضل الله على رسوله ليكون قدوة لأتباعه.

 

لقد تعلَّم الصحابة رضوان الله عليهم من رسولهم هذا الثبات منذ اليوم الذي قال فيه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، فكان الله غايتهم، والرسول قدوتهم، والقرآن دستورهم، والجهاد سبيلهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم.

 

فما أحوجنا في زماننا هذا إلى رجال يواجهون الباطل، ويتحملون الصعاب، ويطالبون بالإصلاح ليسود الحق والعدل، يدفعون الثمن ولو كان باهظًا، ويقولون للظالم ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طـه: من الآية 72).

 

تستطيع العقيدة الإسلامية التي صنعت هؤلاء أن تصنع أمثال صلاح الدين الذي نتمنى أن نجد أترابه بل وآلافًا مثله، وتصبغهم بصبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، أو ليست العقيدة الإسلامية التي حولت الحفاة العراة رعاة الشاة عباد الصنم والحجر والوثن والشجر إلى جحافل دانت لهم فارس والروم وغيرها من الممالك وجمعتهم بعد تمزق، وأعزتهم بعد ذل، وأغنتهم بعد فقر، وألَّفت بين قلوبهم بعد عداء فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا فتحوا بها قلوب العباد قبل البلاد، بأخلاقهم الكريمة وسيرتهم الحميدة وشجاعتهم النادرة؛ فأصبحوا أساتذة البشرية وما زال ثناء الله عليهم في القرآن غضًا طريًّا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾ (الفتح).

 

هذه النماذج الإيمانية رفع الله منزلتها وأعلا مقامها، وخلَّد ذكراها، واستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، ومكَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، ورضي عنهم، ورضوا عنه، وأعد لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا.

 

فهل لنا أن نجاهد أنفسنا، ونثبت كما ثبتوا، ونقتفي أثرهم لنستعيد مجدنا وعزة أمتنا؟

 

وكأني بقائل يقول إن الذي ربَّى هؤلاء وتعهَّد هذه الغراس المباركة خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم وأنى لنا فلن يتكرر هذا الجيل؟.. وهذا حق ما في ذلك شك؛ فخير القرون القرن الأول، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، وفضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أثبته لهم رب عظيم في كتاب كريم، إلا أن المنهاج الذي صنع هؤلاء الرجال دائم بدوام الليل والنهار، وعطاء المنهج لا يتقطع فهو دائم بدوامه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسنتي"؛ ولذلك يوم أن تُوفي الرسول صلى الله عليه وسلم قالها الصديق رضي الله عنه: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات.. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)﴾ (آل عمران)، وإلا للزم لنا بعثة رسول جديد، وهذا محال، فرسولنا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين به أتمَّ الله النعمة، وأقام الحجة، والخير في أمته إلى يوم القيامة "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم".

 

وما قرأناه في التاريخ أصدق شاهد، فكم من رجال حملوا هذه العقيدة بعد وفاة الرسول، وفتحوا المشارق والمغارب!! وهل الفتوحات الإسلامية التي أكرم الله المسلمين بها تمت إلا على أيدي رجال آمنوا بربهم وزادهم هدى؟!

 

إن الواقع المعيش فيه من هؤلاء الأفذاذ الكثير إلى يومنا هذا، واقرأ تاريخ دعوتك لترى هذا الصنف من الرجال الذين حملوا لواء لا إله إلا الله، وذادوا عنه، وحموه بأرواحهم ومهجهم وأموالهم، ولم يبالوا بالأحكام الظالمة ولا السجون المظلمة ولا مصادرة الأموال ولا إغلاق الشركات، واشتروا الجنة بالدنيا وما فيها ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة).

 

فيا أحبة.. استمسكوا بطريقكم، وعمقوا العقيدة في قلوبكم، ولا تبالوا بصغائر الأمور؛ فالدنيا وما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

 

والنصر قادم قادم؛ لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده ولا يتحقق إلا برجال العقيدة ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران)؛ فكونوا أعزة بثباتكم، ولا تبالوا بسفاسف الأمور وصغائر التصرفات التي ترونها ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ (النساء: من الآية 104)، وقولوا كما قال المؤمنون من قبلكم ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾ (إبراهيم).

----------------

* نائب المرشد العام للإخوان المسلمين.