قام وزير الدفاع وعدد من قادة الجيش بانقلاب عسكري في 3/7/2013م على النظام الشرعي القائم على الانتخابات النزيهة والمعبرة عن الإرادة الشعبية واختطف الرئيس المدني الشرعي المنتخب وأخفاه، وعطل الدستور المستفتى عليه والموافق عليه من 64% من الشعب ثم تم حل مجلس الشورى المنتخب، وعيّن رئيسا مؤقتا للجمهورية وخوّله سلطة التنفيذ والتشريع ظاهريا وأعلن عن خارطة للمستقبل بإرادته المنفردة، وتم إصدار إعلان دستوري بديلا للدستور الذي منحه الشعب لنفسه .. وتذرع الوزير المنقلب بأنه فعل ذلك استجابة للإرادة الشعبية التي تجلت في مظاهرة 30/6/2013م .

 

والحقيقة أنه فعل ذلك لأسباب أخرى سنذكرها فيما بعد بدليل أن الجماهير التي تظاهرت في 30/6/2013م لم تكن تطالب بأكثر من إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ولم تطلب شيئا آخر مما فعله الانقلابيون.. كما أن التسريبات التي تم نشرها والمنسوبة لقائد الانقلاب تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه يتطلع إلى منصب رئاسة الجمهورية :

 

1- إذن فقد قام بالانقلاب من أجل اغتصاب السلطة، كما أن ما قام به من إرهاب وقتل كان المقصود منه إخضاع الشعب حتى لا يعارض طموحه في السيطرة على الحكم، كذلك قيامه باعتقال كثير من القيادات، وتصريحه وتصريح الصحفي الذي ظهر في التسريبات بأنهما قادران على تدمير كل من قد يتطلع للترشيح للمنصب .

 

أما الأسباب الأخرى التي ربما يكون قد استخدمها لإقناع زملائه من القادة العسكريين بمشاركته في الانقلاب فتتمثل فيما يلي :

 

2- السيطرة على السلطة والمكانة الاجتماعية للضباط :

 

هناك حراك اجتماعي في مصر، فكل طبقة أو مهنة تسعى لتتبوأ مكانة في أعلى السلم الاجتماعي توفر لها الاحترام والتقدير وأيضا تعظم من مصالحها المادية، وهذ الحراك أمر محمود إذا سار في إطار من التنافس السلمي وبُني على أساس تحقيق المصلحة العليا للبلاد، واجتنب العصبية الطبقية أو المهنية، واجتنب أيضًا الاستعلاء على الآخرين .

 

ولقد قفز ضباط الجيش إلى أعلى السلم الاجتماعي بعد ثورة 1952 حيث شغلوا معظم المناصب الكبرى في البلاد (العسكرية والمدنية أيضا) ابتداءً من رئاسة الجمهورية حتى رئاسة وإدارة المؤسسات المدنية، وهذا بلا شك حقق لهم وضعا اجتماعيا فوق الناس وشعورا نفسيا بالتميز والتفوق إضافة إلى مزايا مادية كثيرة .. وظل هذا الوضع على مدى ستين عاما، نستثني منه فترة قصيرة في أعقاب هزيمة 1967.

 

كما أن تعاقب العسكريين على منصب رئاسة الجمهورية (3 رؤساء) في ظل نظام استبدادي ديكتاتوري، أدَّى إلى الإحساس بأن رئيس الجمهورية لابد أن يكون ذا خلفية عسكرية، لما يضيفه ذلك أيضا من سيطرة على الدولة ومنافع إضافية .

 

لذلك عندما قامت ثورة 25 يناير 2011 وأطاحت بالرئيس المخلوع (الضابط السابق) وأرادت الجماهير أن تستعيد حريتها وكرامتها وسيادتها في ظل نظام مدني ديمقراطي دستوري قانوني، لم يستسغ القادة العسكريين هذه المطالب، وإن اضطروا للتعامل معها تحت تأثير الضغط الشعبي، وظلوا يتباطؤون في السير في طريق التحول الديمقراطي والشعب يلح ويصر حتى تم انتخاب أول رئيس جمهورية مدني بعد سنة ونصف، بدلا من ستة أشهر حسبما كان الاتفاق .

