سقطت ما تسمَّى بجماعة المثقَّفين المصريين في مستنقع السكوت على جريمة تزييف لحقائق حقبة تاريخية من تاريخ مصر، كان على رأسها رمز من رموز هذا الوطن، والذي أثَّر بطريقة أو بأخرى في تاريخ الوطن، بل كان من أبرز الذين وضعوا بصماتٍ قويةً على تاريخها.

 

وكان على رأس الأحداث والأحاديث الوطنية البارزة في تلك الحقبة وظل امتدادها حتى اليوم، وهو الإمام الشهيد حسن البنا، عليه رحمة الله؛ ذلك المجدِّد الذي شهد له حتى من اختلفوا معه من المنصفين بعمق الفهم ولين الجانب وبساطة الأسلوب، رغم عمقه، ودماثة الخلق، ورجاحة العقل، بل كان أبرز ما يميزه قبوله للخلاف بصدر رحب، وكان على يقين أن الخلاف هو إثراء للفكرة ونجاحها.

 

ويذكر أنه كان يلقي حديثًا في المسجد ويستشهد بحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أحد الشباب وقال له: من أين لك هذا الحديث؟ إنه حديث ضعيف ولا يجوز الاستشهاد به، ففكَّر الإمام قليلاً وقدَّم اعتذاره للشاب، وقال: نعم فعلاً قد يكون ضعيفًا وغيَّر مسار الحديث، ثم يقول الشاب: ذهبت إلى بيتي وفتحت صحيح البخاري لأدقِّق في صحة الحديث ففوجئت أن الحديث صحيح وقويٌّ، ورواه الإمام البخاري، فتعجَّبت من ردِّ فعل الإمام البنا، وتساءلت: لماذا لم يتصادم معي أو حتى يقنعني بصحة الحديث، يقول الشاب: فذهبت إليه متسائلاً: يا إمام، أنا ذهبت ووجدت الحديث صحيحًا فلماذا تجاوبت معي؟! فقال: يا أخي كسبت قلبك بعدم إحراجك أمام الناس في المسجد، وهذا خيرٌ لي من تصادم وانتصار لرأيي في المسجد أمام الناس، وكان هذا الشاب هو المستشار حسن الهضيبي؛ الذي دخل الجماعة بعد هذا الموقف وأصبح المرشد الثاني للجماعة.

 

هكذا كان الرجل، لم يسعَ أبدًا إلى فرض رأيه والانتصار لنفسه كما يحاول وحيد حامد أن يغرِّر بعقولنا، ويظهر أن البنا كان شخصًا يميل إلى فرض إرادته على الجميع وحب الزعامة والسيطرة، بل وأظهره الكاتب وفريق العمل الفني معه على أنه شخصية وصولية ومتسلِّقة، كما عبر الدكتور يحيى القزاز في بعض كلمات كتبها في نقد المسلسل، رغم أن أعداء الإمام ومن أحبوه كانوا يعلمون أنه شخصية قوية ومؤثرة، ولا يضعف أمام الأحداث، وكانت كل القيادات السياسية والفكرية والثقافية تحترمه وتقدِّره، وتعمل له ألف حساب.

 

ويذكر أن النحاس باشا حينما مورست عليه ضغوط من القصر والإنجليز بعدم السماح للإمام البنا بترشيح نفسه في الانتخابات النيابية؛ أرسل إليه النحاس باشا بكل أدب جمٍّ وذوق رفيع، وقال له: "يا ابني البلد في حالة سيئة، وهناك ضغوط ضدك، قد لا تكون من مصلحة مصر في هذه الأيام، فأرجوك اسحب ترشيحك"، فتعامل معه الإمام البنا باحترام أيضًا وآثر التنازل لما علم صدق النحاس باشا في طلبه لمصلحة مصر.

 

الإمام البنا رحمه الله كان يعلم تمامًا أن ثمرة الإخوان لن تُحصد في عهده، وكان ينتظر الشهادة لحظة بعد أخرى، كان الإمام جلُّ همِّه مقاومة الإنجليز والقضاء على المشروع الصهيوني في مهده ولمّ شمل الأمة وجمع شتاتها بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا وجعل الريادة للعالم الإسلامي من مصر.

 

لم يكن الشهيد ظاهرةً كلاميةً نظريةً، فلم يهتمَّ بتأليف الكتب قدر اهتمامه بالتربية وإحداث حالة من التوعية التربوية والثقافية والعلمية للأمة الإسلامية، رغم قدرته الفائقة والمتميزة على الكتابة والتأليف، ويظهر ذلك في بعض أحاديثه وكتاباته مقتديًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يربِّي أمةً وترعرع على يده صلى الله عليه وسلم رجال فتحوا الدنيا بأسرها ونشروا العدل والرحمة والرفق في ربوع العالم، ولم ينشغل صلى الله عليه وسلم بمجرد الخطب والمواعظ والنظريات الفلسفية، وهذا ما يميز دعوة الإسلام عن غيرها من الدعوات والنظريات التي نشرت الكتب وملأت الدنيا فلسفات، ولم يبقَ لها رصيد تربوي يُذكر، بل وسقطت أكبر الإمبراطوريات التي أهملت الجانب التربوي وركَّزت على الجانب النظري الذي لا تملك سواه.

 

ذهبت كتائب الإخوان التي تربَّت على يد الإمام الشهيد البنا إلى فلسطين وأبلت بلاءً حسنًا  لولا الأنظمة العميلة التي وقفت في وجهها حتى يتحقق المشروع الغربي الصهيوني.

 

وحينما يكتب تاريخ رموز مصرية، أمثال طه حسين وهدى شعراوي وقاسم أمين والنحاس وسعد زغلول والرئيس عبد الناصر والسادات والشيخ الشعراوي والشيخ محمد عبده والأفغاني ورأفت الهجان وأم كلثوم وغيرها في مسلسلات درامية وكتب وقصص وينصفونهم ويشار إليهم على أنهم رموز وطنية فنية وأدبية ودينية وسياسية، ولا يُذكر لهم سلبيات، ثم يُكتب تاريخ الإمام البنا بهذه الطريقة المجحفة والظالمة والمستهترة بصورة متعمدة، فهذا نذير خطر على الثقافة والفكر والتاريخ في مصر، ويؤكد أن المنظومة الثقافية والفنية سقطت في مستنقع الوحل الاستبدادي وفي قبضة القمع والإرهاب للمنظومة العصابية الفاسدة، وأن القلم في مصر أصبح رخيصًا، يباع ويشترى.