البنا.. صائد القلوب ومحيي الأخوَّة


ترجمة وإعداد: أحمد يوسف*

ولد الشيخ “علي علوي كورجو” في مدينة “قونية” التركية عام 1922م، حفظ القرآن الكريم في سن الطفولة؛ ثم هاجر إلى المدينة المنورة مع عائلته عام 1939م؛ وسافر إلى القاهرة في عام 1940م، ودرس في جامعة الأزهر، وهناك قابل الإمام حسن البنَّا، وظل يلتقيه طوال سنين الدراسة، حيث مكث 6 سنوات في القاهرة، عمل مديراً لمكتبة “عارف حكمت” بالمدينة المنورة حتى عام 1985م، له عدة مؤلفات دينية وتاريخية ودواوين شعرية تولت العناية بها وطباعتها “دار المعرفة” في إسطنبول، يعد من الشعراء الأتراك المعدودين في تركيا الحديثة كـ”محمد عاكف أرصوي” وغيره، عاش 62 عاماً في المدينة المنورة، وتوفي فيها عام 2002م، ودفن في “البقيع".


وقد عاش الشيخ على علوي سنين حياته خارج موطنه، في زمنٍ كان العالم الإسلامي يعجُّ فيه بأحداث جلل (1922 - 2002م)، وقابل العديد من الشخصيات الإسلامية التي كان لها دور كبير في التاريخ الحديث من العلماء والمجاهدين ومؤسسي الحركات كالإمام البنَّا، والشيخ أمين الحسيني، والشيخ أبو الحسن الندوي، وسيد قطب، الشيخ محمد شاكر، الشيخ سعيد الزمان النورسي، والشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ زاهد الكوثري، وشيخ الإسلام مصطفى صبري أفندي، وإحسان أفندي.. عاصر هؤلاء العظماء من أعلام الأمة وعايشهم وتعلم منهم، وله معهم من الخواطر والمواقف الكثير، سجلها بقلمه وعاشها بنفسه، وفيها من التاريخ والعلم والأخلاق والدلائل ما يحتاج للوقوف عليه فيما نراه من أحداث السنين التي نعيشها. ذكر الشيخ في مذكراته التي تتكون من ثلاثة مجلدات قصة حياته وتعلمه ودراسته ومواقفه وكل الشخصيات المؤثرة التي قابلها من العالم الإسلامي.


بداية تعرفه على البنَّا


يقول الشيخ “علي علوي كوروجو”: خرجنا ذات يوم من درس الشيخ “إحسان أفندي”(1) في القاهرة عائدين إلى المنزل، كنا وقتها ثلاثة؛ أنا، ومصطفى ريون، وعلي يعقوب(2)، كان هذا عام 1942م وكان عمري وقتها عشرين عاماً فقط. عبر أمامنا شخص معمم ملتحٍ يرتدي عباءة، وإلى جواره أربعة أو خمسة أشخاص، إلا أن الذي لفت نظري أن هذا الشخص ذا السن الذي يتراوح بين 35 - 40 عاماً كان أكثر ممن كانوا معه نشاطاً وروحاً. قال لنا “مصطفى ريون”: يا جماعة، هذا هو المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنَّا، نعم هو هو! فلما قال هذا وقفنا بفضول وحيرة، وأخذنا ننظر مِنْ خلفهم، فسمعنا حسن البنَّا - وكان حساساً دقيقاً شديد الذكاء - فوقف على الفور وعاد فألقى علينا السلام وصافحنا وسألنا واحداً واحداً عن أسمائنا وعملنا ومكان إقامتنا. وقال لنا: “إذاً نحن جيران”، ثم دعانا إلى دروسه قائلاً: “عندنا لقاء الثلاثاء بين المغرب والعشاء، هو لقاء الأخوَّة، شرفونا، نحن ننتظركم”. يا لها من ابتسامة جميلة، يا لها من روح عالية تدعوك إلى القرب منها.. يا لهذا الشعاع الذي كان يتدفق من وجهه إلى روحي فيلهب أحاسيسي وعقلي! تحدثت مع “يوسف”، وحكيت له عن مقابلتنا مع حسن البنَّا، وحُسن معاملته لنا وما أظهره لنا من لطف وابتسام حين قابلنا، قلت له: “يوسف، حسن البنَّا هذا يا رجل.. أسرني عاشقاً عنده”. فابتسم “يوسف” وقال: “هو رجل دعوة صائد للقلوب، وأنا أداوم على لقاءاته، لنذهب إليه سوياً الأسبوع القادم”. واستطرد قائلاً: “هو الشخص الوحيد - بين كل العلماء وكل المصريين الذين تعرفت عليهم في مصر - الذي أسر قلبي، أسلم عليه بيدي فلا يتركها إلا أن أتركها أنا، وإذا وقفت قليلاً يقول لي: هيا إلى المنزل إن أحببت لنجلس سوياً، لا يفرق بين باكستاني أو مصري أو تركي ويقول: كل المسلمين إخوة، يتعامل مثلما كان يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم، كم هو ودود مخلص قريب من القلب”. فسررتُ جدًّا عندما سمعت منه هذا الكلام الجميل.