 

وقبل انتخاب الرئيس بأيام تم حل مجلس الشعب ليستعيد المجلس العسكري سلطة التشريع ويظل في المشهد السياسي وفي قلب الأحداث، وبدأت المشكلات توضع في طريق الرئيس الجديد، فوقعت حادثة قتل جنودنا في شمال سيناء بعد توليه بأقل من شهرين، وقرر الرئيس شن حملة عسكرية على الإرهابيين في سيناء، وشرع في حضور جنازة الجنود الشهداء، إلا أنه قبل الجنازة مباشرة جاءته تقارير تفيد وجود مؤامرة للاعتداء عليه، فلم يذهب وأقال عددا من كبار قادة الجيش والشرطة على رأسهم المشير طنطاوي والفريق عنان، وكان أحد المعارضين للرئيس مرسي قد صرح بأنه التقى مسئولا كبيرا في السفارة الأمريكية فقال له إنهم لو استطاعوا تجميع مائة ألف متظاهر أمام قصر الاتحادية لمدة ثلاثة أيام فسوف يعترفون بهم ويدعمونهم، وأضاف هذا المعارض أن المشير طنطاوي قال له ابدءوا أنتم وسوف ندعمكم، وهو نفس النموذج الذي طبقه السيسي في 30/6، 3/7/2013م، ومعنى ذلك أن القادة العسكريين كانوا رافضين أن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة (رئيس الجمهورية) مدنيًا، ومن يومها سارت خطة تأليب الرأي العام على الرئيس المدني عن طريق الإعلام ومحاولات الإفشال ورفض قيام المؤسسات بواجبها، وتربيطات بين القادة العسكريين وعدد من السياسيين الذين فشلوا في كل الانتخابات، حتى وصلت ذروتها في 30/6/2013م وقاموا (القادة العسكريون) بانقلابهم في 3/7/2013م.

 

3- الحفاظ على المزايا والمكاسب الاقتصادية :

 

منذ اتفاقية كامب ديفيد تم توسيع وإنشاء مؤسسات اقتصادية مملوكة للجيش في معظم الأنشطة الاقتصادية (زراعة – صناعة – تجارة - خدمات) أصبحت مناصب مجالس إدارتها مكافآت لكبار القادة الذين يخرجون من الخدمة، هذه المشروعات تكلفتها أقل ما يمكن، فالأراضي بالمجان وربما الكهرباء والمياه كذلك والعمالة من العساكر المجندين، والضرائب لا يمكنها إخضاعها للمحاسبة، ولقد تضخم هذا القطاع الاقتصادي تضخما كبيرا حتى أصبح يمثل 40% من الاقتصاد المصري حسب تقارير، ولا ريب أن هناك عددًا كبيرًا من القادة كان ينتفع بمزايا ضخمة من هذا القطاع، إضافة إلى أن مساحات شاسعة من أراضي الدولة كانت تدخل في ملكية هذا القطاع .

 

ومما لا شك فيه أن نظاما جديدا يتوخى تحقيق الإصلاح والقضاء على الفساد وانتشال الاقتصاد المنهار وتطبيق العدالة الاجتماعية بحيث ينتفع من خير مصر أكبر عدد من أبنائها كان سيتعامل مع هذا القطاع بطريقة أكثر عدالة، وهذا سيمس بالتأكيد مصالح عديد من القادة العسكريين، فمن ثم سعوا إلى إسقاط هذا النظام الجديد وإعادة النظام السابق الذي أطلق أيديهم في ثروات البلاد، والذي تشبكت في ظله علاقات المصالح بين طبقة عليا تنعم بالغنى والثروة، بينما الغالبية ترزح تحت خط الفقر أو حوله .

 

4- الإبقاء على سرية موازنة الجيش:

 

ظلت ميزانية الجيش سرًّا من الأسرار التي لا يطلع عليها أحد، فهي تعتمد في صورة رقم واحد في الموازنة العامة للدولة ولا تتم المحاسبة عليها في نهاية العام، وقد ظهرت بعد ثورة 25 يناير 2011م أصوات تطالب بمناقشة موازنة الجيش مع استثناء مصروفات التسليح فقط باعتبارها سرا حربيا لا يجوز نشره واقترح البعض مناقشة هذا الأخير في لجنة الأمن القومي فقط في مجلس الشعب، أما بقية البنود فتتم مناقشتها علنا مثلما يحدث في الدول الأخرى حتى لا تكون هذه السرية ذريعة لفساد ما، إلا أن القادة العسكريين لم يكونوا مرتاحين لهذه المطالب .

