التفاؤل الذي عم بعض القلوب وبدد كثيرًا من الإحباط الذي أصاب الناس من حتمية الانفصال مبعثه حدثان مهمان، لكل منهما دلالته الواضحة:

 

أولهما: الاتفاق الإطاري بين الشريكين قبل نحو أسبوعين لتأمين حقول النفط في الجنوب... وقد جاء طلب التأمين من حكومة الجنوب التي رأت أنه ليس بمقدورها حماية الحقول بمفردها، ولا بد من طلب المساعدة الفعالة من القوات المسلحة.

 

والذي أعطى هذا الاتفاق أهمية كبرى أنه تم على أعلى المستويات، فقد هرع نائب رئيس الجمهورية "علي عثمان محمد طه" ونائب رئيس حكومة الجنوب نائب رئيس الحركة الشعبية "د. رياك مشار" إلى " فلوج" بمنطقة النفط، وصاغ الاتفاق الذي وقعه وزير الدفاع الاتحادي فريق أول "عبد الرحيم محمد حسين" ووزير الجيش الشعبي" نيال دينق" بحضور وزير الداخلية في الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب وقيادات عسكرية من الجيشين.

 

كونفدرالية اقتصادية

وقد أشار عدد من المحللين إلى أن هذا الاتفاق يمكن أن يطلق عليه "مونفدرالية اقتصادية" ويصلح أن يكون مدخلاً لحل جميع لمشكلات العالقة التي تقض مضاجع الحادبين على مصلحة السودان، وعلى رأسها معضلة "أبيي".. ولكن لماذا كان هذا الاتفاق؟

 

الحقيقة أنه في خضم التراشق والتشاكس بين الشريكين ومعركة التسجيل على أشدها وجدت حكومة الجنوب أن مصلحتها الحاضرة تقضي أن تهرع صوب الشمال تستجده كي يشاركها حماية الحقول النفطية، ولم يتردد الشريك الأكبر لأنه يعلم أن مصلحة السودان عمومًا المسارعة إلى عقد هذا الاتفاق... وكلاهما الآن يحتاج إلى الآخر فحكومة الجنوب لا تستطيع الاستمرار بدون النفط؛ حيث لا موارد لها تغطي مصاريف التسيير ناهيك عن التنمية والإعمار لا سيما لو اندلعت الحرب مجددًا بين الشمال والجنوب وتعطل إنتاج النفط.

 

وكذلك الأمر بالنسبة للشمال الذي سيصيبه ما سيصيب الجنوب من عجزٍ كبيرٍ في حال توقف تدفق النفط عبر أرضيه.

 

إشارة اطمئنان

والحديث الآخر الذي بعث التفاؤل في النفوس هو توقيع اتفاق بين القوات المسلحة، وجيش الحركة الشعبية يحدد مواقع كل جيش، في إشارةٍ واضحةٍ ومطمئنة لأبناء السودان- شماله وجنوبه- بأنه لا عودةَ للحرب بينهما مرةً أخرى.

 

ورغم المواقف المتشددة للفريقين وفشل اجتماع الرئاسة في التوصل إلى تسوية مقبولة لهذا النزاع الذي يخشى أن يكون سببًا في اندلاع الحرب إلا أن المتفائلين يرون بصيص أمل للانفراج من خلال لتصريح رئيس لجنة حكماء أفريقيا "ثابو مبيكي" بعد خروجه من اجتماع مؤسسة الرئاسة الذي ضم الرئيس عمر البشير ونائبه "سلفاكير" بأنه يتوقع الوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين في أي لحظة، واصفًا تعامل الشريكين مع مقترحاته بالجدية رغم تباعد الموقف.

 

وبادرة تفاؤل أخرى ساقتها مبادرة النمسا تحت عنوان "الاعتماد المتبادل"، وقبول الشريكين لها فقد جاءت تصريحات وزير الخارجية السوداني "علي كرتي" بأن الجانبين وافقًا على المبادرة التي بدأت بالعاصمة النمساوية "فيينا" في شهر نوفمبر الماضي، وتمت الموافقة على عقد لقاء آخر بالعاصمة الإثيوبية "أديس أبابا" خلال شهر ديسمبر الجاري بالرعاية النمساوية ذاتها.

 

ويتلخص المسعى النمساوي في حاجةٍ كل من الطرفين إلى الآخر وإمكانية أن تقودهما هذه الحاجة إلى توقيع اتفاقات سياسية واقتصادية، ويعتقد بأن هذا ممكن حتى وإن طال الزمن.

 

إشاعة الفوضى

وكان الأمين العام للحركة الشعبية وزير السلام في حكومة الجنوب "باقان أموم" قد اتهم القوات المسلحة بشن غارات عسكرية وقصف مواقع جنوبي خط حدود عام 1956م شمال وغرب "بحر الغزال"، وقد نقلت الفضائيات تصريحاته التي يكيل فيها الاتهام للشمال ويطلب من الأمم المتحدة التدخل وقال: إن "المؤتمر الوطني يسعى لزعزعة الأمن والاستقرار في الجنوب من خلال دعم الميليشيا الجنوبية للحرب بالوكالة بهدف تعطيل الاستفتاء عبر إسقاط حكومة الجنوب"، وكان هذا الاتهام سببًا كافيًا لإلغاء الدورة المدرسية التي كان مقررًا إقامتها بمدينة "واو" عاصمة ولاية "بحر الغزال" بالجنوب بعد أن تمت الترتيبات اللازمة ووصول الوفود الطلاب من جميع ولايات السودان الشمالية.

