"مَدُّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي..

كل شيء إلى نماء، وتدفق وازدهار:

الأمهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء، الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة.. السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج.. كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد.

 

بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشةً ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات! والحياة ماضية في طريقها حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه!

 

قد تصرخ مرة من الألم حين ينهش الموت من جسمها نهشة، ولكن الجرح سرعان ما يندمل، وصرخة الألم سرعان ما تستحيل مراحًا، ويندفع الناس والحيوان، الطير والأسماك، الدود والحشرات، العشب والأشجار تغمر وجه الأرض بالحياة والأحياء"(1). ا.هـ.

الفقرات من رسالة بعث بها "سيد قطب" إلى أخته.

 

هذا السيد القطب ما كان فكره القرآني الفريد محل جدل إلا لأنه متعلق بالقرآن الذي هو محل جدل قديمًا وحديثًا! محل جدل بين المؤمنين والجاحدين، يؤمن المؤمن ويسلم، ويجحد الجاحد وينكر، ولست أذهب بكلامي إلى غير ما قال الإمام مالك- رضي الله عنه- كلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم، وأشار إلى قبره- صلى الله عليه وسلم.

 

لا محل لهؤلاء:

وإزاء المنكرين لبعض أقوال المستظل بالقرآن، يجب أن نُقصي فئات بعينها فلا يُلتفت إلى أقوالها مهما علت أصوات أصحابها:

1-  العلمانيون بحكم إلحادهم ووثنيتهم وكراهيتهم، وحربهم على الإسلام.

2-  الماركسيون بمسمياتهم، وهم فصيل علماني.

3-  الجلادون بحكم كونهم سياطًا في أيدي العلمانيين والماركسيين، وغيرهم من المارقين.

4-  الجهال بالإسلام ومحتواه، رغم تسميتهم بأسماء المسلمين، أو انتمائهم العربي، أو القبلي لبعض مجتمعاتنا.

 

أضع هذه المحدِّدات في بدء مقالات عن الشهيد الرباني الرسالي "سيد قطب"- رحمه الله، وطيب ثراه.

 

الجاهلية في القرآن

أتبع ذلك الاستثناء البدهي ببيان حصري لكلمة "الجاهلية" في القرآن الكريم، الكلمة التي توسع "سيد قطب" في توظيفها في ظلاله الوارفة، وفي كتبه، ثم تبعه شقيقه "محمد قطب"- بارك الله في عمره- في كتابه (جاهلية القرن العشرين).

 

ذُكرت كلمة الجاهلية في القرآن الكريم في أربعة مواضع، هذا بيانها:

1-  الظن الباطل، والفكرة الخطأ:

قال تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (آل عمران: من الآية 154).

 

2-  الحكم بغير ما أنزل الله:

قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)﴾ (المائدة).

 

3-  العادات والسلوكيات المغايرة والمضادة للإسلام:

قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب: من الآية 33).

 

4-  العصبية الطينية والوثنية:

﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (الفتح: من الآية 26).

 

يتضح من عرض المواضع الأربعة لكلمة "الجاهلية" في القرآن الكريم أنها متعددة المدلولات، وتتراوح بين "المعصية"، و"الكفر" بدرجاته. فالجاهلية "وصف عام" للحالة غير الإسلامية، وصف قد يكون صاحبه "عاصيًا"، وقد يكون "كافرًا". وليس المجال مفتوحًا ليتأول كل متأول حسب ظنه، أو هواه، ولكن إطلاق الأحكام من اختصاص العالم الفقيه، وليس المقلد، وكذلك من اختصاص القاضي.

 

حادثتان:

- ذات يوم قال أبو ذر لبلال- رضي الله عنهما- يا ابن السوداء، حدث ذلك في مجلس النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال النبي لأبي ذر "إنك امرؤ فيك جاهلية" (رواه مسلم). هنا يصف النبي صاحبه أبا ذر بأنه فيه خصلة جاهلية، وهي تعيير الغير بصفة أمه، صفة "السواد". فلا يصح من مسلم أن يعيّر مسلمًا بوصف مذموم، قال تعالى: ﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ (الحجرات: من الآية 11).

