ليس الصومال وحده مَن يمارس القرصنة البحرية في العالم، الذي تقول عنه وكالات الأنباء الدولية بأنه أشبه بسفينة خربة تتقاذفها الأمواج العاتية- المتمثلة من الأزمات الإنسانية والحروب الأهلية- التي أحالت البلاد إلى خراب ودمار لمدة عشرين عامًا فحسب، بل إن في الأفق لاحت ظاهرة قراصنة جدد أكثر عداوةً وحقدًا لبني البشر جميعًا عربهم وتركهم وإنجليزهم، فلا يوجد عندهم تمايزات بين الحقير والشريف، والدليل الوضيع المنقد لهم والمعاند بسياستهم الافتقارية والاحتلالية؛ تلك هي القرصنة الصهيونية التي ارتكبت جرمًا صارخًا في وضح النهار، ودون شفقة ورحمة بحق أناس ذات ضمير إنساني، هدفهم النبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشعب الفلسطيني الذي يعاني مرارة العيش في أرضهم المحتلة؛ حيث لا يزال الحصار مفروضًا لمدة ثلاث سنوات؛ وحيث تبعات الرصاص المصهور في غزة نهاية عام 2008م ومطلع عام 2009م من قبل الكيان الصهيوني، والذي يدفع ثمنها هو الشعب الفلسطيني، ولا تزال آثار الحرب مألوفةً في الأذن والعين، ونتابعها بشكلٍ مكثَّف عبر الفضائيات من حينٍ لآخر.

 

ثمة مفارقات كبيرة بين أولئك الصوماليين الذين كانوا في السابق صيادون ضعفاء، يسعون إلى جلب رزقهم من صيد السمك، وقراصنة الصهاينة الذين لا يريدون رزقًا أو سمكةً من البحر؛ بل يريدون امتصاص الدم الإنساني- أيًّا كان-؛ لأن موت البشرية عندهم لا قيمةَ له.

 

وهناك فارق آخر من حيث العدة والعتاد، فالقرصنة الصومالية ليس عندها سوى قوارب محلية الصنع من أخشاب وبلاستيك، أضف إلى ذلك أنهم يحملون على أكتافهم بنادق الكلاشنكوف التي لا تضر ولا تنفع في عرض البحر، وقلة قليلة من الأسلحة الكتفية الأخرى، لاختطاف السفن الأجنبية؛ لجني مبالغ هائلة قد لا تبقى في جيوبهم إلا أيامًا قليلة، أما قرصنة الكيان الصهيوني فإنها تتمتع بقوة هائلة بدعمٍ أمريكي متصهين من الطائرات العمودية المزودة بأحدث الأسلحة الأوتوماتيكية؛ لارتكاب مجزرة ضد الشرفاء والنشطاء والنبلاء.

 

عندما تهبط قوات من الكوماندوز الصهيوني فوق سفينة أسطول الحرية، وتوزِّع اللكمات والطعنات، بل الطلقات النارية على النشطاء الإنسانيين، يتساءل المتابع للمجزرة أي ذنبٍ جنوا أو ارتكبوا هؤلاء النشطاء؛ ليستحقوا هذا العذاب؟ أم أن قرصنة الكيان الصهيوني تجزيهم بهذا العذاب لضميرهم الحي الذي أبى الرضوخ لمطالب قرصنة الكيان الصهيوني؟

 

وهناك سؤال آخر هل السفن كانت تحمل معدات حربية أو أدواتٍ أخرى من المتفجرات لتهديها الشعب الفلسطيني؛ ليقاوم؟ أم أن الكيان الصهيوني شعر بأن النشطاء يكسرون حاجز الصمت الفلسطيني؛ ليعيش الشعب بضع أيام في أمان واطمئنان من الحصار الصهيوني الظالم المفروض على غزة.

