لي زمن وأنا تواقٌ إلى أن أُسطِّر هذه السطور، تردني هواجس تقمص الآخرين، وتجذبني إلى الأمام دوافع حقيقية، تملؤني رغبةٌ جارفةٌ في أن أحكي شهادتي عما عشته وما زلت أعيشه.

 

سيقول أناسٌ وهم متكئون على أرائكهم.. شهادة مجروحة، وربما تشعَّب بنفرٍ منهم الحديث فدعَّم حكمه السالف هذا بما هو معروف من صداقتي القديمة وأواصر الأخوة المتينة التي أحسبها تجمعني بمحمد البلتاجي.

 

ومحمد البلتاجي من يوم نما وشبَّ وطنيٌّ مصريٌّ يروعك فيه ما حازه من أشكال تطورت بشخصيته الوطنية المصرية الصميمة بشكلٍ ظاهر جدًّا، لا تكاد تخطئه عين فاحص أو عين عابر سبيل!!

 

ومحمد البلتاجي رُزِقَ قدرة عجيبة على أن يسمع وعلى أن يسمع جيدًا، ربما بسببٍ من تخصصه الدقيق في طب الأذن وتقديمه لمعجزة الله سبحانه في خلقها، وهو ما يلمسه مرضاه عندما يتلبث بفحصهم وكأنه راهبٌ في محراب.

 

والسمع مستوى أول يُحسن محمد البلتاجي أن يترجمه إلى وعي وإدراك وقفهٍ لحقيقة ما يمر به من أحداث ووقائع؛ لدرجةٍ يوشك معها مَن يتأمل أمره أنَّ أذنه هي مدخل كثير من الطاقات الكافية التي إذا اشتبكت مع واقعات الأحداث تحوَّلت إلى حركةٍ طاغيةٍ أشبه شيء بالطوفان الهادر قوةً وحسمًا واندفاعًا وإنجازًا.

 

حصاد يانع

ومن تأمَّل عطاء محمد البلتاجي في هذه السنوات الخمس من عمر مصر يندهش اندهاشًا مثيرًا عجيبًا خطيرًا معًا.

 

يُثيره هذا الوعي بمشكلات مصر وبتراتب هذه المشكلات في عقله؛ بحيث تستشعر في هذا القلب المتقد رؤية فقيه يجعل الحرية أمام القضايا وعصب الوجود المصري المعاصر القائد إن تحقق إلى كل خيرٍ منشودٍ للوطن المصري وللوجود الحي الإنساني المعاصر.

 

وهذه الرؤية المقاصدية ترجمةٌ لعقلٍ كبيرٍ يُدرك حقائق الأشياء، ويُحسن ترتيب الأولويات.

 

ويثير هذا المتأمل أيضًا إدراك ظاهر جدًّا بطبيعة المهام التي اضطلع بها؛ فهو سياسي يجمع في عقله شمل نصوص القانون، وهو قانوني يتدرج من وعي بمواد القانون، والدستور في القلب منها، إلى بيان حقائق ما يُعرض له بمهنية أكاديمي باحث يُخلص من المقدمات إلى النتائج بعد خبرةٍ في فحص الآراء ومناقشتها، واختيار الفروض، وإسقاط ما لا يرقى أو ينهض في وجه الاختبار، مستبقيًا ما صحَّ من فروضه ليفاجئ الجميع بنتائج واعية تقود إلى إسكان المناوئين.

 

ويروعك من محمد البلتاجي حماسةٌ متدفقةٌ وهو يناقش كأنما استجمع طاقته لمرةٍ في قراءة القارئين لأدائه المرة الأخيرة، أو تكاد يروعك منه حماسة متدفقة تستشعر أنها موصولة بالرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى واصلاً تاريخه بتاريخه ولم لا؟!

 

ويدهشك من محمد البلتاجي وكأنما لبس كفنه وكأنه همٌّ تجسَّد في صورة اللحم والدم يصرخ بتعبيره الذي لا يشوبه كدر، ربما يجنح به بعض التفاسير الإعلامية، وهو تعبيره الأخَّاذ ارحموا شعب مصر، وشبهة صناعة التعبير لا محلَّ لها إلا أن يقول أحدٌ إن الإعلامَ المصري بقنواته الرسمية حفي بجهاد نواب الإخوان في البرلمان المصري، خادمٌ لها، راعٍ مشفق حريص على بلوغها إلى الناس.

