الصورة غير متاحة

 د. حلمي محمد القاعود

عجائب لا تنقضي أمام الزفة العربية الدولية لانفصال جنوب السودان عن الدولة الأم، في بداية التفكيك العام لهذه الدولة، وتحويلها إلى كانتونات قبلية وحزبية وعرقية وطائفية، وذلك في مقابل السعي الحثيث لدول أوروبا الشرقية والغربية لتكوين دولة خلافة أوروبية موحدة تتحرك بخطوات سريعة لبناء كيان اقتصادي عملاق يوحِّد العملة والسياسة، ويفتح الحدود، ويتكامل في شتى المجالات، ويتماسك أمام التحديات السياسية والصعوبات الاقتصادية.

 

من يعاني اضطهادًا أو ظلمًا في بلادنا العربية لا يتجه نحو التخلص من الاضطهاد أو الظلم، ولكنه يتجه نحو الانفصال عن الدولة الأم بوصفه حلاًّ سهلاً، ويجد في انتظاره السيد الاستعماري الصليبي يقدم له العون المادي واللوجستي والإعلامي، هذا إن لم يكن هذا السيد هو الذي يحركه ويدفعه إلى الأمام، ويشجِّعه على خوض المغامرة الآثمة!.

 

في انفصال جنوب السودان تُطرَح مغالطاتٌ كثيرة؛ أشهرها أن ما يسمَّى تطبيق الشريعة في السودان على غير المسلمين كان السبب وراء الانفصال، أو قل وراء الحروب المدمّرة التي أزهقت آلاف الأرواح إن لم تكن الملايين.

 

والحقيقة أن الشريعة لم تكن قط هي السبب الحقيقي، فالشريعة لم تطبَّق بالمعني الإسلامي أو بالصورة التي ينبغي أن تطبق بها؛ لأنها اقتصرت على الشكل دون الجوهر الذي يعني العدل والحرية والشورى والكرامة الإنسانية والعمل الجاد والنشاط المستمر لخدمة الوطن والأمة والإسلام في المجالات كافة.

 

السبب الحقيقي واضح ويعرفه كل الناس من أصحاب الضمير، ويرجع إلى الرغبة الشريرة للجهات التنصيرية الاستعمارية في تقسيم السودان، ومثله البلاد العربية؛ لتحقيق مآرب اقتصادية وثقافية.

 

فمنذ جاء الغزاة الاستعماريون الصليبيون الإنجليز إلى مصر وهم يسعون إلى تقسيم السودان وتفتيته، وخلق عازل حضاري بين مصر وعمق إفريقية، وقد زرعوا الفتنة بين أهل السودان ومصر التي كانت تحكم السودان؛ حيث كان ملك مصر هو ملك مصر والسودان، وكانت مصر منذ عهد محمد علي باشا وابنه إبراهيم تضمُّ إليها السودان وإريتريا وأعالي النيل، في ظل حكومات محلية تسير الأمور الداخلية والشئون المحلية، وقد خطَّط الإنجليز لفصل السودان عن مصر أولاً، واستطاعوا أن يشحنوا السودانيين ضد الحكومات المتعاقبة في مصر التي انشغلت في الصراع الحزبي، وألهتها حرب فلسطين- التي انتهت بالنكبة- عما يجري في الجنوب، وما إن قامت حكومة الانقلاب في عام 1952م حتى تهيَّأت الأمور بفضل رعونة بعض أعضاء مجلس الانقلاب للانفصال، وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا العظمى عن طريق الجمعيات التنصيرية التي تقدم الطعام والكساء والعلاج في جنوب السودان تهيِّئ أهله للانفصال عن الشمال، وفضلاً عن تكوين النخب الموالية لبريطانيا فقد أسست بريطانيا الميليشيات العسكرية المسلَّحة التي تدرِّبها هي أو تقوم العصابات اليهودية في فلسطين المحتلة بدلاً منها بالتدريب والتسليح، وقد نشأت عصابة "أنانيا" الجنوبية في الخمسينيات عقب انفصال السودان عن مصر مباشرةً عام 1956م، وبدأت القتال ضد الجيش السوداني، واستقطاب النخب الموالية للاستعمار والثقافة الغربية من خلال طرح عنصري يتهم الشمال بالانحياز للعرب ضد الزنوج؛ الأمر إذًا لم يكن مطروحًا بسبب تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن أحدًا يومئذٍ لم يتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية.

 

وقد جرت في عهد النميري محاولة للصلح برعاية إثيوبيا الممول الرئيس آنئذ للحركة، وعلى ترانيم القساوسة وأجراس الكنائس تم توقيع اتفاق بين الخرطوم وزعماء "أنانيا" في أديس أبابا؛ يمنحهم كثيرًا من صلاحيات الحكم الذاتي، وبعد سقوط نميري وقيام حكومة لإنقاذ برئاسة البشير عاود الانفصاليون الحرب ضد الخرطوم، واستطاعوا أن يضموا إليهم الشيوعيين السودانيين الذين وقفوا موقفًا خيانيًّا خسيسًا بحكم كراهيتهم وعداوتهم للإسلام، وقاد شخص يُدعى منصور خالد- وزير خارجية سابق في السودان- ومعه شخص آخر يُدعي ياسر عرمان قيادة الإعلام في حركة الانفصال التي اتخذت لنفسها اسمًا مخادعًا؛ هو: الجيش الشعبي لتحرير السودان، ومع تنازع الساسة السودانيين في الشمال وطموحاتهم الشخصية الرخيصة، كان الجيش الشعبي الانفصالي في الجنوب الذي تدعمه الولايات المتحدة والكيان النازي اليهودي في فلسطين وعملاء أمريكا في أوغندة وكينيا وإثيوبيا وإريتريا يحقق انتصارات كبيرة، ويخلخل بناء الدولة المركزية اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ولم يكن أمام النظام في الخرطوم الذي فشل في المواجهة العسكرية إلا أن ينحني لما يريده الانفصاليون الأشرار بل الاستعماريون الكبار، ويوقع اتفاق نيفاشا الذي قرَّر لأول مرة حق الانفصاليين في تقرير المصير؛ أي الانفصال، ووضع الجنوب تحت الحكم الذاتي مدة ست سنوات لإقناعهم بخيار الوحدة، ولكنهم عملوا في ظل الحكومة المركزية لانفصال لا رجعة فيه!.