 

- وذات يوم حكم القضاء المصري على المدعو نصر حامد أبو زيد بالردة عن الإسلام، وذلك لإتيانه أقوالاً وتعبيرات لا تحتمل غير الكفر فحكم القاضي بكفره. ثم حكم القاضي بالتفريق بينه وبين زوجته.

 

الحادثتان تظهران الفرق الواسع والبون الشاسع بين جاهلية ظهرت في تنابز بلقب، وجاهلية ظنون، وتصورات باطلة بحق الذات الإلهية والشريعة.

 

الشمس تطلع، والشمس تغرب..

والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك..

كل شيء إلى نماء.. نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف..

لو كان الموت يصنع شيئًا لوقف مدُّ الحياة! ولكنه قوة ضئيلة حسيـرة بـجـانـب قـوى الـحـيـاة الـزاخـرة الـطـافـرة الغامرة!

من قوة الله الحي تنبثق الحياة وتنداح(2)!!

***

ومن لم يحكم بما أنزل الله

للحكم على الحاكم- كل حاكم بمستواه- بغير ما أنزل الله ثلاثة أحكام متباينة:

الحكم الأول: الكفر:

قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 44). وقال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾ (النساء).

 

وهو وصف للكفار الأصليين، ومن ماثلهم ممن ينتسبون للإسلام اسميًّا أو مجتمعيًّا.

 

الحكم الثاني: الظلم:

قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة: من الآية 45).

 

وهو وصف للمستبدلين الله أحكامًا أخرى حسب أهوائهم، إعراضًا أو استحسانًا منهم، ممن ينتسبون إلى الإسلام ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ (المائدة: من الآية 50).

 

الحكم الثالث: الفسق:

قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (المائدة: من الآية 47).

 

وهو وصف لمن يخالف الشرع الإسلامي بشرع مزعوم أو موهوم، أو بهواه كمن يخالف التوراة، في حالة عدم التغيير في الإنجيل- فيما سبق أي فيما لو لم ينسخ الإنجيل التوراة- إنه تبديل الشرع الأصلي بما يخالفه.

 

وهنا نقول في الأحكام الثلاثة: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ في شرعنا.

 

قدمت بهذا التوضيح لأن الحكم بغير شرع الله صفة جاهلية، وهي صفة تعني "الكفر"، أو "الظلم"، أو "الفسق"، وليست تعني وصفًا واحدًا. ثم إن العالم، أو القاضي هو الذي يحدد الصفة حسب الحالة.

 

حوار:

س: انطلقت في الفترة الأخيرة حركات إسلامية غلبت عليها صبغة الشباب، اتخذت من فكر الشهيد مرتكزًا لتكفير المجتمع كله ومحاربته.. ما تعليقك على هذه المقولة؟

جـ: سيد قطب مظلوم.

 

عاش مظلومًا، ومات شهيدًا متهمًا مظلومًا!.

 

والعجيب أنه ظُلم من فريقين من الناس:

- ظُلم من قِبَل أعدائه- وهم أعداء هذا الدين- حيث اتهموم بأبشع الاتهامات، ونسبوا له باطل الكلام، ووصفوه بأشنع الصفات.

- وظُلم من قِبَل فريق ممن يزعم محبته له، وتتلمذه عليه، والتزامه بفكره، ثم ظلموه عندما أخطأوا في قراءة كلامه، وفهم عباراته، حيث خرجوا منها بنتائج باطلة ظاهرة البطلان، ومع ذلك زعموا نسبتها لـ"سيد" وقوله بها. ومن هذه المزاعم: أنه يكفر المجتمع كله، إلا أفراد الجماعة، وأعضاء التنظيم، ومن ثَمّ يرتبون على هذا الزعم آثارًا مدمرةً خطيرةً، حيث يبيحون حمل السلاح في وجه المجتمع، ويبيحون دماء، وأموال أفراد المجتمع، ويحرمون ذبائح هؤلاء الأفراد، ونكاح بناتهم، ويطبقون كل أحكام المشركين والكافرين عليهم. ويزعمون أن "سيد قطب" نادى بكل هذا، وأثبته في "الظلال"!