في المركز العام للإخوان


 

كان المركز العام للإخوان المسلمين قريباً منا، حيث كان يبعد 500 متر فقط من مكان “تكة السلطان محمد”، ومدرسة “إحسان أفندي”، لم يبدِ الأصدقاء الآخرون رغبة في الذهاب معنا، بل كانوا متخوفين أن يتلسن أحد عليهم بأي كلمة. كان مركز الإخوان مبنىً محاطاً بالغرف، تتوسطه ساحة كبيرة هي صحن المركز، كان ميدانًا واسعًا يسع لألف شخص، وجُهز بهذا الشكل لأجل الصلاة والدروس والخطب، فقد كان البنَّا رجلاً منظمًا جدًّا كان يصلي صلاة المغرب إماماً، صليت خلفه بخشوع لم أشعر به أبداً في أي وقت آخر في القاهرة، ثم خرج بعد الصلاة وجلس في مكان يعلو عن الأرض متراً واحداً وأمامه منضدة عالية وميكرفون، كان يرتدي هذه المرة طربوشاً على رأسه، إذ هو - في الأصل - يرتدي الطربوش غالبية الوقت، ويتحدث واقفاً على قدميه. كان يتحدث وكأن القرآن مفتوح أمامه، فهو يستحضر كل الآيات حول موضوع حديثه: ما الإسلام؟ وما الأخوة الإسلامية؟ كيف كان ماضي المسلمين؟ وكيف سيكون مستقبلهم؟ إلخ. ورغم حفظي للقرآن، فإني تعجبت كثيراً من قوة وقفاته مع القرآن بهذا الشكل.


أردت تقبيل يده


 وعندما دخل وقت العشاء وأُذن الأذان، قطع حسن البنَّا خطبته، ودعا هؤلاء العلماء إلى جانبه وأجلسهم بجواره، وكلف أحدهم أن يؤمنا لصلاة العشاء، لكنهم اعتذروا وقالوا: نحن جئنا اليوم لنستمع إليكم. فمشى الأستاذ البنَّا للإمامة، كان يلف أثناء الصلاة عمامة فوق الطربوش، ويضع فوق “الجاكت” الذي يلبسه عباءة، وكانت صلاته طويلة. وبعد انتهاء الصلاة دخل في حوار مع هؤلاء العلماء وقال لهم: “المهمة عليكم من الآن! قد خلصني الله عز وجل من حمل كبير، فما أنا إلا دليل أدل الناس على الطريق الذي يقربهم من الله؛ ولطالما دعوته تعالى وسألته أن أسلّم هذه الدعوة لأهلها، فأنا غاية في السرور لأني سلمت الأمانة لمن هم أهلٌ لها”. قلبي وفؤادي كانا يريدان تقبيل يد الأستاذ، وأخبرت صديقي “يوسف” بذلك، فحاول منعي وقال لي: “أخي، المكان مزدحم جداً، والأستاذ سيكون مشغولاً مع العلماء، ونحن طلبة فقط، لكنهم علماء ومهمون، فلن يُسمح لنا بالوصول إلى الأستاذ، وسنأتي الأسبوع المقبل إن شاء الله”. وعلى إثرها، قلت له: انتظر، ووجدت الفرصة بعد اتساع المكان قليلاً، واستطعنا أن ندخل ونقترب منه.
أهلا أخي “علي”.


