منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين وهي تواجه وضعًا سياسيًّا يخرج عن المرجعية الإسلامية، ويقوم على أساس الدولة القومية القطرية، ويستند للعلمانية؛ مما يبعده عن المشروع الحضاري الإسلامي، ويبعده أيضًا عن إقامة الوحدة السياسية الإسلامية، ورأت الجماعة منذ البداية أن المرجعية القائمة للدولة القومية الوطنية، والتي تستند للعلمانية والنموذج السياسي الغربي، ليست الطريق لتحقيق الاستقلال والنهضة؛ فكانت رؤية الإخوان تقوم على الاستقلال الحضاري الشامل، والنهوض الحضاري الشامل، وهي بهذا قد أعلت من أهمية الاستقلال الحضاري، وجعلته طريق الاستقلال السياسي والعسكري، كما جعلته الطريق المناسب لتحقيق النهوض، فغياب المرجعية الحضارية الإسلامية كان في نظر جماعة الإخوان المسلمين خروجًا للأمة عن هويتها؛ ما يعرقل نهضتها وتقدمها، ويخرجها من مسارها التاريخي، ويتعارض مع التزامها الديني.

 

فالمشروع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، كان مختلفًا في مرجعيته عن الوضع القائم عند تأسيسها، وظل هذا طيلة العقود التالية؛ وهو ما جعل هناك مسافة فاصلة بين مشروع الجماعة وكل المشروع الإسلامي، والوضع القائم على تكريس النموذج السياسي الغربي، ذي الأساس العلماني القومي؛ وأمام هذا الواقع، تبنَّت جماعة الإخوان المسلمين طريق الإصلاح السلمي المتدرج، واتبعت منهجًا يهدف إلى إصلاح وتغيير الواقع تدريجيًّا، دون أن تعتبر مشروعها لا يتحقق إلا بهدم الواقع بالكامل وبناء واقع جديد.

 

وهنا يظهر أهمية التفرقة الواضحة في خطاب جماعة الإخوان المسلمين بين الدولة والنظام الحاكم، فهي تعتبر الدولة منفصلة عن النظام الحاكم، وتحافظ عليها قدر حفاظها على المجتمع، وتعتبر الدولة والمجتمع هما نواة بناء المشروع الإسلامي؛ ما يكشف عن أن الجماعة تتعامل مع الدولة بوصفها مؤسسة مركزية مهمة، وبوصفها ملكًا للمجتمع، ومعنى هذا أنها ترى المشكلة في التوجهات السياسية للنخبة الحاكمة، وليس في بناء الدولة نفسها؛ ما يعني أن الدولة يمكن إصلاحها وتعديل مسارها بتعديل النظام السياسي الحاكم، وتغيير التوجهات السياسية؛ لذا كانت الجماعة تعمل من خلال الوضع القائم، وتبحث عن النقاط التي تلتقي مع المشروع الإسلامي، سواء في النظام السياسي أو الدستور، وتحاول الاستناد على المساحات التي تسمح بتعديل توجهات الحكم، دون الدعوة للخروج على النظام الحاكم.

 

العمل من داخل النظام

ركَّزت جماعة الإخوان على فكرة العمل من خلال الوضع القائم، دون محاولة هدمه، واعتبرت أن دورها هو إصلاح الوضع الدستوري والقانوني من داخله، ومن خلال أدواته في التعديل والتغيير، وبهذا رسَّخت وجودها داخل النظام العام، ولم تقم بوصفها حركة خارج النظام العام؛ وأصبحت بذلك حركة إصلاح من الداخل، تعمل من خلال الوضع القائم لتغييره وإصلاحه، وتلك الفكرة هي التي أسَّست لمنهج جماعة الإخوان، الذي مكَّنها من العمل مع الأنظمة المختلفة؛ بحيث توجِّه عملها إلى العمل على تغيير ما تراه متعارضًا مع المشروع الإسلامي، والإبقاء على ما يتوافق مع المشروع الإسلامي؛ وهي السياسة التي ساعدت الجماعة على الحفاظ على منهجها الإصلاحي، دون أن تدخل في مواجهة مع الوضع القائم من خارجه، ودون أن تقترب من المنهج الثوري أو الانقلابي، فظلت الجماعة ترى أن الإصلاح يأتي من خلال الوضع القائم، وإصلاحه تدريجيًّا بقوة التيار المساند لها.

