بعد سقوط الخلافة، واجهت الحركة الإسلامية منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، دولةً تقوم أساسًا على القومية القطرية، فكانت دائرة الانتماء للدولة، وبالتالي للنظام السياسي الحاكم تضييقًا تدريجيًّا، للتحوُّل إلى الانتماء القومي الجامع المانع، والذي يقوم على فرضية أن كل قومية من القوميات المشكلة للبلدان العربية والإسلامية، هي قومية منفصلة ومستقلة بذاتها؛ ما يعني أن الروابط بين القوميات العربية والإسلامية، تمثِّل روابط مصالح، وتحكمها اعتبارات الأمن القومي لكل قومية على حدة، ولقد تمَّ تضييق الهوية الإسلامية الجامعة، لتصبح هوية قومية عربية، ثم بدأت القوميات القطرية في البروز على حساب الهوية الجامعة.

 

هنا من الضروري التمييز بين مسارات مختلفة لتعريف الهوية، فالهوية القومية تخص قوم بعينهم، وتجعل مصالحهم الخاصة هي المحدد لتوجهات الدولة والنظام السياسي، ويتشكل مفهوم الأمن القومي لكل قومية قطرية، لحماية شعب الدولة، وحماية مصالحه، ثم تتعاون الدولة القومية مع الدول المحيطة بها لتبادل المصالح، باعتبار أن التعاون في المحيط الجغرافي يستند إلى المصالح المتبادلة والتاريخ المشترك، وتستدعي مختلف الروابط؛ لتعميق العلاقات مع الجوار، ولكن بهدف حماية المصالح القومية لكل قطر، على قاعدة تبادل المصالح.

 

هذا النمط يمثِّل النموذج الغربي، والذي قام على الدول القومية المنفصلة عن بعضها، ثم تحول هذا النموذج إلى مرحلة تأسيس اتحاد القوميات الأوروبية، ففي داخل الإطار الأوروبي العام، توجد قوميات لها خصوصيتها، ولكن أوروبا اكتشفت أهمية تأسيس اتحاد أوروبي، يقوم على حماية المصالح الأوروبية المشتركة، ويستند لما هو مشترك في التاريخ الأوروبي، ولما هو مشترك في الحضارة الأوروبية.

 

وفي مقابل هذا النموذج، تبنت جماعة الإخوان المسلمين نموذج الهوية الإسلامية الجامعة، وهو نموذج يقوم على أن الهوية الأساسية هي الهوية الحضارية الإسلامية، وكل الهويات الأخرى، هي هويات فرعية، وبهذا تصبح الهوية الوطنية والهوية القومية، هويات فرعية، ولا تمثِّل هوية نهائية، أو هوية جامعة مانعة، بل هي هوية جزئية، أي أنها دائرة من دوائر الانتماء، ولكنها لا تصلح أن تكون دائرة انتماء في حد ذاتها، ولا يمكن الاكتفاء بها، فهي ليست هويةً كاملةً، بل هوية ناقصة؛ لأنها لا تعرِّف الفرد تعريفًا نهائيًّا، بل تعريفًا جزئيًّا، فأصبحت الهوية الوطنية والهوية القومية، في نظر جماعة الإخوان المسلمين، مثل الانتماءات الصغرى، كالانتماء العائلي والانتماء الجغرافي، وغيرها، وهنا برز أن القومية ليست انتماءً في حد ذاتها، ولكنها تعريف لانتماء فرعي، داخل الانتماء الحضاري الإسلامي.

 

ومثَّلت رؤية جماعة الإخوان المسلمين امتدادًا طبيعيًّا للموروث الحضاري الإسلامي، فهي تعد استمرارًا لفكرة الهوية الإسلامية الجامعة، كما تحققت تاريخيًّا، فقد كانت أهم مميزات الحضارة والدولة الإسلامية تاريخيًّا، أنها دولة وحضارة عابرة للقومية، وتقوم على صهر القوميات وتوحيدها، وتجاوز التعصُّب القومي والوطني، لهذا أصبحت الدولة والحضارة الإسلامية، هي النموذج الأهم في تاريخ البشرية للكيان العابر للقوميات؛ مما شكَّل تميز الحضارة الإسلامية عن الحضارة الغربية، والتي تستمد قوتها من الانتماء القومي، وحتى عندما تتوحد تصبح قوتها في تحالف واتحاد قوميات، لكل منها خصوصيته المستقلة.