أجلس الأستاذ البنَّا العلماء وأراد أن يتحدث معهم، لكنه كان واقفاً مشغولاً بالشباب، وكان جل الحاضرين من الشباب، و90% منهم طلاب جامعة. ورآنا الأستاذ البنا ونادى علينا: “أهلاً وسهلاً أخي علي!”، ناداني باسمي كما فعل لما رأيته قبلها بأيام، وغرق صديقي “يوسف” في دهشته! وبعدها قال لـ”يوسف”: “أهلاً يا يوسف، أهلاً بصديقنا القديم...”، ونادانا إلى جانبه وصافحنا وأخذ يُعرفنا للأساتذة: “هؤلاء جواهر، ابتعدوا عن أمهاتهم وآبائهم وأوطانهم ليجتهدوا ويعملوا، لا ليكونوا مصابيح فقط، بل ليكونوا شموساً تضيء بلادهم! وقد تعرفت عليهم قبل أسابيع ودعوتهم وجاؤوا إلينا”. رحمه الله رحمة واسعة.. كان مثل المغناطيس جذبنا إليه وربطنا به.


الشباب

كنت أدقق النظر، 90% من الشباب الحاضرين طلاب جامعة، كانوا يأتون برغبة شديدة يملؤون فراغ أرواحهم هنا بعد أن بعدوا عن المعاني والأحاسيس الإنسانية، وكانوا في حركتهم كالنحل يتطاير فوق الزهور. كنت أحس في هذه الاجتماعات بجوٍّ رباني، كأن الشباب يأتون للعبادة لا لتعلم شيء بعينه. كان الأستاذ البنَّا يؤم صلاة العشاء بنفسه، وكان يجذب الشباب نحوه أكثر بكلامه حين يقول: “لقد تولدت في عقلي معانٍ كثيرة حين قرأت هذه الآيات، فلنتدارسها معاً ولنرَ ما تستخرجوه من معانيها”. وقبل كل شيء، كان يحمل إخلاصاً عجيباً: “هذه الدنيا فانية، والأعمار مكتوبة محدودة.. هذا الطريق هو طريق الله.. وما تحوزه فيه أعلى قيمة من كل شيء".


الأخوَّة دائمًا

 

تستخدم الجماعات والطرق والمشايخ والمرشدون والأساتذة والمريدون أسماء مختلفة، لكن حسن البنَّا يرحمه الله كان دائماً يقول: “أخي”.. كانت الأخوة في مجالسه قبل كل شيء، إذ كانت هي الجو المبسوط عليها دائماً، وتُرى فيها هذه العاطفة، عاطفة الأخوَّة، بوضوح وصفاء. ومن بين آلاف الشباب الذين كانوا يأتونه، كان أكثر اهتمامه بالشباب الإندونيسي والباكستاني والأفغاني والتركي.. بل كان اهتمامه بالشباب العربي من موريتانيا والمغرب والجزائر والسودان أكثر من اهتمامه بالشباب المصري أنفسهم! والجامع بين كل كلامه، والعامل المشترك الدائم في حديثه “أخوَّة الإسلام والاتحاد فيه".


الحظر السياسي


في عام 1944م منعت الحكومة المصرية الإمام البنَّا من إلقاء دروسه وعقد مؤتمراته بشكل جماعي مع الشباب، وكان لسان حال الأمريكيين والإنجليز أن “لابد من إسكات البنَّا، فما أيقظه من حركة، وما يُحدثه من حراك يجري ضد مصالحنا، ويقف بوجه ما نريد أن ننشره من ثقافات”. كان الإمام البنَّا يلقي بياناته ضد الحكومة المصرية، حيث كان يقول: “الحرب انتهت، وهناك مؤامرات ضد الأخلاق والدين والأمة والوطن، قبل ذلك كان جيش الاحتلال الإنجليزي في دولتنا، وكنتم تقولون: لا نستطيع أن نفعل ما نريد.. والآن انتهت الحرب، وانسحبت الدول الغازية، فما أنتم فاعلون؟ هناك مواقف تجرح مشاعر الشعب وتخالف الدين والأخلاق، فإلى متى تنتظرون؟! وما الإجراءات التي ستتخذونها ضدها؟! وما التدابير التي ستتخذ لإعلاء الأخلاق وتعليم الدين؟"(3).


--------


الهوامش:


(1) والد "أكمل الدين إحسان أوغلو"، رئيس منظمة التعاون الإسلامي السابق، ومؤسس قسم اللغة التركية في جامعة "عين شمس" المصرية.


(2) أصدقاء صاحب المذكرات.


(3) يقصد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتهاء الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها المحتل الإنجليزي في مصر، وانسحابه من المدن المصرية.


--------


* باحث مصري مقيم في تركيا. 
 

غلاف المذكرات