 

وفي هذا المقام أكتفي بإيراد عبارات جازمة لـ"سيد"، فقد قال لـ"زينب الغزالي" تعقيبًا على نسبة بعضهم له قوله بتكفير غير الإخوان: "إن هذا فهم خطأ لما كتبه، وسيوضحه في الجزء الثاني من المعالم. وقال رحمه الله: "وقد أجاب المحقق صلاح نصار عن الفرق بين المنتمي للإخوان، وغير المنتمي لهم: "الذي يميز الإخوان أن لهم برنامجًا محددًا في تحقيق الإسلام، فيكونون في نظري مُقدِّمين فقط على من ليس لهم برنامج محدد"(3).

 

ترجمان الظلال:

يسعفنا في هذا المقام الشيخ الجليل محمد متولي الشعراوي- رحمه الله- وقد أحسن فهم "الظلال"، وصار يتحدث به إلى جمهور العامة، بل إلى المثقفين تفهيمًا للقرآن، وقد ألمح، بل صرح بذلك مرات عديدة. فهل كفَّر الشيخ الشعراوي المجتمع؟ وإن زعم أحد ذلك أو افتراه- كما حدث من بعض صحف العلمانيين، أو الماركسيين- وكلامهم مرفوض، وحديثهم مردود بحكم تخندقهم في الخنق المعادي للإسلام، وللمسلمين جملةً وتفصيلاً، وهم أعداء سيد قطب، والشيخ الشعراوي على السواء، تفريعًا على عدائهم للإسلام.

 

التوأم القرآني الفريد!

"سيد قطب"، و"الشعراوي" ثنائي حبّب الله إلى خلقه المسلمين من خلال عرض القرآن الكريم بالأسلوب الفصيح في "الظلال"، ومن خلال "الخواطر" بشيء من العامية المنطوقة(4) في الإذاعة والتلفاز، وبالفصحى السهلة في تفسيره المكتوب المطبوع.

 

وكما تعرض "المستظل بالقرآن" من الخصوم، وأعداء الإسلامية، فقد تعرض الشيخ الشعراوي للاعتداء الهمجي على صفحات الصحف المصرية والعربية المأجورة، صحف الطابور الخامس المصري والعربي.

 

وأما التساؤل بشأن موتة الشهادة بالإعدام لصاحب "الظلال"، وموتة الفراش لصاحب "الخواطر" فهذا أمر قدره الله، وأجراه حسب علمه وحكمته. وربما جاز لنا القول بأن خصوم، وأعداء الإسلامية قد أدركوا الفشل في منع التمدد الإسلامي القرآني بقتل القرآنيْين "حسن البنا"، و"سيد قطب"، فلم يكرروا الـحـكـم بـالإعـدام عـلـى الـشـيـخ الشعراوي.

 

قال الشهيد:

"بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر..

إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعًا، ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجرة الخير النور والهواء، ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء؛ لأن عمق جذورها في التربة يعوضها عن الدفء والهواء..

 

مع أننا حين نتجاوز المظهر المزور البراق لشجرة الشر، ونفحص عن قوتها الحقيقية وصلابتها، تبدو لنا واهنة هشة نافشة، في غير صلابة حقيقية!

 

على حين تصبر شجرة الخير على البلاء، وتتماسك للعاصفة، وتظل في نموها الهادئ البطيء، لا تحفل بما ترجمها به شجرة الشر من أقذاء وأشواك!" (5) ا.هـ.

***

ارتفاع سيد.. وسقوط عبد الناصر

الجحود وصف قرآني للمشركين ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)﴾ (النمل).