 

وبالرغم من التباين الكبير بين رؤى الجماعة والرؤى السائدة داخل النخب الحاكمة، إلا أنها لم تر أن هذا التعارض أو الاختلاف سببًا يؤدي إلى اتباع منهج التغيير من الخارج، أي من خارج النظام القائم، وربما يفسِّر هذا أسس منهج الجماعة في الإصلاح، فهي لا ترى أن مشروعها سوف يتحقق في لحظة واحدة، أو دفعة واحدة، ولكنها ترى أنه سوف يتحقق تدريجيًّا؛ لذا يصبح من المناسب العمل من خلال الوضع القائم، حتى يمكن تغييره وإصلاحه تدريجيًّا؛ ليحل نموذج مكان نموذج آخر.

 

وبالرغم من سلمية منهج جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن النظم الحاكمة كانت ترى فيه خطرًا عليها؛ لأن هدفه في النهاية تحويل مسار النظام السياسي، بدعم شعبي، تجاه المشروع الإسلامي، والذي رأت فيه النخب الحاكمة تهديدًا لوجودها في الحكم؛ ولأن الجماعة تعتمد أساسًا على إصلاح المجتمع، ومن ثمَّ على قوة المجتمع، ظلت الجماعة على نهجها السلمي، بالرغم من أن النخب الحاكمة لم تتعامل معها بنفس هذا النهج السلمي، بل تعاملت معها بنهج أمني، ولم يدفع هذا الجماعة إلى تغيير موقفها أو فكرتها عن الإصلاح السلمي المتدرج؛ لأنها رأت أن هذا المنهج هو المنهج القادر على تحقيق مشروعها، واعتبرت أن المواجهة الأمنية معها، هي جزء من مقاومة السلطات الحاكمة لأي حركة تغيير، لذا ظلت الجماعة تضع نفسها داخل إطار الشرعية والمشروعية، أيًّا كان موقف النظام منها، وتعتمد في شرعيتها على التأييد الجماهيري، والذي يدل على أن فكرتها تعبِّر عن قطاع واسع ومهم من المجتمع الذي تعمل فيه.

 

لهذا يمكن القول بأن الأنظمة الحاكمة حاولت إخراج الجماعة من إطار الشرعية، ودفعها للعمل من خارج النظام القائم، حتى يسهل عليها مواجهة الجماعة، ولكن الجماعة أدركت أن الإصلاح المتدرج يحتاج للعمل المتواصل من خلال الوضع القائم، ليس للتكيف معه، بل لتغييره وإصلاحه، وهنا برزت أهمية قيام منهج الإخوان على إصلاح المجتمع، فلأن الجماعة ترتكز على المجتمع، وتعتبره أداة الإصلاح الحقيقية، والمكلف أيضًا بعملية الإصلاح؛ لذا ظلت الجماعة تعمل من داخل النظام القائم، ولا تستسلم لأية محاولة لإخراجها من الوضع القائم، ودفعها للمنهج الثوري أو الانقلابي، ولأن الجماعة تريد بناء حركتها على حركة المجتمع، وتريد بناء قوة المجتمع وتفعل طاقاته تدريجيًّا؛ لذا لا يمكنها الخروج على الوضع القائم، واعتماد المنهج الثوري، ففي المنهج الثوري، تقوم الطليعة الثورية بتحريك واسع للمجتمع لإسقاط النظام، ولكنها لا تقوم ببناء هذا المجتمع وإصلاحه، بل تهدف إلى تغيير الحكم بالكامل، كوسيلة لإحداث التغيير السياسي الذي تهدف إليه.