 

بهذا حددت جماعة الإخوان المسلمين موقفها من القومية والوطنية، باعتبارها دوائر انتماء مهمة، ولكنها ليست نهائية، وباعتبارها تمثِّل الدوائر الأقرب، وأنها جزء لا يتجزأ من الهوية النهائية، وهي الهوية الإسلامية، ولهذا رأت الجماعة أهمية الحرص على الوطنية والقومية؛ لأن حماية الوطن هي بداية لحماية الأمة، وتعاملت مع هذه الانتماءات باعتبارها انتماءات أولية تنصهر في النهاية في الانتماء الإسلامي، وعليه واجهت الجماعة كل الأفكار التي تجعل من الوطنية والقومية انتماءات جامعةً مانعةً، تبني وتؤسس للقومية العنصرية، وللتعصب الوطني.

 

وبهذا استوعبت جماعة الإخوان المسلمين مفاهيم الوطنية والقومية، باعتبارها تمثِّل دوائر الانتماء الصغرى، ولم تدخل في معركة مع تلك المفاهيم، بل عرفتها بالصورة التي تتوافق مع المرجعية الإسلامية، كما عرفتها بالصورة التي تتوافق مع الواقع التاريخي للمجتمعات العربية والإسلامية، والتي تعي انتماءها إلى الأمة الإسلامية، فجاءت تصورات جماعة الإخوان معبرةً عن الجماهير، ولكن الدولة كانت تميل لتعريف هويتها في تصرفاتها وتصرفات النظام السياسي بصورة أخرى، تُعلِّي من الهوية القومية القطرية، على حساب أي هوية أخرى.

 

موقف الإخوان من الدولة

يتضح في الكيفية التي تتعامل بها جماعة الإخوان المسلمين مع الدولة، أنها تراها الأداة الرئيسية للنظام السياسي، وأنها تمثِّل وسيلةً لتشكيل السلطة التنفيذية، وإعمال النظام السياسي، فالدولة ليست غاية في حدِّ ذاتها، بل هي وسيلة لتحقيق غايات الأمة، وبالتالي غايات المجتمعات، وتلك النظرة جعلت الجماعة تنظر إلى الدولة، ليس بوصفها حاملة لمشروع وهوية في حد ذاتها، بل بوصفها أداة لحمل هوية المجتمع والأمة، كما نظرت الجماعة إلى الدولة، على أساس أنها ملزمة بهوية المجتمع، وهوية الأمة التي ينتمي إليها المجتمع، وليست ملزمة بهوية النخبة الحاكمة.

 

لهذا نجد الجماعة في مواقفها السياسية المختلفة تتعامل مع الدولة باعتبارها دولة إسلامية، أو يجب أن تكون إسلامية، وتستند إلى نصوص الدستور التي تحدد هوية الدولة، خاصةً النص على أن دين الدولة الإسلام، وهو النص الأهم، والموجود بشكل مستمر في أغلب الدساتير العربية والإسلامية، فهذا النص يعني بالنسبة للجماعة أن الدولة تستند للمرجعية الإسلامية، وهي بهذا تعد دولةً إسلاميةً، كما أن الجماعة تعتبر الدولة ملك المجتمع، وخاضعة لهوية المجتمع، ولهذا تتصرف الجماعة باعتبار أن الدولة إسلامية بالضرورة، وعليه تحاسبها وتراقبها وتحدد موقفها من تصرفاتها، باعتبارها دولة إسلامية، ولا يجوز أن تكون غير ذلك.

 

ولهذا يتضح هنا أهمية التمييز بين الدولة والنخبة الحاكمة، فالدولة في نظر جماعة الإخوان المسلمين إسلامية، أو يجب أن تكون كذلك، وهي إسلامية بحكم نص الدستور، وبحكم إسلامية المجتمع، ولكن النخبة الحاكمة قد يكون لها توجهات سياسية مختلفة؛ لذا فإن جماعة الإخوان المسلمين، تحاسب النخبة الحاكمة أو تقيِّم تصرفاتها باعتبارها نخبةً تدير دولة إسلامية، أيًّا كانت مواقفها السياسية.