 

لقد أفسد خصوم الإسلام أيما إفساد في مصر، منذ انحرف الضباط الصغار بحركتهم التي قامت، ونجحت بهمة الإخوان المسلمين، وليس ذلك سرًّا. ثم تآكلوا فيما بينهم ظلمًا وعلوًا وفسادًا! ثم تحولت الفئة الباغية الظالمة المستعلية الفاسدة لتنهش أصحاب الفضل بدءًا من تمثيلية المنشية في عام 1954م، ثم استعلى زعيم الفئة الباغية- جمال عبد الناصر- فقدم "سيد قطب" قربانًا يتودد به إلى جميع أعداء الإسلام في الشرق الشيوعي، وفي الغرب الرأسمالي!! وقبل فجر الإثنين 29/8/1966 ارتفع الشهيد "سيد قطب"، ثم في 5 يونيو 1967 سقط الزعيم "جمال عبد الناصر" في الحفرة الإسرائيلية!!

 

تفسير فريد

س: من خلال معايشتك لفكر الشهيد، أين تضع "في ظلال القرآن" بين التفاسير القديمة والحديثة؟

جـ: أشير في هذا المقام إلى خطأ يردده بعضهم عن "الظلال"، وهو لا يعدو أن يكون إشاعةً من الإشاعات، وقد راجت هذه الإشاعة على بعض الدارسين للإسلام، يقولون: إن "الظلال" ليس تفسيرًا للقرآن، وإنما هو مجرد عواطف، ومشاعر، وأدب ووجدان، وصاحبه لم يعتبره تفسيرًا ولذلك أسماه: "في ظلال القرآن".

 

ولقد فنّدت هذه الإشاعة، وبيّنت خطأ هذا القول في كتابي "مدخل إلى ظلال القرآن". كان "سيد قطب" يعتبر الظلال تفسيرًا للقرآن، وسجل هذا في عدة مواطن في "الظلال". كما كان يعتبر ظلاله توصيلاً بين المسلمين والقرآن، ووسيلة إلى حسن فهم القرآن وتدبره، وهدف في "الظلال" إلى أهداف علمية، وعملية، وتفسيرية، ودعوية حققها فيه..

 

إنني أعتبر "الظلال" تفسيرًا للقرآن، وأعتبره لونًا جديدًا في التفسير، ونقلةً بعيدةً في التفسير، ولهذا لا يغني عنه أي تفسير، ولا يستغني عنه مسلم بصير.

 

وأعتقد أن "سيد قطب" قد أرسى بالظلال مدرسة جديدة في التفسير، هي مدرسة "التفسير الحركي"، كان هو الرائد، والمؤسس لهذه المدرسة، وكان ظلاله هو الأساس المتين، والبداية الموفقة.

 

لقد حقق "سيد" بظلاله شروط التفسير الذي يحتاجه مسلمو هذا العصر، وبخاصة دعاته:

* فلاحظ أغراض القرآن العملية، وانطلق منها في التفسير، وهدف منه إلى تقديم زاد عملي مكتوب للتربية والدعوة والجهاد.

* وسجل معاني القرآن التي فهمها الصحابة من القرآن وعاشوها عمليًّا، فكانوا جيلاً قرآنيًّا فريدًا.

* وتجاوز عصر الخلاف المذهبي، والكلامي، والسياسي بين المسلمين.

* وعاد إلى معين القرآن مباشرة، وقدم لنا ما قدم من معاني القرآن وحقائقه.

* ووضح لنا نظرية حركية لفهم القرآن وتفسيره.

* ودلنا على المفاتيح لفهم القرآن وفتح كنوزه.

* وبين لنا أن القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يتحرك به في عالم الواقع، ويواجه الجاهلية من حوله به، ويجاهدها من خلاله.

* وقدم لنا هذه المعاني والحقائق في قالب فني أخّاذ، وصورة أدبية ساحرة، وصياغة بليغة سلسة.