 

في مقال كتبه الصحفي الأمريكي سيموز هيرش في الواشنطن بوست يذكر صديقه محمد حسنين هيكل بالحوار الذي دار بينهما بعدما ألقى هيرش محاضرة في الجامعة الأمريكية في القاهرة دعاه إليها هيكل، حيث سأل هيكل هيرش : هل تعتقد أن الجيش سيسمح للإخوان بالوصول إلى الحكم ورؤية العجب العجاب من فساد ويسلمون بأنفسهم حريتهم للإخوان؟ فأجابه : قد يحدث هذا بثورة يضحي فيها الآلاف بأرواحهم مقابل تطهير مؤسسة الجيش وهي المؤسسة التي لو طهرت ستسير البلاد نحو مستقبل واضح، وهنا سخر هيكل من شعب مصر قائلا : وأي شعب هذا الذي تحدثني عنه الذي سيضحي بالآلاف ليطهر الدولة والجيش ؟

 

5- الخوف من المغامرات الحربية :

يشيع القادة الانقلابيون أن الرئيس محمد مرسي يعتنق مبادئ وأفكار أممية، بل نسب إلى السيسي حسب صحيفة الواشنطن بوست أن مشروع الدكتور مرسي كان استعادة الامبراطورية الإسلامية، وتجاهل هؤلاء الانقلابيون أن العقيدة الأممية بمعنى أن الإيمان بأن الأمة الإسلامية أمة واحدة وأن السعي لتحقيق وحدتها لا يمكن أن يكون بالغزو العسكري وإنما يكون ابتداء ببناء مصر ونهضتها وتقويتها في كل المجالات، وفي ذات الوقت التعاون مع الدول العربية في تكوين سوق عربية مشتركة، وفي مجالات التعليم والبحث العلمي والتكامل الزراعي والصناعي والعسكري والثقافي والتشريعي، حتى يتسنى إقامة شكل من أشكال الوحدة الرضائية تناسب أوضاع كل دولة وتناسب ظروف العصر، ولا شك أن هذا سيستغرق عقودا من الزمن وربما أجيالا من البشر، وبعدها يتم التوجه إلى الدول الإسلامية غير العربية وهذا قد يحتاج إلى قرون .

 

إذًا فالرئيس محمد مرسي وهو رجل يتصف بالحكمة والعقل، ويؤمن بالسلمية والتدرج وحرية الشعوب وسيادتها لا يمكن أن يتورط في مغامرات عسكرية في هذا النوع، إذا فهذا الكلام استغله الانقلابيون في تحريض الجيش على الرئيس، وفي تحريض الغرب على قبول الانقلاب العسكري .

 

6- توافق الإيديولوجيات والمصالح مع الغرب :

 

مما لا شك فيه أن الانقلابيين لا يؤمنون بالمشروع الإسلامي كمشروع مستقل لنهضة مصر، ومن ثم فهم يصطدمون بتوجه الرئيس مرسي، فهم علمانيون والدليل على ذلك أن مجموعة الخمسين التي اختاروها لتعديل دستور 2012 الذي وافق عليه 64% من الشعب والتي تحولت من لجنة لتعديل الدستور إلى لجنة لوضع دستور جديد كلها من العلمانيين واليساريين والليبراليين الكارهين للمشروع الإسلامي عدا أفراد قلائل أقل من عدد أصابع اليد .

 

وهم في هذا يتفقون مع رغبات الغرب، ويدل على ذلك دلالة واضحة قول نبيل فهمي وزير الخارجية في وزارة الانقلاب الباطلة لإحدى القنوات الأوربية : سبب الانقلاب على الرئيس مرسي ليس كونه جيدا أو سيئا، وإنما لأنه أراد أن يحول وجه مصر إلى وجه إسلامي .