 

ظلت جماعة الإخوان المسلمين إذن ترى أن المنهج الإصلاحي من الداخل، هو المنهج الأنسب لمشروعها، والذي يحقِّق الإصلاح التدريجي للمجتمع، ومن ثم يحقق الإصلاح للنظام السياسي، كنتيجة لإصلاح المجتمع، وهي رؤية تختلف عمن يريد إصلاح النظام السياسي أولاً، وقبل إصلاح المجتمع؛ ففي هذه الحالة يصبح الأسلوب الانقلابي والثوري أو العمل السياسي المباشر هو الأنسب لتغيير النظام السياسي، ثم تغيير المجتمع من أعلى، ولكن منهج جماعة الإخوان المسلمين يعتمد على إصلاح المجتمع، أو جزء منه، ثم إصلاح النظام السياسي بقوة المجتمع والجماهير المؤيدة للجماعة، وبعد ذلك يصبح إصلاح النظام السياسي وسيلةً لاستكمال إصلاح المجتمع، وأيضًا لبناء نهضته وبناء وحدة الأمة الإسلامية.

 

الدولة ملك المجتمع

وعليه تتعامل جماعة الإخوان مع الدولة بوصفها ملكًا للمجتمع، ويجب الحفاظ عليها وحمايتها، كما يجب فصلها عن النخبة الحاكمة، والتمييز بينها وبين سياسات الحكم؛ ولكن النخب الحاكمة في المقابل تستقوي بالدولة، وتريد أن تجعل عداوتها مع جماعة الإخوان المسلمين، عداوة بين الدولة والجماعة؛ فالنخب الحاكمة تحتاج الدولة لفرض سيطرتها على المجتمع، وعلى قوى المعارضة، ولكن جماعة الإخوان المسلمين ترى أن الدولة ملك المجتمع ويجب الحفاظ عليها، حتى إذا تحقق الإصلاح السياسي، يجد المجتمع الدولة التي يستند عليها، ويبني عليها مشروعه الحضاري.

 

لذا يمكن القول بأن جماعة الإخوان المسلمين تعمل من خلال الدولة القائمة، ليس لتغيير الدولة، بل لتغيير السياسات الحاكمة لها، والتي تعتبرها الجماعة السبب في التوجهات التي تعارضها، خاصة التوجه القومي العلماني، أو التوجه التغريبي.

 

كما تعتبر الجماعة أن الدولة كمؤسسة ليست هي التي تحالفت مع أعداء الأمة، خاصةً الكيان الصهيوني، ولكن النخب الحاكمة هي التي تحالفت؛ لذا نرى دائمًا أن جماعة الإخوان المسلمين تميز بين الدولة والنخبة الحاكمة في كل المواقف، وتلقي بتبعة الأوضاع القائمة على النخبة الحاكمة، وليس على الدولة.

 

هذا المنهج يحصر كافة السياسات التي تتعارض مع المشروع الإسلامي في النخبة الحاكمة، وليس في الدولة، وهو تمييز يقوم على أن الدولة مؤسسة إدارية في الأساس، وتوجهاتها السياسية تأتي من النخبة الحاكمة، وليس من البنية الإدارية للدولة؛ ولهذا تحاول الجماعة الحفاظ على موقف إيجابي من كل مؤسسات الدولة، وإن كانت النخبة الحاكمة تدخل الجماعة في مواجهة مع الأجهزة الأمنية.