* وكتب لنا ظلاله من الميدان، من الجبهة، وعاشه عمليًّا في حياته، عاشه كلمة كلمة، وفكرة فكرة- كما قال الأستاذ محمد قطب:

لقد كتب "سيد قطب" مرتين: مرة بمداد العالم، ومرة بدماء الشهيد(6)! ا.هـ.

 

تجديد في زمن الركود

لا يبالغ من يقول إن "سيد قطب" بفكره، و"ظلاله" جزء من حركة تجديد الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، حركة التجديد التي قادها "حسن البنا"- رحمه الله، وطيب ثراه.

 

وقال في رسالته إلى أخته: "عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرًا كثيرًا قد لا تراه العيون أول وهلة!

 

لقد جربت ذلك، جربته مع الكثيرين.. حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور..

 

شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيء من الود الحقيقي لهم، شيء من العناية- غير المتصنعة- باهتماماتهم وهمومهم.. ثم ينكشف لك النبع الخيّر في نفوسهم، حين يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص"(7). أ.هـ.

***

توبوا واستغفروا

كان النبي- صلى الله عليه وسلم- ينظر في أحوال الناس، يفتش عن المزايا، فقد استقبل سفـّانة بنت حاتم الطائي السخي العربي الذي مات مشركًا، وفك أسرها قائلاً: "يا جارية لو كان أبوك إسلاميًّا لترحمنا عليه، خلّـوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق". ثم شفعت "سفـّانة" بين يدي النبي لأخيها عدي بن حاتم فقبل شفاعتها، فجاء من الشام، فأسلم بين يدي الهادي البشير..

 

وذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- عنترة بن شداد معجبًا بفروسيته، وما ذلك الهدي النبوي في البحث عن مزايا النفوس، حتى في أحوال الهالكين إلا منهجًا في ممارسة الدعوة لفتح مغاليق النفوس بالحق، ومن أجل غرس الحق في النفوس من خلال مزاياها.

 

فإن كان ذلك المنهج مع المشركين، أيكون منهج "سيد قطب" هو تكفير المسلمين؟! إن الادعاء بأن "سيد" كان يُكفـِّر ادعاء كاذب، أو قول ظالم يجب على فاعله أن يقلع عن إفكه، أو يستغفر كثيرًا مَنْ ظلمه.

 

أمريكا سبب الإعدام

كتب الدكتور "صلاح الخالدي" المتخصص في "سيد قطب" يقول:

"ولما كنا نطّلع على آثار "سيد قطب" المختلفة، من مقالات ودراسات وقصائد وكتب- في أثناء إعدادنا رسالتي الماجستير والدكتوراه- فقد وقفنا على مقالات لـ"سيد قطب" بديعة عن أمريكا وحقيقتها وقيمها ورسالتها وخطرها، كما وقفنا على إشارات عن أمريكا ورسالتها وخطرها في مقالات ورسائل له، وفي مؤلفات أصدرها- ومنها الظلال- وقد أعجبنا بما في تلك المقالات والإشارات من تحليلات دقيقة، ونظرات نافذة، ومعلومات صحيحة، وكلام سليم، وتقييم مطّرد دائم. وقد حصّل "سيد" ذلك كله عندما أُوفد إلى أمريكا في نهاية الأربعينيات، وبقي فيها سنتين كاملتين(8).

 

أمريكا التي عرفها "سيد"

يقول د. الخالدي:

أمريكا قد ورثت عن الدول الغربية الاستعمارية استعمارها(9) وسلطانها على البلدان التي كانت خاضعة لسلطان تلك الدول- إلا ما خضع للاستعمار الروسي- بل إن الدول الغربية الاستعمارية ذات التاريخ الاستعماري- إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وهولندة، وبلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا- أصبحت خاضعة لأمريكا، دائرة في فلكها، متمتعة بحمايتها. إن أمريكا بدأت تظهر بوجهها الاستعماري الكالح في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي حطمت الدول الأوروبية المستعمِرة، وجعلت شمسها تغرب عن مستعمراتها، فاستلمت أمريكا الراية الاستعمارية الجاهلية الدَّنِسة، وأمعنت في استعمارها، وهيمنتها، وسلطانها على البلدان الخاضعة لها على الطريقة الأمريكية البدائية بصلفها وعنجهيتها وغرورها وانتفاشها.(10)

