تمرُّ علينا هذه الأيام الذكرى الثالثة لوفاة الشيخ العلامة د. السيد نوح- رحمه الله- أحد أعمدة الدعوة الإسلامية في العالم العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، وسأتحدث عن الشيخ من منظور الولد لوالده، وسأسرد لكم بعض وقائع وأسرار في حياة الشيخ رحمه الله.

 

أولاً: أتمَّ الشيخ حفظ القرآن وهو ابن 8 أعوام في كُتَّاب القرية.

 

ثانيًا: عندما أكمل الشيخ رحمه الله 14 عامًا خطب أول خطبة في حياته، وكانت أمام أهم رجال البلد، وكان يقول دومًا إنها كانت أصعب خطبة في حياته، وقد أغمض عينيه حتى لا يرى المصلين، ولكن كل مَن حضر أثنى على هذا الطفل الصغير وتوقَّع له مستقبلاً باهرًا، وقد كان.

 

ثالثًا: أرسله والده إلى المحافظ للتحدث معه بشأن بناء جسر في بلدهم، وكان الشيخ آنذاك في سن الرابعة عشرة، فذهب وهو يلبس اللباس الأزهري (العمامة والجبة)، ودخل على المحافظ؛ فما أن رآه حتى لبَّى له طلبه وما زال هذا الجسر إلى الآن ينعم به الناس.

 

رابعًا: حاز الشيخ- رحمه الله- المركز الثالث على جمهورية مصر العربية في الثانوية الأزهرية والأول على محافظة كفر الشيخ، على الرغم من كل الصعوبات التي كان واجهها آنذاك، من صعوبة المعيشة والعمل مع والده في الفلاحة، وما إلى غير ذلك.

 

خامسًا: تُوفي والد الشيخ- رحمه الله- وهو في السنة الأولى من الجامعة، وعلى الرغم من ذلك حاز على المركز الأول في قسم التفسير والحديث بكلية أصول الدين جامعة الأزهر لمدة أربع سنوات؛ حيث عُين بعدها معيدًا بالكلية عام 1971م مباشرةً، وكان- رحمه الله- يقول دومًا: كنتُ في الجامعة أحصلُ على 22 جنيهًا مصريًّا من مكافآتٍ وعملٍ إضافي، ويوم أن عُينت معيدًا حصلتُ على 17 جنيهًا!.

 

سادسًا: تحمَّل الشيخ هموم أسرته المكونة من 9 أشقاء منذ صغره، لا سيما وهو أكبر إخوته بعد وفاة والده، فكان يكد ويجتهد؛ ليواصل ما تركه له والده من مسئولية كبيرة.

 

سابعًا: عندما كان الشيخ يناقش رسالة الدكتوراه في موضوع "الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي وجهوده في كتابة تهذيب الكمال"، قال له أحد المناقشين وهو الشيخ محمد الحكيم- يرحمه الله-: "لو كان المزي حيًّا لقام وقبَّل ما بين عينيك".

 

ثامنًا: الشيخ السيد نوح هو أول مَن أحيا سنة قيام الليل في إمارة رأس الخيمة، عندما ذهب إلى الإمارات في أوائل الثمانينيات، فسنَّ سنةً ما زالت تؤتي أُكلها إلى اليوم.

 

تاسعًا: كان الشيخ وفيًّا كلَّ الوفاء لشيوخه وأساتذته، فأذكرُ أني دخلتُ عليه في يومٍ من الأيام وهو يقرأ القرآن، وسألته: ماذا تقرأ؟ قال: أقرأُ القرآن لشيخي وأستاذي الشيخ إبراهيم خميس والشيخ عبد السلام أبو الفضل يرحمهما الله، وكان يقول دومًا إنهما صاحبَا فضلٍ عليه، فكان وفيًّا كلَّ الوفاء حتى وفاته.

 

عاشرًا: أكرم الله الشيخ بالحج سبع عشرة مرة، وأكرمني الله تعالى بالحج معه في المرة السادسة عشر، فرأيتُ فيه شخصًا لم أره طوال حياتي.. نشاطًا وهمةً وحيويةً، وكأنه في عز صباه، فتراه يقيم الليل، ويستقبل الحجيج في الصباح ليفتي لهم، وتراه في يوم عرفة فارس حلبة الدعوة؛ ليجول يمينًا أو يسارًا بين شتَّى الحملات للدعاء والاستغفار والتسبيح، فرأيت فيه الحاج المثالي الذي يستمتع بمتاعب ومشاقِّ الحج؛ لا سيما أن الأطباء كانوا يشفقون عليه وينصحونه دومًا بالراحة، فكان يقول لا تعب مع الأجر والثواب.

 

الحادي عشر: من أراد أن يختبر إيمان الشيخ- رحمه الله- وصبره يختبره في صلاته، خاصةً النوافل، فكنت أتابعه من بعيد وهو يصلي وكأنه في وادٍ آخر مع ربه خاشعًا باكيًا.

 

الثاني عشر: كان الشيخ حريصًا على صلاة الغائب على موتى المسلمين بعد صلاة الجمعة في مسجده بدولة الكويت، فردَّ الله له الديْن، وصلَّى عليه المسلمون من شتَّى أنحاء العالم صلاة الغائب.

 

الثالث عشر: نجَّى الشيخ من الموت اثني عشر مرة، أذكر منها حادثة مرضه بتليف الكبد، عندما قال له الأطباء إنه سوف يقضي عليه بعد ساعات، ولكن عاش بعدها سنة وثمانية أشهر حتى لقي ربه يوم 30/7/2007م الموافق 16 رجب 1428هـ بنفس راضية مرضية بإذن الله تعالى.

 

أخيرًا.. أكتب هذه الكلمات للعظة والعبرة من مواقف وتجارب عايشتها مع أحد الدعاة الثقات، ولأرد جزءًا من الدَيْن الكبير الذي حملني إياه والدي- رحمه الله- كيف لا وهو من بفقده تغيرت حياتنا بأكملها، ولكن تعلمنا دومًا أنه لا اعتراضَ على قضاء الله عزَّ وجلَّ، فرحمة الله عليك يا سيد البشاشة وسيد الحب وسيد التواضع، والله ولي التوفيق.