 

ومع أن زعيم الانفصال شغل منصب نائب الرئيس في السودان كله إلا أنه جاهر علنًا بدعوة الجنوبيين للانفصال، بل كان يدعو إلى مطالب ابتزازية، وضمَّ مناطق مليئة بالبترول والثروات المعدنية، بوصفها من الجنوب، على عكس ما قررته دولة الاحتلال بريطانيا العظمى! ثم إن الانفصاليين لم يجدوا- في وقاحة ملحوظة- ضيرًا من المطالبة بقيام حزب للحركة الشعبية لتحرير السودان في الشمال بعد الانفصال!.

 

وكان من المفارقات أن يعرض الرئيس البشير على الانفصاليين التنازل عن بترول أيبي، حتى لا يصوِّتوا للانفصال، ولكن الخونة الانفصاليين ردُّوا في وقاحة ليست غريبة عليهم: إن هذا العرض جاء متأخرًا!.

 

في الوقت ذاته فإن القادة التقليديين في الشمال يكتفون بلوم الحكومة، وطرح مطالبهم السياسية الشخصية عليها لتلبيتها والاستجابة إليها، وإلا فإنهم سيقفون في الجانب الآخر، وبعضهم يقف ليصيح: إن دارفور هي الأخرى ستنفصل!.

 

وذهب الأمر ببعضهم إلى المطالبة بتغيير اسم السودان لأنه لا يعجبه، وكأن القضية تتلخص في الاسم!.

 

أما ما يثير الغيظ حقًّا فهو دعوة بعض الشماليين إلى الانفصال؛ لأن التخلص من الجنوب سيحقق نهضة الشمال، ويخفف عنه أثقال التنمية والتزاماتها في الجنوب.

 

وقريب من هذا ما يقوله بعض الناس في القاهرة: إن مصر يجب أن تحافظ على علاقة جيدة بين الشمال والجنوب؛ حتى لا تتأثر مصالح مصر، وهل ذلك سيحقق فعلاً مصالح مصر أم أن دولة الجنوب المنتظرة ستتحكم في مياه النيل وفي مصر تحكمًا لا يمكن التخلص منه إلا بالحرب؛ لأن العدو النازي اليهودي الذي درّب وسلّح وأيّد جالس هناك منذ زمان بعيد؟

 

لقد ذهب مؤخرًا عدد من الرؤساء العرب في الدول المجاورة إلى السودان ليجلسوا مع البشير وزعيم الانفصال الخائن، ليس من أجل الحرص على وحدة السودان، ولكن من أجل منع الحرب بعد الانفصال، وواضحٌ من سير الأحداث أن الانفصاليين تلقَّوا في السنوات الست الماضية- التي تعدُّ مرحلةً انتقاليةً حتى تاريخ الاستفتاء- أسلحةً ثقيلةً وعتادًا حربيًّا كثيفًا عن طريق كينيا وأوغندا، ويقال إن طائرات عديدة وصلت إلى المتمردين، وهو ما يعني أن الحرب عقب الانفصال ستكون لصالح الانفصاليين، وربما يتمكَّنون من التهام مناطق إضافية في الشمال.

 

بالطبع فالانفصال قادم لا محالة، وسيتبعه انفصالات أخرى في السودان ودول عربية أخرى؛ وذلك لأن أهل الحكم والسياسة آثروا أنفسهم على أوطانهم، فتركوا الملعب خاليًا لدول الشر الاستعماري الصليبي، ومعها دولة العدو النازي اليهودي لتعلب فيه، وتتحرك باطمئنان وثقة لتحقيق هدفها الأكبر، وهو شغل العرب بأنفسهم، ونسيان الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين ويشرد شعبها، ويدمِّر مقدساتها، وفي مقدمة هذه المقدسات المسجد الأقصى، ولو أن هذه الحكومات عالجت الأمور في البداية بحسم وحزم، ورفعت المظالم الحقيقية عن المظلومين، ولم تحارب الإسلام أو تتخذ منه عدوًّا لوفَّرت على نفسها وشعوبها كثيرًا من المتاعب والآلام، بدلاً من المشاركة المخزية باسم الجامعة العربية في زفة الانفصال الآثم تحت مظلة مراقبة الاستفتاء.

 

وليت العرب جميعًا يعلمون أن أمريكا والصهاينة لا يحبونهم، ولن يتخلوا عن عداوتهم الوحشية مهما قدموا من تنازلات وانبطاح، والأولى أن يفكروا ويخططوا ويضحوا في مجال الشرف والكرامة بدلاً من الذل والصغار!.