***

الإسلام الذي يريده الأمريكان

حين يتخصص دارس، وباحث مثل الدكتور صلاح الخالدي في فكر "سيد قطب"، فإنه يكون مثل الطبيب الجراح الذي يمكنه تشريح الإنسان، تشريح أي جزء منه تشريحًا صحيحًا للكشف عما فيه، فيعطي معلومات صحيحة، ونتائج سليمة.

 

سجل الدكتور "الخالدي" ما رصده "سيد" عن أمريكا والإسلام، فأورد تحت عنوان (الإسلام الذي يريده الأمريكان):

"والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط (11) ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية! إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سيُنشِئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلـِّم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمــر فريضــة، وأن الشيوعيــة كالاستعمــار وباء فكلاهما عدو، وكلاهما اعتداء".(12) أ.هـ.

 

فكرة "سيد قطب" إذن عن أمريكا كانت فكرة مبكرة قبل عام 1952م!(13)

 

فنقول الآن صدقت يا "سيد"، وبالحق نطقت!

 

إنها أمريكا التي أجادت توظيف الإسلام بواسطة المسلمين الذين استنهضهم لمحاربة الغزو السوفيتي لأفغانستان فنفروا إلى هناك، وبقيت أمريكا تمد العرب المسلمين بواسطة قيادات عربية، ليقاوموا السوفيت، ويجاهدوا في سبيل الله- حسب نياتهم- ثم بقيت أمريكا متربصة بالموظفين التلقائيين، أو المصنوعين من المسلمين، واستمر الجهاد الإسلامي للسوفيت الشيوعيين حتى انسحبوا من أفغانستان مهزومين.

 

فماذا بعد انسحاب الدب الشيوعي؟

هل قامت الدولة الإسلامية المنشودة في أفغانستان؟

لا، وألف لا!

 

لا يمكن أن تسمح أمريكا بقيام كيان إسلامي يحكم نفسه، وينشئ الشعب نشأة أخرى؛ ليعد القوة الإسلامية.

 

إن أمريكا لا تطيق ذلك حسبما أدرك "سيد قطب" مبكرًا.

- وهي أمريكا التي كانت وراء إيقاف الانتخابات الجزائرية عام 1991م، حين برزت "جبهة الإنقاذ الإسلامية" إلى الواجهة، بعد فوزها في الجولة الأولى للانتخابات التشريعية.

- وهي أمريكا التي تقف مباشرةً الآن في مواجهة "حماس" في فلسطين، لأنها- أي حماس- نجحت في الانتخابات التشريعية، وتريد إنشاء كيان إسلامي يحكم نفسه. إن أمريكا لا تطيق ذلك حسبما قال "سيد قطب" عام 1952م! وحين نظر في حالها، وعرف من حقيقتها حسب الأمر القرآني: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا﴾ (الأنعام: من الآية 11).

 

قال الشهيد الرباني: "إن الشر ليس عميقًا في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحيانًا. إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء.. فإذا آمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية..!

 

هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يُشعر الناس بالأمن في جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم وعلى أخطائهم وعلى حماقاتهم كذلك..

 

وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون.. لقد جربت ذلك، جربته بنفسي، فلست أطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأوهام.(14) أ.هـ.

***

مع قساة الطباع

ما هذا الكلام الذي لا نكاد نجد له مثيلاً في لغات الدعاة المعاصرين؟ وأين التكفير المزعوم للمجتمع؟ ما هذا الرفق بذوي القشور الشريرة، حتى إن كانت صلبة؟! فهل هؤلاء الأشرار حبات بندق، أو عين جمل، أو فستق، أو حتى جوز الهند؟!