 

وقد نفى الناطق الرسمي للقوات المسلحة حدوث أي قصف داخل حدود 1956م، موضحًا أن ما قامت به هو مطاردة مقاتلي حركة العدل والمساواة وحركة "مناوي" المتمردين في دارفور، واللتين تتخذان من الجنوب قاعدة لهجماتها بهدف زعزعة الأمن والأمن في استقرار في إقليم دارفور.. وتتهم الخرطوم حكومة الجنوب بأنها تحتضن حركات التمرد في دارفور وتسلحها وتمدها بالدعم اللازم وتوفر المعسكرات لتدريب ميليشياتها التي تتسلل من دارفور إلى داخل الخط الفاصل بين الشمال والجنوب.

 

"باقان أموم" الذي تربى وتدرب في كوبا خلال سنوات حكم "منجستو هيلا ماريام" للحبشة (إثيوبيا) شيوعي ذو خبرة بإشاعة الفوضى ويضع خدماته تحت تصرف الإدارة الأمريكية من خلال الإلحاح المتواصل على ضرورة تدخل مجلس الأمن وفرض العقوبات على الشمال دون الجنوب وهو يدعو إلى الانفصال، ويريد السماح لحركته في الشمال بالدعوة إلى ما يُسمَّى بـ"السودان الجديدة".

 

والهدف من هذه التصريحات المتعمدة هو إضعاف القوات المسلحة معنويًّا ومحاصرتها دوليًّا بكسب الدول الإفريقية والمجتمع الدولي المتحامل، وهذه الادعاءات تهدف إلى نشر القوات الأمريكية التي وعد بها المبعوث الأمريكي "والسيناتور جون كيري" حال تأزم الوضع، وارتفاع حالة التوتر بين الشمال والجنوب، بالإضافة إلى زيادة قوات حفظ السلام الدولية أيضًا.

 

وتؤكد التقارير الصحفية أن حكومة الجنوب تقوم بتلك التصرفات لتغطية الأعمال العدائية التي تنوي القيام بها بالتعاون مع أوغندا وحركات دارفور المتمردة ضد الشمال.. وتريد الحركة الشعبية تحقيق مكاسب منها حدوث الانفصال قبل ترسيم الحدود ثم وضع اليد على "أبيي" ثم طرد جميع الشماليين العاملين في الجنوب.

 

إدراك الأخطار

وسط أجواء التفاؤل والتشاؤم نجد أن الولايات المتحدة- التي كانت تسمح لانفصال الجنوب من أجل إقامة دولة مسيحية تأتمر بأمرها وإرهاق الشمال بالحروب والصراع- قد تغير موقفها! حيث أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية "فيليب كراولي" أن الاستفتاء حول "أبيي" لن يتم في التاسع من يناير 2011م، كما هو مقرر له، وأن واشنطن تشجع الأطراف على التوصل إلى حل.. وأحد السيناريوهات المطروحة هو إلغاء الاستفتاء مقابل اتفاق يرضي الأطراف السياسية والقبائل المحلية على السواء.

 

ويرى المحللون أن هذا الموقف مقدمة للانسحاب من مشروع فصل الجنوب، ولا سيما أن الأحزاب الجنوبية تتقدم الآن رسميًّا بطعن في الاستفتاء والتسجيل؛ حيث لم يسجل من الناخبين داخل الجنوب وخارجه إلا ثلاثة ملايين فقط من جملة الجنوبيين البالغ عددهم وفق تعداد السكان الأخيرة ثمانية ملايين، أو يزيد قليلاً ثلثهم مسلمون.

 

كما أن مبادرة النمسا تؤكد خوف دول أوروبا، وتطلب ألمانيا تأجيل الاستفتاء ستة أعوام، ولكن أين "إسرائيل" الداعمة الأولى والمُحرِّضة لحركات التمرد في الجنوب منذ عام 1955م، وحركات دارفور الآن، والتي ترغب في الانفصال لسبب رئيس هو نقل مياه النيل بقناة عبر كينيا من دولة الجنوب بعد الانفصال وعبر جهات أخرى حتى "إيلات" والهدف خنق شمال السودان ومصر لتحقيق حلم "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات.

 

ربما أدركت بعض الدول التي كانت متحمسةً للانفصال أن أخطاره كبيرة فسطوة القبيلة الواحدة ما زالت ماثلةً وانعدام الكوادر المدربة لإدارة دولة سيؤدي على حكومة ضعيفة فاشلة لا تقوى على شيء وستسقط نتيجة أطماع الدول المجاورة مثل أوغندا وكينيا وإثيوبيا التي تقع الآن تحت نفوذها.

-------------

* بالاتفاق مع "المجتمع"