 

ويأسرك محمد البلتاجي أسرًا بهذا الحضور الإنساني الحاني، وأُذنك تصافح صوته آتيًا عبر الهاتف، مطمئنًا على صحة صديقٍ أو صحةِ أهل من أهل هذا الصديق وذاك، ويأسرك وهو يتقدم صفوف السائرين ليوصل حبيبًا أو قريبَ حبيبٍ إلى حيث رحمة الله تعالى إلى حيث اللقاء الذي يتوق إليه كل محسن مؤمن.

 

ويملك محمد البلتاجي عليك عقلك وأنت تُشاهده في مواطن الفكر والثقافة مؤصلاً للمسائل الفكرية في اشتباكها مع حادثات الواقع الحزين على أرض مصر.

 

وهو دائم السؤال للمتخصصين يطرق أبوابهم مستنطقًا تخصصاتهم فيما يلمُّ به من أمر، واضعًا من نفسه موضع التلميذ الذي يُقبل على التعليم في تجردٍ حقيقي ظاهر العلامات، خدمةً لما يحمله من أعباء، ولما يطلب منه أداؤه والقيام به، ثم يُترجم ذلك في حركةٍ لا تُخطئها عين مراقب بأي وسيلة راقب بها هذه الحركة، وبأي إجراء مسحي تتبعها.

 

ثم هو إنسان قادر على أن يكتسب بإنسانيته علاقات صميمة مع شرفاء هذا الوطن من كل أطيافه يُقدِّرهم ويسعد بعلاقاته بهم، ويسعى معهم نحو تقدم هذا الوطن ورقيه.

 

مَن صنع هذا الرجل؟!

ولعل أول ما يرد على الذهن هو السؤال عن المنهجية التي صنعت عقل هذا الرجل وقلبه، وليس يصح التغافل عن العناية الإلهية المتمثلة فيما رزقه من مواهب بادية في عددٍ من ملامح التوفيق التي تحوطه وترافقه في نشاطاته المختلفة، ولكن هذه العناية- ولا شك- تجلَّت في صياغات من الصناعة البشرية التي أسهمت في تشكيل عقله ووجدانه وحركته.

 

والمتأمل في أمره لا يخفى عليه إدراك سُهمة الإخوان في تشكيله فكريًّا وتربويًّا وإنسانيًّا وحركيًّا.

 

فمحمد البلتاجي ابن مؤسسة ترعى شمولاً حقيقيًّا لا مجازيًّا في حياطتها لأبنائها، تُغذيهم بلبانٍ من علوم الشريعة يضبط فكرهم، ويؤصِّل توجهاتهم، وتمدهم بعطاءٍ وافرٍ من فقه الدليل، وفي قمته الكتاب العزيز والسنة المشرفة الصحيحة.

 

وهي من جانب ثانٍ تقوم على تربيتهم حركيًّا بما تزرعه في نفوس أبنائها من حبٍّ لهذا الوطن، والعمل على إنقاذه وإصلاحه وتعافيه حتى استقرَّ من استقراء ممدات الأمل كما يقرر علم الاجتماع السياسي أن وجود الإخوان خاصة وأهل الالتزام الديني عمومًا واحدٌ من أهم صمامات الأمان لهذا الوطن الكريم والعزيز معًا.

 

وهو ما نلحظه من تحرك البلتاجي مشتبكًا مع هموم الوطن سعيًا إلى إصلاح الندوب والجروح التي تنزف في غير مجال، وفي غير ميدان، لعل أخطرها أثرًا هو ذلك الجهاد في ميدان إعادة توطين الإسلام بعد زمانٍ طويلٍ من التغريب.

 

إن الحركة التي تملك القدرة على صنع أمثال محمد البلتاجي في هذه المدة الوجيزة- لهي حركة رائدة بكل المقاييس- وطنية، وهو ما جعلها في تصور المؤرخين للعمل الوطني أهم عناصره، ولا سيما في قراءة ارتباطها بالإسلام بما هو المشكل الأساسي للهوية في جغرافية العالم الإسلامي، وفي القلب منه مصر.

 

دام الإخوان التزامًا ووطنيةً، وحيَّا الله وجه محمد البلتاجي رمزًا معاصرًا للوطنية المصرية الوفية المخلصة.

---------

* كلية الآداب- جامعة المنوفية.