 

أما الفارق الثالث والأهم هو أن الكيان الصهيوني لا يهدف إلى جني حصاد مالي أو كنز وفير من قرصنته الإجرامية، بل يريد تسخير شعبٍ بأكمله لمصالحه التعسة، وهذا ما يرفضه العقل الإنساني السليم، لكن القرصنة الصومالية لا تريد احتلال بلد أو ارتكاب مجازر إنسانية بحق بني البشر؛ لكن هدفهم هو الحصول على صيد ثمين عبر اختطاف السفن الأجنبية المارة قبالة سواحلهم، وإن كان هذا جُرمًا دوليًّا في القانون الدولي.

 

ماذا كان ردُّ العالم والأمم المتحدة لو ارتكبت القرصنة الصومالية مثل هذه المجزرة- لا سمح الله- بحق نشطاء سياسيين يسعون إلى إنقاذ شعبٍ بأكمله، أو أن يتقدم القراصنة الصوماليون بارتكاب مجازر بحق القوات المتعددة الجنسيات المنتشرة في طول الساحل الصومالي.. الجميع يعلم أن العالم بأكمله يقوم ولا يقعد، بل تستبيح بعض الدول التوغُّل فورًا في الصومال للانتقام منه على مرأى ومسمع من العالم.

 

قد يتوهَّم العديد أن جلسة الأمم المتحدة حول مجزرة أسطول الحرية قد تفرض عقوباتٍ دولية على الصهاينة، لكن لا يصدر هناك إلا شجب وتنديد؛ حيث لا ينفع التنديد، كما أن مجلس حقوق الإنسان يقر تحقيقًا دوليًّا حول المجزرة في جنيف، لكن كل هذا لا يمثل عندنا سوى ذر الرماد في العيون، وإن كانت هناك أصل عيون تراقب وتستطيع إجراء قرارات صارمة ضد حكومة نتنياهو المتطرفة.

 

أليست مجزرة الصهاينة الجديدة تعيد وتربط الأذهان إلى الحرب الصهيونية على غزة بداية العام الجديد، وارتكب من خلالها أبشع الجرائم، واستخدمت أسلحة محظورة عالمية ضد ضعفاء أبرياء لا حول لهم ولا قوة، وقتلت أكثر من 1500 غالبيتهم نساء وأطفال رُضع، كما شردت مليون ونصف المليون من الفلسطينيين من وإلى العراء دون مأوى يحميهم من حرارة الصيف اللاهب ولا البرد القارس شتاءً، عندها كانت المظاهرات تعم دول العالم، كما أن الأمم المتحدة تتخذ القرارات البديلة لوقف العنف تلو الآخر، كما جاء قرار جولدستون الذي كشف الجرم الصهيوني، لكن كل هذا لم يُردع بني صهيون مواصلة مجازره ضد الفلسطينيين والنشطاء المسالمين، وأصبحت الصهيونية فوق القانون الدولي، وحتى الدول التي وفَّرت لهم كل أسباب البقاء في مقدمتهم أمريكا وبريطانيا.

 

الكيان الصهيوني قد يُبقي في جيوبه مزيدًا من المجازر يُعرض لنا واحدةً بعد الأخرى كمسلسلٍ تركي أو مصري، كما أنه يؤكد للعالم بأنه يتحدى كل القوانين الدولية لانتهاك مجازر أخرى لبني البشر، وخاصةً الفلسطينيين.

 

ولا شك أن الصهاينة لا يزالون عازمون على ارتكاب مجازر أخرى ضد أسطول الحرية مرةً ثانية، ما لم تأتِ بارقة جديدة قد تُرعبهم وتُجبرهم على السماح بمرور أسطول الحرية بأمانٍ في البحر إلى غزة، لكن كل هذا مرهون بجدية دول العالم العربي في تعاملها مع الكيان، وترك العلاقات الوهمية الهامشية ومبادرات السلام التي يتحداها الصهاينة ليل نهار، والعودة إلى خيار المقاومة والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني الصامد أمام الطاغية الصهيوني.