 

خيبة أمل أمريكا

يقول د. الخالدي:

عاد "سيد قطب" إلى عمله في وزارة المعارف، في إدارة التفتيش الفني، عاد مؤهّلاً بخبرات وتجارب ومناهج من بعثته إلى أمريكا؛ تؤهله ليمارس دوره في وضع المناهج والنظم التعليمية للوزارة، وهو مَنْ الأنسب منه ليقوم بذلك العمل، وهو العائد من أمريكا؟!

 

توقعت أمريكا وعملاؤها في مصر من "سيد" أن ينقل المناهج والأساليب الأمريكية إلى مصر، وأن يتبناها ويقررها. ولكن سُرعان ما فُجعوا في "سيد"، وتبددت أحلامهم وخابت ظنونهم.

 

لقد عاد "سيد" إلى مصر رجلاً مؤمنًا ملتزمًا، صاحب رسالة ودعوة وغاية، استمدها من دينه، وسعى إلى أداء رسالته وحرص على مرضاة ربه، فعمل على النظر في المناهج والنظم والأساليب التعليمية من خلال الإسلام، ومبادئه وتوجيهاته، وهو في هذا أغضب الأمريكان وعملاءهم، فحصل الصدام بينه وبينهم، ووقفوا في وجهه، وعملوا على عرقلة عمله، وتعطيل خطته، ونتج عن ذلك الحيلولة بينه وبين العمل والتنفيذ، فأصبح عمله في وزارة المعارف "مشلولاً.

 

ولذلك لم يجد أمامه إلا الاستقالة من الوزارة، حيث تفرغ بعد ذلك للعمل للإسلام كتابةً ودعوةً وجهادًا.(15) أ.هـ.

 

وهنا استدعى القارئ ليعمل مقارنة بين "سيد قطب" بعد عودته من أمريكا، و"طه حسين" بعد عودته من فرنسا؛ لنعرف الفرق بين الأصيل والمزيف، ولنعرف حقيقة أكثر البعثات إلى الشرق والغرب، خاصة بعد عودة المبتعثين.

 

لست دكتورًا!

يحكي د. الخالدي:

وبعدما عاد من أمريكا ظن البعض أنه حصل على درجة الدكتوراه، وأطلقت عليه إحدى الصحف لقب "دكتور" فسارع بالتصحيح، وأنه ليس دكتورًا!!

 

يقول السيد عباس خضر- والكلام للدكتور الخالدي- عن هذا:

كان "سيد" جادًّا مترفعًا، أذكر عقب عودته من أمريكا أن كتبت عنه جريدة (المصري) شيئًا قالت فيه "الدكتور سيد قطب" فكتب في العدد التالي أنه ليس دكتورًا! وكان يمكن أن يترك ذلك اللقب يجري على الأقلام، والألسنة ويشيع، كما يفعل بعض المواطنين.(16)

 

فارس قومه

يقول د. الخالدي:

وبعدما ترك وزارة المعارف صار يهاجم أمريكا باستمرار، يهاجمها في رجالها وعملائها، في حياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، في مناهجها التعليمية والاجتماعية، ويكشف دورها في السيطرة على بلدان العالم الثالث، ويفضح أساليبها في توجيه الحياة في مصر- وغيرها- إلى الوجهة الأمريكية، ويبين نفوذها، وسيطرتها على وزارة المعارف، وعلى صحف ومجلات مصرية، وعلى رجال السياسة والاقتصاد والأدب والفكر في البلاد.

 

ما ترك وسيلة متاحة إلا واستخدمها في هذه المهمة، سواء كانت جلساته، وأحاديثه، وحواره مع الناس، أو مقالاته في الصحف والمجلات، أو محاضراته في النوادي والجمعيات، أو تحليلاته السياسية أمام الزائرين، أو كتبه التي يصدرها.(17) أ.هـ.

 

عدونا الأول

يسجل د. الخالدي من أحد مقالات "سيد" تحت هذا العنوان: "عدونا الأول: الرجل الأبيض"، كتب رحمه الله:

الذين يعتقدون أن الأمريكان يمكن أن يكونوا معنا ضد الاستعمار الأوروبي هم قوم إما مغفلون، أو مخادعون، يشكلون طابورًا خامسًا(18) للاستعمار المنتظر لبلاد الشرق الإسلامي.