 

والمثال الأبرز لهذا الموقف، يظهر في مواجهة العدوان الخارجي، خاصة العدوان الصهيوني؛ حيث ترى الجماعة أهمية قيام الدولة بواجبها ضد كل عدوان يقع على أرض من أراضي الأمة، أو وطن من أوطان الأمة، وتصبح الدولة في كل الأقطار العربية والإسلامية مطالبةً بالدفاع عن الأمة ضد العدوان الذي تتعرض له.

 

ومن هنا تتعامل الجماعة مع الأمن القومي، بوصفه جزءًا من أمن الأمة، ولا يمكن أن يكون منفصلاً عنها، كما ترى أن السيادة الوطنية، هي جزء من سيادة الأمة، وغايتها حماية الأمة، وبالتالي تصبح الدولة الوطنية في تصور جماعة الإخوان المسلمين، هي وسيلة لتحقيق غايات المجتمعات، وهي غايات الأمة في النهاية، وتصبح الدولة الوطنية، هي مشروع لبناء وحدة الأمة الإسلامية السياسية، ومشروع لتأسيس الدولة الإسلامية النموذجية أو المنشودة.

 

الدولة إسلامية

سنجد في مختلف مواقف جماعة الإخوان المسلمين، أنها تعتبر الدولة إسلامية، وتحاسب النظام الحاكم على هذا الأساس، ويفهم ضمنًا من ذلك، أن الجماعة تتعامل مع الدولة بإستراتيجية احتواء الدولة داخل المشروع الحضاري الإسلامي، واحتوائها أيضًا داخل هوية المجتمع، وهي بهذا تمنع وجود صدام بينها وبين الدولة، بل تتصرف وكأن الدولة وجماعة الإخوان في صف واحد، وتستند الجماعة في ذلك، على نصوص الدستور، كما تستند على عدم قدرة الأنظمة الحاكمة على إعلان خروجهم من الهوية الإسلامية علنًا؛ لذا تظل النخب الحاكمة تشعر بأنها مقيدة بالعنوان الإسلامي، حتى وإن لم تكن تفعله عمليًا، ومن داخل هذا السقف تتصرف جماعة الإخوان على أساس أن الدولة لا يمكن أن تكون غير إسلامية، ويجب أن يُنظر إليها بصفتها الإسلامية.

 

ويفيد هذا النهج في جذب الدولة داخل الهوية الإسلامية، ومنع الصدام بين الحركة الإسلامية والدولة، باعتبار أن ما بين الدولة والجماعة، هو الخلاف أو حتى الخصومة، بين النخب الحاكمة وجماعة الإخوان المسلمين؛ ما يؤثر على تصرفات الدولة تجاه جماعة الإخوان، ولكن لا يوجد خلاف هوية بين الدولة والجماعة، ما يعني شرعية الدولة في نظر الجماعة، وشرعية الجماعة في نطر الدولة، حتى وإن لم تعترف بهذه الشرعية النخب الحاكمة.

 

حقيقة الدولة

بالرغم من هذا النهج الإصلاحي لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن تصرفات الدولة الإدارية، وتلك السياسية، تشير إلى تعمُّق الخلاف بين الدولة والجماعة، بفعل عمق الخلاف بين النخب الحاكمة والجماعة، فموقف النخب الحاكمة من جماعة الإخوان المسلمين، يقوم على الخلاف الواضح بين ما تتبناه النخب من رؤية علمانية قومية، وما تتبناه الجماعة من رؤية حضارية إسلامية، فالنخب الحاكمة تحتمي بالعلمانية القومية، وتعفي نفسها من المسئوليات الإسلامية، لذا تعمل النخب الحاكمة على تغيير الدولة من داخلها، حتى تصبح علمانية وقطرية، وتتناسب مع نهج وتوجه النخب الحاكمة؛ لهذا نرى معظم النخب الحاكمة تدفع الدولة إلى تصرفات أمنية أو عسكرية أو إدارية، تتعارض مع الهوية الإسلامية المفترضة بحكم نصوص الدستور، وهي بهذا تريد تقنين تصرفات الدولة داخل حيز الدولة الوطنية القومية، والتي تستند للقومية الجامعة المانعة، والتي ترفض أي هوية خارج إطارها وحدودها، وتعتبر نفسها هوية مستقلة بذاتها.