 

تغيير السياسة وليس الدولة

ترسم جماعة الإخوان المسلمين موقفها من النظام السياسي القائم، على أنها تحاول دفع الوضع القائم لما تراه أحسن بفعل ما تحصل عليه من تأييد جماهيري، وهي تؤيد كل سياسة توافق عليها، وترفض ما لا توافق عليه، وليست معنية بأخذ موقف معارض للنظام الحاكم طيلة الوقت، وهذا جزء من إستراتيجية الجماعة لتحقيق الإصلاح من الداخل، وبالتالي لا تعمل الجماعة على تغيير النخبة الحاكمة كهدف وغاية نهائية لها، بل تعمل على تغيير السياسات بكل السبل المتاحة؛ لأنها ترى أن توجُّه السياسات نحو الوجهة الصحيحة في نظرها، يؤدي إلى بناء المشروع الإسلامي تدريجيًّا، ويساعد على تحقيق عملية إصلاح المجتمع والنظام السياسي تدريجيًّا، وترى الجماعة أن كل موقف إيجابي يساعد على بناء المشروع، ويمثل خطوة في طريق تحقيق المشروع الإسلامي.

 

يمكن هذا الموقف الجماعة من تأسيس وضعها كحركة إصلاحية، تعمل بين الناس، وتستند لقوة الرأي العام المؤيد لها، ولا تحاول دفع عملية التغيير بأكثر مما تحتمل؛ فالجماعة لا تعامل النخبة السياسية كمنافس لها، بل تعاملها بوصفها السلطة المسئولة عما يحدث، والتي تحاسب عن ما تفعله، وفي نفس الوقت يمكن دفعها في طريق الإصلاح؛ ولأن الجماعة لا تشترط تحقيق الإصلاح السياسي بنفسها، أي لا تشترط أن تصل للحكم حتى تحقق الإصلاح بنفسها، فهي بهذا تفتح الباب أمام كل طرق الإصلاح الممكنة، وتعتبر نفسها قوة تدفع للإصلاح، وتحشد الجماهير لتأييد مشروعها.

 

من السهل تصور التناقض الكبير بين إستراتيجية عمل الجماعة وإستراتيجية النخب الحاكمة تجاهها؛ فغالب النخب الحاكمة تخشى من تمدد المشروع الإسلامي بما يفقدها شرعيتها، لأنها لن تؤيد هذا المشروع، أو لن تتمكن من تأييده، وهي نخب مستندة على الدعم الغربي، وتقود أنظمة تقوم على المرجعية الغربية القومية العلمانية؛ لذا ترى غالب النخب الحاكمة أن المشروع الإسلامي، سوف يفقدها شرعيتها، وسوف ينهي حكمها؛ لذا تتعامل السلطات الحاكمة بالقوة مع جماعة الإخوان المسلمين، والجماعة ترد بالمنهج الإصلاحي السلمي المتدرج، وترى أن قوتها الحقيقية هي في منهجها السلمي، الذي يبني ولا يهدم، ويحافظ على ما هو قائم ويصلحه، وتلك المقابلة بين طريقين في التصرف، هي التي ترسم تلك الصورة التي نراها في المواجهة بين النخب الحاكمة وجماعة الإخوان المسلمين.

 

قوة منهج الإصلاح

تتمثل عناصر القوة في المنهج الإصلاحي لجماعة الإخوان المسلمين، في النهج السلمي المتدرج، وفي الاعتماد على إصلاح المجتمع، والاعتماد على قوة المجتمع؛ لأن كل تلك العناصر تكسب الجماعة القدرة على الاستمرار في منهجها، ما دامت قادرة على جذب المزيد من المؤيدين كل يوم، ويساعد هذا المنهج جماعة الإخوان المسلمين على الاستمرار كقوة فاعلة داخل المجتمع، وليست منعزلة عنه، بالرغم من كل الحصار المضروب عليها.

 

وتتمثل قوة منهج الإصلاح من الداخل في قدرة الجماعة على مواصلة عملية الإصلاح، حتى في ظروف الحصار الشديد عليها، كما تتمثل في ما يحدث في المجتمع من تغيير تدريجي يمهِّد لإصلاح شامل؛ ولكن الإصلاح من الداخل يواجه أيضًا عقبات، تتمثل في مواجهته بأدوات غير أدواته، وهي الأدوات الأمنية وكل أدوات السلطة المستبدة، وهي أدوات لا تهزم مشروع الإصلاح، ولكنها تؤجله.