 

إن مصالح الاستعمار الأمريكي قد تختلف أحيانًا مع مصالح الاستعمار الأوروبي، ولكن هذا ليس معناه أن يكونوا- أي الأمريكان- في صف استقلالنا وحريتنا. إنما معناه أن يحاولوا زحزحة أقدام الأوروبيين ليضعوا هم أقدامهم فوق رقابنا. وفي الغالب هم يجدون حلاًّ لخلافاتهم مع الاستعمار الأوربي على حسابنا.

 

إن الرجل الأبيض هو عدونا الأول سواء كان في أوروبا، أو كان في أمريكا، وهذا ما يجب أن نحسب حسابه، ونجعله حجر الزاوية في سياستنا الخارجية، وفي تربيتنا القومية كذلك.

 

ولكن الذي نفعله هو عكس هذا على خط مستقيم، عندنا في وزارة المعارف عبيد للرجل الأبيض، عبيد يعبدون هذا الرجل كعبادة الله، بل إنهم ليلحدون في الله، ولا يلحدون في أوروبا أو أمريكا، سرًّا وعلانيةً!

 

عندنا فتات آدمي ينظر إلى الرجل الأبيض نظرة التقديس، ويطبع مشاعر الطلبة الذين سيصبحون مدرسين بطابع الإعجاب، والقداسة لأولئك المستعمرين القذرين، الذين يحتقروننا ويهينون كرامتنا، جناية قومية، وجناية إنسانية.(19) أ. هـ.

------

الهوامش:

1- من مقال نشر بمجلة (المختار الإسلامي) العدد الأول، بعنوان (رسالة إلى أختي).

2- من (رسالة إلى أختي)- مجلة (المختار الإسلامي)- العدد الأول.

3- العالم الإسلامي- ملحق (مجلة العالم)- لندن- السنة الرابعة- العدد 189.

4- العامية حرب على الفصحى "كتابة"، ويُتسامح فيها شفهيًّا من أجل شيء من التواصل مع العوام… ويجب الارتفاع بالناس تدريجيًّا بالفصحى السهلة.

5- من (رسالة إلى أختي) مجلة (المختار الإسلامي)- العدد الأول.

6- حوار مع الدكتور صلاح الخالدي، ملحق (العالم الإسلامي) لمجلة (العالم)- لندن- العدد 189.

7- من (رسالة إلى أختي)- (المختار الإسلامي)- العدد الأول.

8- أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب ص7.

9- يعترض لغويون على توظيف كلمة (استعمار) لأنها من الفعل (عَمَّر)، ولما كانت حقيقة الاحتلال هي التخريب فقد صار اللفظ المناسب هو (الاستخراب).

10- المصدر السابق ص5.

11- الشرق الأوسط هو المنطقة الجغرافية الواقعة حول وشرق وجنوب البحر المتوسط، وتمتد إلى الخليج العربي.

سميت هذه المنطقة في زمن الكشوف الجغرافية. تقع معظم دول الشرق الأوسط في قارة آسيا، وقبرص الأوروبية، ومصر الإفريقية.

12- من مقال "سيد قطب" بمجلة (الرسالة) السنة (20) العدد 991 سنة 1952م صفحات 713- 715 من المجلد.

13- كان مبعوثًا من وزارة المعارف لدراسة النظم التعليمية هناك، من أغسطس 1948 حتى أغسطس 1950م.

14- من (رسالة إلى أختي)- مجلة (المختار الإسلامي)- العدد الأول.

15- أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب، ص39، ص40.

16- أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب ص39.

17- أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب.

18- مصطلح "الطابور الخامس" ظهر أثناء الحرب العالمية الثانية، ويقصد به عملاء العدو في الداخل، وهو تعبير مرادف لتعبير "المنافقين" في الإسلام.

19- أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب ص41.