إذا الشعب يومًا أراد الحياة       فلا بد أن يستجيب القدر

سنة كونية وقاعدة للتغيير استدعاها الشعب التونسي ببراعة من شاعره الراحل أبي القاسم الشابي بعد قرابة قرن من الزمان.

 

نعم.. زادت ظلمة الليل سوادًا، وأحكم المستبد الفاسد قبضته على مقاليد الأمور كل الأمور، كما توهَّمت عقول الناس وقلوبهم ومشاعرهم بل وأحلامهم التي لم تعد ملكًا لهم وتحوَّلت إلى كوابيس.. كُتبت التقارير ورُفعت المذكرات، وجلس الجميع فرحًا سعيدًا مطمئنًا؛ لأن كل شيء تمام وتحت السيطرة، الشعب يسبح بحمد القائد، والقلة الشرذمة المندسَّة طُردت خارج الوطن.. الأجواء نقية زاهية، وأخيرًا وسام على صدر القائد من مؤسسة عربية عريقة في مجال الحريات والشفافية والإعلام الرائد!! هذا هو المشهد حتى ظهر محمد البوعزيزي.

 

إشعال محمد البوعزيزي النار في نفسه "تصرف مرفوض شرعًا"؛ لكنه أشعل وقود الحياة والحركة والحرية والكرامة في نفوس وقلوب الملايين من شعب تونس بل وشعوب المنطقة، قد يُكتب عليه تصرفه السلبي المرفوض، ولكن سيُكتب له ملايين التصرفات الإيجابية التي بدت كشرارة غائبة لحياة الأمم، مصائر الناس لا شأن لنا بها "بين يدي الله"؛ لكننا نعاني حالات من الجمود والموت السريري الذي بات بحاجة لزلزال حتى نتحرك، وقد بدأ الزلزال واستمرت توابعه التي لم تتوقف حتى أزاحت رمزًا من رموز الاستبداد والفساد والقمع، وعضوًا عاملاً في نادي المستبدين الفاسدين المسمَّى إعلاميًّا بجامعة الدول العربية.

 

مشهد مهيب لشعب عظيم يقدِّم نموذجًا يدرَّس لمن أراد الحياة، بدأت الغضبة فئوية مع مطالب بالحقوق العادلة والمشروعة في العمل والحياة الكريمة، وتدحرجت كرات الثلج حتى التقى أصحاب المصالح والاحتياجات مع أصحاب الأفكار؛ فكان التغيير والنصر المؤزر.

 

المشهد لم ينتهِ، فما زالت النتائج والدلالات شاهدةً لم تغادر بعد، وما زالت المخاطر والتداعيات تهدِّد الموقف رغم نوعيته بل وروعته.

 

نتائج ودلالات

* الشعوب لا تموت مهما طالت غفوتها، وبذلك فقد أحيت تجربة تونس الأمل في نفوس الشعوب المقهورة.

* انتفاضة الشعوب قد لا تستطيع إقامة الحق والعدل؛ لكنها حتمًا ستهدم الباطل وتزيح الظلم، وهي أولى لبنات البناء المنشود.

* حاجة المعارضة العربية إلى مراجعة مواقفها ومشروعاتها وآلياتها التغييرية، بعد الحدث التونسي النوعي، خاصةً آلية العصيان المدني والمقاومة السلمية، وكمّ الحواجز التي تصطنعها المعارضة لنفسها.

* كذب التقارير التي ترفع للقيادات السياسية العربية من تمام السيطرة والضبط والولاء، وفجأة يجد الحاكم نفسه وحيدًا عريانًا وسط الميدان.

* ضرورة مراجعة الأنظمة العربية لنمط إدارتها وبطانتها؛ حتى لا تصبح فريسة للتقارير والأجهزة الأمنية والاستخباراتية.

* ضرورة تنقية المؤسسات الرئاسية والاختيار الأنسب لأهل الكفاءة، فقد كانت كلمة الجنرال زين العابدين بن علي "تمت مغالطتي" رسالة لها دلالات عدة على تفشِّي الفساد في كل مؤسسات الدولة، خاصةً الرئاسة وشخص الرئيس.

* إصرار أنظمة الاستبداد والفساد على الوجود لآخر لحظة، والالتفاف بكل الطرق على إنجازات ومكاسب الشعوب "تنصيب محمد الغنوشي بصفته الوزير الأول بالمخالفة للدستور، ثم الالتفاف مرة أخرى بتكليفه تشكيل الحكومة الجديدة".

* تخلِّي الدول الاستعمارية التي تظهر الصداقة والتحالف عن أدواتها "الحكام العرب" في تنفيذ مشروعاتها الخاصة؛ إعمالاً لمبدأ المصالح الدائمة، والتي هي بطبيعة الحال مع الشعوب لا الأنظمة.

 

مخاطر وتداعيات

* الالتفاف على هذه الانتفاضة الشعبية، خاصةً أن بقايا منظومة الاستبداد والفساد والقمع ما زالت واضحةً في المشهد.

* استمرار حالات الفوضى والنهب والسلب "انسحاب الأمن يثير القلق والتخوف وعدم الثقة"؛ ما يعرّض البلاد للمخاطر.

* غياب التوافق الوطني، وغالبًا حالات الشقاق، وغياب الوفاق بين القوى الوطنية والأحزاب السياسية.

* الانشغال عن البناء والوحدة بتصفية الحسابات وتوزيع الهدايا والهبات، والحقائب والوزارات.

* محاولة البعض إفساد التجربة بعموم حالات الفوضى والنزاع والشقاق؛ ما يهدِّد حياة الناس لتصل الرسائل المرفوضة؛ رسائل اليأس من تجارب ونماذج التغيير، وأن الاستقرار في ظل الاستبداد هو خلاصة طموح الشعوب!.

 

وأخيرًا.. لقد دفع شعب تونس الثمن من الشهداء والجرحى والأسرى، وسيجني ثمار شجرة الحرية والديمقراطية وعن قريب.