 

لذا نجد بعض تصرفات الدول في البلدان العربية والإسلامية، مع الحركة الإسلامية عمومًا، وجماعة الإخوان المسلمين خصوصًا، تتميز بالشدة، خاصةً تجاه تمدد الحركة الإسلامية داخل كل أوطان الأمة، بل إن من أهم ما يسبب ضغوطًا شديدةً على جماعة الإخوان المسلمين، هو تمددها المنظم في مختلف البلاد العربية والإسلامية، لحد سمح لها أن تكون بالفعل تعبيرًا عن وحدة الأمة، أو حالة نموذجية لوحدة الأمة، وهنا تواجه الدولة حالةً تعمق الهوية الإسلامية الجامعة، في حين أن الدولة أصبحت تسير من خلال سياسات قومية قطرية، وأصبح تعريفها لأمنها القومي- إن وجد- يدور في نطاق المصلحة الوطنية الخاصة، وبهذا أصبحت السياسات والتوجيهات تضغط على الدولة للخروج من إطار الهوية الإسلامية الجامعة.

 

بجانب هذا، نجد أن تعمُّق النزعة القومية والحس القومي لدى الدولة وأجهزتها، يعمِّق علمنة الدولة، ويجعلها تتبنى داخل أدواتها وسياساتها النموذج الغربي العلماني القومي، وهذا النموذج يعادي فكرة المرجعية الدينية والحضارية الإسلامية، ويعادي دور الدين في الحياة العامة، ودور الدين في السياسة، كما يعادي نموذج التلاحم بين الدين والدولة، وكل هذا يفسر تلك السياسات المتشددة التي تنتهجها الدولة تجاه الحركة الإسلامية، حتى الدول التي تحتفظ بهويتها العربية والإسلامية، فالكثير من الدول جعل الهوية العربية والإسلامية جزءًا من تعريف الهوية القومية، حتى لا يعادي تلك الهويات، ولكنه بذلك جعل العربية والإسلامية جزءًا من الهوية القومية، وجعل العنوان القومي هو الأعلى والنهائي،  ولهذا تستمر الدولة في مواجهة التنظيمات والحركات الإسلامية؛ لأنها تمثِّل تهديدًا لسلطة الدولة في تحديد هويتها، بغض النظر عن الهوية السائدة في المجتمع، فكلما برزت الحركة الإسلامية ومشروعها، ظهر مدى خروج الدولة عن هوية الأمة والمجتمعات العربية والإسلامية، وهو ما يدين الدولة ويسحب شرعيتها.

 

الدولة تواجه الإصلاح

لهذا تتعامل الدولة بقسوة مع الحركة الإسلامية، ومع جماعة الإخوان المسلمين؛ لأن الدولة أصبحت في داخلها علمانية وقومية، ولم تعد تحتفظ بالهوية العربية والإسلامية، والتي بقت عنوانًا دستوريًّا، ليس له حظ من التطبيق العملي، وجماعة الإخوان المسلمين تتعامل مع الدولة بوصفها دولةً إسلامية، أو يفترض أن تكون إسلامية، ولكن الدولة أصبحت تتهرب من هذه الصفة، أو تتنكر لها، بسبب ما فُرض على الدولة من سياسات وتوجهات، فأصبحت جماعة الإخوان بالنسبة للدولة مصدرًا يثير قلق الهوية، ويؤثر على توجهات الدولة، ويضغط عليها في اتجاه عكس اتجاه النخبة، ومع ذلك، ظلت جماعة الإخوان المسلمين تتعامل مع الدولة، على أنها مشروع لدولة إسلامية، وأنها لبنة لبناء الدولة الإسلامية، ويجب الحفاظ عليها، والضغط على النخب الحاكمة لتعميق الهوية الإسلامية للدولة، حتى تظل الدولة وسيلة لبناء المشروع الإسلامي في نهاية الأمر.