من نصف قرن أو يزيد والأعياد في الأمة عامرة بالسجون ومزدانة بالقيود، وأحرار الأمة ومصلحوها، يدفعون ضرائب باهظة التكاليف من دمائهم وأرواحهم، وما هذا إلا لأن دماء الثوار وأرواح الأبطال دائمًا أبدًا تكون الفداء للأوطان، والدروع للأمم.

 

بلاد مـات فتيتها لتحيـا        وزالوا دون قومـهم ليبقوا

وحـررت الشعوب على قناها         فكيف على قناها تسترق

وللأوطان في دم كل حـر       يدٌ سلفت ودين مستحـق

ففي القتلى لأجيال  حياة      وفي الأسرى فدى لهم وعتق

وللحرية الحـمراء بابٌ        بـكل يدٍ مضرجة يدق

والأعياد دائمًا تأتي لتذكر بالتواصل والتراحم والحب، ولكنها للأسف في الأمم مهيضة الجناح وذات الحمى المستباح تنكأ الجراح وتثير الأشجان وتلهب الأحاسيس الخامدة، وخصوصًا إذا كانت ذات طرفين الأول: من بني وطني وعشيرتي والثاني: لتصيب المصلحين وأهل الخير في أمتي بجراحات لها في القلب عمق.

 

ومن هذا ولهذا يتساءل المخلصون النابهون عن هوية هذه الأعياد وعن طعمها ولونها في مخيلة الأمة وأجوائها فتردد ما قاله المتنبي :

 

عيدٌ بأية حال عدت يا عيد            بما مضى أم بأمر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهم            فليت دونك بيدًا دونها بيد

ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه          أني بما أنا شاكٍ منه محسود

ما يقبض الموت نفسًا من نفوسهم        إلا وفي يده من نتنها عود

هذا، وأنا أعلم أنه ما ملأت السجون والمعتقلات إلا لفسادٍ ساد في الأمة وخراب حلَّ بها وطمَّ، وانتهازية انداحت في رباها لتهلك الحرث والنسل، وإلا فكيف يترك المخربون والمجرمون ويعطوا مقاليد الأمور ويمهن ويعذب في السجن ويسحق المخلصون المتفانون في خدمة بلدهم وأمتهم وهم على استعدادٍ لفدائها بالغالي والنفيس، وكيف تفتحت البلاد لكل دخيلٍ وعدوٍ وعميل، وتوصد في وجه كل وطني غيور، ومبدع عظيم، وعصامي نزيه، وصدق شوقي يقول:

 

أحرامٌ على بلابله الدوح                حلال للطير من كل جنس

كل دار أحق بالأهل إلا                   في خبيثٍ من المذاهب رجس

وطني لو شُغلت بالخلد عنه               نازعتني إليه في الخلد نفسي

وهفا بالفؤاد في سلسبيل ظمأ              للسواد من (عين شمس)

شهد الله لم يغب عن جفوني            شخصه ساعةً ولم يخل حسي

يا فؤادي لكل أمر قرار فيه           يبدو وينجلي بعد رجس

ومواقيت للأمور إذا ما              بلغتها الأمور صارت لعكس

دول كالرجال مرتهنات          بقيام من الجدود وتعس

هذا، وهمم المسلمين اليوم قد استيقظت من ثبات وفاقت من غفو لتصل حاضرها بماضيها، وتعلن هويتها العلمية والنفسية وتحقق طبيعتها الإسلامية وترجع إلى شريعتها السماوية وحضارتها العملية وبعثها الحيوي الناهض وتنفض ما التصق بها من خنوع باسم الدين واستسلام باسم الزهد والورع الذي ألصق بها حتى قال القائل في عصور الانحطاط:

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم   يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم

بعد أن كان الإسلام هو كتيبة النصر، وأبو الحضارة ورائد المهارة ومنطلق الجدارة، وعالم من الجنود والبنود، ورجاله أهل السيادة والإفادة والريادة وأهل الهمة العالية، والحكمة الباقية، والعزيمة الماضية، ورحم الله الشافعي القائل حين ترك العراق إلى مصر ولم يصطحب معه زاد ولا زوادًا، فلما قيل له في ذلك قال:

أمطري لؤلؤًا سماء سرنديب        وفيضي آبار تكرور تبرا

أنا إن عشت لست أعدم خبزا      وإذا مت لست أعدم قبرا

همتي همة الملوك ونفسي           نفس حر ترى المذلة كفرا.

لقد كان الشافعي يتيمًا؛ حيث مات والده وهو في بطن أمه فذهبت به أمه من أرض فلسطين إلى مكة وأخذت غرفة من حجارة من طين، وكان يأخذ العظام والخشب يكتب فيها لأنه لم يكن عنده محابر ولا دفاتر فيكتب ما يسمع حتى قالت أمه ما بقي إلا أن تخرجنا وتبقى هذه العظام والألواح والخشب.

 

لما سمع هذا الكلام من أمه قام بحفظ كل ما كتبه وأزال هذه الألواح من بيته، وهكذا بقي علمه معه حتى قال:

علمي معي حيث ما يممت يتبعني              صدري وعاء له لا بطن صندوق.

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي            أو كنت في السوق كان العلم في السوق.

 

هذا هو العبقري الذي تربَّى على التفاؤل، وعلى الهمة العالية حتى يقول في بعض أبياته:

دع الأيام تفعل ما تشاء       وطب نفسا إذا حكم القضاء.

ولا تجزع لحادثة الليالي         فما لحوادث الدنيا انتهاء.

يصبر الناس على الابتلاء فيقول لهم عليكم أن تصبروا وأن تواصلوا طموحكم، وأن تثقوا في الله تعالى، وإذا أتتكم أزمة فحاولوا أن تتجاوزوها وأن تتصلوا بالله تعالى.

 

وأخيرًا.. ولإن كان وقع الظلم وفعل الطاغوت والطغيان ثقيلاً ومهولاً، ولكنه في سبيل الله، ولتعلم الأمة أن الخير فيها إلى يوم القيامة، وأن الله لا بد ناصر دينه وخاذل عدوه برجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً.