لم تكن زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى بيروت مجرد زيارة رئيس دولة إلى دولة أخرى، تتعدَّى المسائل هذا إلى كونها جزءًا من التشكل الجيوإستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط، هذا الذي بدأ مخاضه في حرب يوليو 2006م جنوبي لبنان وشمالي الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما وصفته حينها كونداليزا رايس بأنه "مخاض لشرق أوسط جديد".

 

رغم أنها الزيارة الأولى لرئيس إيراني إلى لبنان منذ زيارة الرئيس السابق محمد خاتمي في العام 2003م، وتأتي في ظل أجواء مشحونة بالغضب الغربي ضد طهران النووية، إلا أنها لم تأتِ خارج إطار الأحداث، بل جاءت كتحرك وفعل إيرانيين لتحاشي أي خسائر، وجنْي أي مكاسب ممكنة الحدوث في ظل العديد من التربيطات الإقليمية، بدايةً من لبنان وليس انتهاءً بالعراق.

 

فالناظر إلى خريطة الزيارات في المنطقة خلال الأيام الماضية يجد أن زيارة نجاد إلى لبنان تترافق مع زيارة نوري المالكي إلى دمشق، وتأتي قبل اتصال من الرئيس الإيراني بالملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز؛ لتأتي بعدها زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى المملكة السعودية، كل هذا وسط تنافر القوى اللبنانية الذي لا يهدأ حتى يتجدَّد، وما أسهل أن يجد مسببات تجدده، والتي تمثلت هذه المرة في المحكمة الدولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وقرارها الظني المتوقَّع أن يتهم عناصر من حزب الله بالضلوع في الجريمة، وهو نفسه القرار الذي أثار زوبعةً بعد أخرى يوليو الماضي في الداخل اللبناني المحتقن، وقام حينها الملك عبد الله بن عبد العزيز بزيارة إلى دمشق، اصطحب بعدها الرئيس الأسد إلى بيروت لتهدئة الأجواء؛ حيث جاءت زيارة الزعيمين للبنان ضمن مبادرة مشتركة، تهدف إلى احتواء التوتر الذي تصاعد بسبب قرار المحكمة الظني.

 

كما أن هذا يحدث بموازاة تحرك مصري على الصعيد الأوروبي قد يشمل خمس دول أوروبية، طبقًا لصحيفة (النهار) اللبنانية للبحث فيما يمكن القيام به لتعطيل ما تراه القاهرة تنامي عناصر عدم الاستقرار في لبنان، وأوضحت الصحيفة أن هناك مناقشاتٍ جرت في بروكسل بين الجانبين المصري والأوروبي على مستوى وزراء الخارجية، وبحضور المفوضة الأوروبية للشئون الخارجية "كاترين أشتون"، تركزت على صون الاستقرار في لبنان، وذكرت كذلك أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سيبحث مع رئيس مجلس النواب نبيه بري في 26 من الشهر الجاري في باريس سبُل إيجاد حل للوضع المتأزم في لبنان؛ تجنبًا لحرب قادمة قد يشنُّها الكيان الصهيوني الذي يتحيَّن الفرصة لشنِّ عدوان جديد يطال المؤسسات الرسمية والبنى التحتية والمرافق الحيوية اللبنانية؛ بذريعة أن الدولة بمؤسساتها تحمي حزب الله ومقاتليه.

 

وبالرغم مما سبق تجنَّب الرئيس الإيراني أثناء الزيارة التعمُّق مع أي من اللبنانيين في ملف محكمة الحريري، الملف الأبرز، وسط الملفات الخلافية بين الفرقاء اللبنانيين، وحاول بدلاً من ذلك التركيز على التهديد الصهيوني في الجنوب، ومن هنا برز أحد الأهداف الرئيسية لنجاد، وهو إحداث خلل في التوازن الإقليمي لصالح إيران وضد الكيان الصهيوني.

 

أما اتهامات ومخاوف بعض اللبنانيين من فريق 14 آذار وغيرهم من أن يكون المقصود بالزيارة هو إحداث خلل في الداخل اللبناني لصالح أحد القوى، وهي في هذه الحالة متمثلة في حزب الله؛ فهو أمر لم يكن يعني الرئيس الزائر بشكل أساسي، وهو ما أكده علانيةً عندما أكد أن وقوع اضطرابات أو فتنة داخل لبنان ليس من شأنه سوى إعطاء الكيان الصهيوني فرصةً للانقضاض على اللبنانيين وعلى المقاومة، وهو ما سيؤثر في طهران بشكل سلبي.

 

ومن هذا المنطلق تحديدًا كانت تتصرف السياسة الإيرانية المتعاونة مع حزب الله بتحجيم هيمنته وتغذيتها في آن معًا، والمقصود بالتحجيم هنا ليس إلا التصرف في حدود احترام التعددية اللبنانية وعدم الانقلاب الكامل للأوضاع داخل لبنان لصالح إحدى القوى السياسية؛ ما قد يؤدي إلى انقلاب عكسي في حالة حدوث تدخل دولي أو هجوم صهيوني منفرد أو بمساعدة أمريكية، وهو الخط الأحمر الذي يترتب عليه قيام حرب قد تتسع رقعتها خارج لبنان وتصل نيرانها إلى طهران، وهو ما لا تسعى إليه الجمهورية الإسلامية في ظل استمرارها في بناء قوتها، كما لا تسعى إليه واشنطن تمامًا، وبنفس القدر، حيث تختلف الحالة الإيرانية عن كل من الحالة العراقية والأفغانية وتتشابك في نقاط مصالح إجبارية على طول خط الخليج الملتهب من مضيق هرمز، مرورًا بالبصرة وحتى كردستان العراق، هذه النقاط التي ما زالت جدارًا صعبًا يقف دون وقوع هذه الحرب المنتظرة، لكن بداية سقوطه ستكون في نقطة أخرى بعيدة في الغرب في أقصى الجنوب اللبناني عند قرية بنت جبيل التي خاضت فيها المقاومة اللبنانية معارك ضارية أمام دبابات الميركافا الصهيونية.

 

كان أبرز أهداف الزيارة مد جسور التواصل مع الدولة اللبنانية كدولة لها سيادتها المستقلة لدرء الاتهامات الموجهة لإيران بالتدخل في الشأن الداخلي لدولة مستقلة، وكسب المزيد من الثقة والقوة في العمق اللبناني، وهو ما برز جليًّا مع استقبال الرئيس ميشيل سليمان له، ومقابلته رئيس الوزراء سعد الحريري؛ ليس هذا فحسب، وإنما دعوته لزيارة طهران قريبًا، ومع الحديث السياسي المتزن للرئيس أحمدي نجاد استجاب رئيس الوزراء اللبناني للدعوة، ويتوقع أن يقوم بزيارة الجمهورية الإسلامية خلال الأيام المقبلة، حسبما أعلنت وكالة "إيرنا" الحكومية الإيرانية، والتي أوضحت أن الحريري أبلغ كتلته تيار المستقبل بنيته زيارة طهران تلبيةً لدعوة وجِّهت إليه من قبل الرئيس الإيراني خلال زيارته البلاد.

 

ويأتي هذا الإعلان متزامنًا مع الإعلان عن زيارة رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي لطهران بعد زيارته لدمشق؛ وذلك لإجراء مباحثات مع كبار المسئولين الإيرانيين تتناول الأوضاع في العراق الذي تحول إلى شبه ولاية إيرانية ذات وضع خاص.
وليست هذه الترتيبات الإقليمية الكبرى ببعيدة عن أنقرة التي تقوم بدور موازٍ للدور الإيراني في الملعب العربي الخالي، والتي أجرى رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان اتصالات مع دمشق كان لها أهميتها في إجراء بعض التعديلات التوافقية على الموقف السوري، والخاصة بالملف الشائك لمحكمة اغتيال الحريري وشهود الزور والقرار الظني.

 

تبدو الآن خريطة الشرق الأوسط مثل لعبة البازل؛ حيث تتضح الصورة بوضع كل قطعة في مكانها، إيران وتركيا والكيان الصهيوني والولايات المتحدة وقوى الغرب، وبالرغم من اختلافهم فإنهم يتقابلون، يترك الخصم لخصمه مساحةً للتحرك ربما ليطمئن، ثم يقع في الفخ المنصوب، كلٌّ يسعى لمصلحته متجنبًا الحرب، تلك هي لعبة الأمم التي تحدث عنها مايلز كوبلاند؛ الذي قال إنه في الوقت الذي تقوم فيه الحرب تنتهي اللعبة السياسية وتبدأ لعبة جديدة بعد الحرب.

 

تبدو طهران وواشنطن، رغم اختلافهما كل الاختلاف ورغم لغة التهديد المتبادلة، ما زالا يريان أن التوقيت غير مناسب لكليهما لشنِّ الحرب، لكنَّ هناك طرفًا آخر يريد الحرب بأي ثمن، لكنه يخشى عواقبها بعد أن مُني بهزائم متتالية؛ إنه الكيان الصهيوني، وتأكيدًا على ضعفه أمام قوى الاستقلال الناهضة، أعلن أحمدي نجاد بداية انهيار هذا الكيان من الحدود اللبنانية معه، رغم تأكيد الغرب والكيان أن هذه الزيارة استفزازية لدرجة كبيرة.

 

وفي مقالته تعليقًا على زيارة نجاد لبنان قال روبرت فيسك إن الزيارة تأتي لخدمة كل من الطرفين الإيراني والصهيوني؛ استعدادًا للحرب القادمة في الربيع القادم، والتي سيشنُّها الكيان الصهيوني على لبنان، وأعلن الرئيس الإيراني أثناء الزيارة من بيروت ومن القرى اللبنانية في الجنوب على حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة ووسط حشود غفيرة من اللبنانيين والحفاوة الرسمية التحالف مع لبنان في وجه الكيان الصهيوني الذي أكد أن نهايته قد قاربت.
أرسلت زيارة أحمدي نجاد إلى لبنان بالعديد من الرسائل إلى من يعنيهم الأمر، فكانت رسالته إلى لبنان بأنه بلد موحد ورسالة تحدٍّ إلى الكيان الصهيوني وأمريكا؛ حيث أكد خلال زيارته أن طهران مع اللبنانيين بكل طوائفهم وليس حزب الله فقط، وخسر رهان الكيان الصهيوني الذي كان ينتظر اندلاع اضطرابات في لبنان؛ احتجاجًا على زيارة نجاد الذي تتهمه بعض القوى السياسية اللبنانية بأنه يدعم حزب الله على حساب بقية الأطراف اللبنانية.

 

كما بعث برسالة طمأنة للبنانيين جميعًَا عندما أكد أن الصهيوني الضعيف حاليًّا يتبع سياسة الهروب إلى الأمام، في إشارة إلى أنه قد يشن حربًا ضد لبنان أو غزة، إلا أنه توعَّد الصهاينة بالرد المناسب وبعث برسالة أخرى إلى الدول العربية التابعة لأمريكا ومن ورائها الكيان الصهيوني؛ بأن هناك نقاطًا كثيرةً تجمع بين مصلحة إيران ومصلحة العالم العربي، حتى وإن وجدت نقاط خلافية، فلا يمكن أن تتصدر طهران قائمة أعداء العرب أو أن تتفرد بها وحدها، وبرز ذلك جليًّا مع تأكيداته المستمرة بأن هناك عدوًّا مشتركًا بين إيران والعالم العربي، والمتمثل في الكيان الصهيوني.

 

كانت زيارة نجاد أيضًا لها دلالتها الخاصة بشأن العقوبات الاقتصادية المفروضة من القوى الغربية الكبرى ومجلس الأمن الدولي؛ حيث أكدت طهران مرونتها وقدرتها على التحرك وخرق أي عقوبات وخلق المزيد من العلاقات التجارية والاقتصادية مع أيٍّ من الأطراف الدولية، وهو تحدٍّ آخر أمام الحكومة اللبنانية لتثبت أنها حكومة مستقلة وليست تابعة لأية قوة، حتى وإن كانت هذه القوة هي واشنطن، فمن المفترض أنها حكومة حرة في بناء جسور العلاقات مع أي من الفاعلين الدوليين، سواء كان دولة أو منظمة.

 

فهل تستوعب الحكومة اللبنانية رسالة الرئيس الإيراني؟ وهل يستوعب العرب ما احتوت عليه رسائل نجاد أم أنهم سيظلون يلهثون وراء رضا البيت الأبيض؟!!