أريد أن أُهدي ما حدث في تونس للحكام العرب، والدرس الواضح هو أن سكوت الشعوب له حدود، وأنه إذا ثار لن يوقفه أحد، وقد لُوحظ أن الرئيس بن علي قدَّم كل التنازلات الممكنة، فقد أقال الحكومة وشكَّل لجنةً للتحقيق فيمن تسبَّب فيما حدث، وأمر بعدم إطلاق النار على المتظاهرين، ولكن المتظاهرين لا يثقون بالرئيس ونظامه، ويطالبون برحيل الرئيس؛ لأنه لا يمكنه أن يحقق العدل للشعب، بينما الفساد المطلوب تصفيته فساد عائلي، وهو نفس الوضع في الدول العربية الأخرى، ولم تسكت هذه الثورة حتى رحل بن علي وسقط نظامه في يومٍ تاريخي في الساعة السابعة مساءً يوم الجمعة 14 يناير 2011م.

 

وقد طالب المتظاهرون بإنهاء هيمنة الحزب الحاكم على كل مناحي الحياة، كما رفضوا كل محاولات التهدئة، وكشف المحتجون عن محاولات الرئيس ونظامه الزج بميليشيات درَّبتها وزارة الداخلية من البلطجية التي تستخدمها وزارات الداخلية في الدول العربية الأخرى؛ لإحداث انفلاتٍ أمني يُنسب إلى المتظاهرين.

 

وقد لُوحظ أيضًا الفظاعة التي تتعامل بها الشرطة مع الشعب والقسوة التي تمارسها ضده إلى حدِّ القتل والسحل والانتقام، بينما اتخذ الجيش موقف الحياد، بل إن الجيشَ يقوم بحماية الشعب من الشرطة، وهذا هو دأب الجيوش الوطنية بخلاف قوات الأمن التي تخصصت في حماية النظم الفاسدة من هبة الشعوب.

 

الأوضاع التي تعانيها تونس هي نفسها حرفيًّا ما تعانيه الدول الأخرى، فلا فرقَ بين الحزب الحاكم في تونس وشقيقه في مصر، بل إن الكيان الصهيوني والإضرار بمصالح مصر ونشاط الموساد وعجز النظام عن حماية هذه المصالح هو ما يجعل حالة مصر أسوأ بكثير من حالة تونس.

 

أردتُ بهذه السطور أن أُسجِّل عددًا من الحقائق حتى يفيق الحكام العرب الذين يحتمون بالخارج، وقد لاحظنا أن فرنسا التي تحمي نظام تونس لم تتحرك بحماسٍ لدعم المحتجين، وإنما تلقفت تنازلات الرئيس ووعوده، خاصةً أنه سوف يحترم الدستور، لكي تعلن باريس أنها ترحب بهذه المبادرة، ولكن حركة الشارع تجاوزت ذلك كله.

 

لقد حذَّرتُ في مقالةٍ نشرتها (اليوم السابع) في ديسمبر 2007م من مخاطر انعدام مصداقية السلطة في مصر، ولكن السلطة أمعنت في تقديم كل مبررٍ لنزع الشرعية عنها؛ ولذلك فإنني أرجو من السلطة في مصر- حرصًا على مصر لا عليها- أن تقرأ جيدًا ما يحدث في تونس، وألا تستمع إلى غوايات الشياطين الذين تعاقدوا على تعريض مصر للدمار؛ تنفيذًا لرغبات الموساد والكيان الصهيوني، وأن يستمعوا هذه المرة لتوجيهات هيلارى كلينتون لهم؛ لأن الشعوب سوف تطيح بكل شيء إذا تأكدت أن النظام قال كلمته الأخيرة وقد قالها.

 

نريد تشكيل حكومة إنقاذ وطني بعيدًا عن رجال الحزب الوطني الذي أفسد كل شيء، ونريد إنقاذ مصر مما أوصلها إليه هذا الحزب طوال العقود الثلاثة الماضية، وأن يعلن الرئيس أنه لن يترشح مرةً أخرى ولن يرشح نجله، ونحن لا نحتاج إلى شهداء وخراب حتى نصل إلى هذه النتيجة وما بعدها.

 

أما الحقائق التي أريد أن أؤكدها فهي:

أولاً: أن قضاء النظم العربية على مؤسسات المجتمع المدني قد منح النظم هيمنةً مطلقةً، ولكن ذلك فتح الطريق مباشرة بين النظم والشعوب دون وسائط، ومع استمرار تدهور الأوضاع وثورة المعلومات والعولمة لم تعد النظم محل ثقة الشعوب، خاصةً أنها استسلمت للمشروع الصهيوني.

 

ثانيًا: أن عجز النظم عن الالتحام بشعوبها، وتوسيط الأمن دون العمل السياسي عن إدارة البلاد وعن حماية كرامتها، وتجميع كل خطوط السلطة والثروة، وحماية الفساد والانغماس فيه، وسد كل طرق الحوار، وتسفيه قوى المجتمع ونخبه، وإمعان أبواق النظم في الدفاع عن الباطل ضد مصالح الوطن؛ قد فتح الباب على كل الاحتمالات.

 

ثالثًا: أن قوات الأمن جزءٌ من الشعب مثل الجيوش، وعندما تهب الشعوب فإن هذه القوات جميعًا يجب أن تساند نضال الشعوب.

 

رابعًا: أهدت مصر العالم العربي ثورة يوليو لتحريره من الاحتلال الأجنبي؛ بينما تؤدي ثورة تونس إلى تحرير العالم العربي من الاحتلال الوطني.

 

ولكني أدعو الحركة الوطنية في العالم العربي إلى التكاتف والاستعداد لإنقاذ الشعوب من الفوضى، فبوسع الشعوب أن تُسقط الطغاة، ولكن إدارة البلاد بحاجةٍ إلى نخبٍ وطنية منظمة.

 

لقد ودَّع العالم العربي حقبةً كاملةً أهدرت فيها النظم فرصًا ذهبية لاحتقان شعوبها، ولكنها استمدت شرعيتها من الخارج المعادي لمصالحنا، فضعف الطالب والمطلوب، وأخيرًا يعرف العالم العربي عصر الشعوب بعد أن سقطت نظمه الوطنية في الاختبار.