 

إضافةً إلى أن الغرب كان يستعجل الخلاص من الرئيس مرسي لكونه كان ينهج نهجا تحرريا استقلاليا ويتعامل مع الجميع بندية وكرامة وطنية، وأراد أن يوسع علاقات مصر الدولية مع كل دول العالم ويأبى التبعية للغرب وسياسته حتى قال أوباما إن مصر لم تعد حليفا لأمريكا، وكان يسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء والسلاح ليضمن استقلال قراره ولا شك أن هذا كله ضد رغبة الغرب في السيطرة والهيمنة على القرار والسياسة المصرية، كما أن الرئيس رفض التطبيع مع الصهاينة بل رفض بعث الدفء في العلاقات معهم، الأمر الذي أثار غضبهم وغضب الغرب عليه، ومن المعروف أن الانقلابيين علاقتهم مع الغرب وطيدة بحكم التدريب والتواصل المستمر وإلف التبعية طيلة فترة حكم النظام السابق .

 

7- التجاوب مع الدول العربية الخائفة من الديمقراطية والنموذج الإسلامي الصحيح :

 

إن ثورة 25 يناير 2011 بقدر ما أثارت الانبهار لدى معظم شعوب العالم وحكوماته، إلا أنها كانت مثار استنكار من الدول العربية الخليجية نتيجة للإطاحة بنظام حكم فاسد ورئيس مستبد طاغية كان يمثل ركنا مهما فيما يسمى بجبهة الاعتدال التي تسير في فلك السياسة الأمريكية، وكان المتوقع أن يكون وصول الإسلاميين للسلطة محل ترحيب هذه الحكومات باعتبارهم يعتبرون الإسلام مرجعيتهم العليا وأنهم حماته وحماة مقدساته، وأن أخذ مصر بالوسائل العلمية الحديثة في التقدم والنهضة وأسباب القوة في مختلف المجالات والقضاء على الفساد والخروج من حظيرة الهيمنة الأمريكية، كل ذلك يصب في مصلحة العالم العربي كله، إضافة إلى أن الإسلاميين والمصريين عموما لم يفكروا في تصدير الثورة خارج مصر أو زعزعة استقرار أي نظام في أية دولة إلا أن هذه الحكومات – للأسف الشديد – ظنت أن الثورة يمكن أن تنتقل بالعدوى أو الإيحاء فاتخذت الموقف الخطأ وناصبت الثورة والنظام الجديد العداء، فبدأت مخابرات عدة دول عربية وغير عربية في التخطيط لإسقاط النظام في مصر، ودفعت في سبيل ذلك مليارات الدولارات التي استخدمت في إثارة المشكلات الداخلية وتأليب الرأي العام المصري بالإعلام وخلق أزمات في مواد ضرورية، وقبض اليد عن تقديم أي مساعدات للحكومة وهذا من أجل إحكام الأزمة الاقتصادية، الأمور التي استغلها وشارك فيها الانقلابيون العسكريون للقيام بانقلابهم، والدليل على ذلك هو فتح خزائن تلك الدول تضخ المليارات في شرايين الاقتصاد المصري الجافة عقب وقوع الانقلاب ولا تزال .

 

ورغم التخطيط المحكم الذي اشترك فيه هؤلاء جميعا فإن هناك أمرا غاب عنهم وهو طبيعة الشعب المصري الذي رفض الانقلاب من أول يوم وظل يتظاهر ضده في الشوارع طيلة أربعة أشهر متصلة لم ينقطع يومًا واحدًا، وكانت مظاهراته سلمية حضارية، رغم وحشية الانقلابيين الذين واجهوه بالدبابات والمدرعات والطائرات والمدافع والقناصة وقتلوا منه خمسة آلاف شهيد وأصابوا عشرة آلاف واعتقلوا ما يزيد على ذلك واقتحموا المدن والقرى بالمدرعات وحرقوا المساجد والمنازل، ولا يزال وسيظل- بإذن الله- الإصرار الكبير على دحر الانقلاب وإسقاطه .

 

وغاب عنهم أن الله تعالى من ورائهم محيط وأنه لا يصلح عمل المفسدين، وأن الظلم والخيانة عاقبتهما وخيمة (وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).

 

وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

القاهرة في : 25 من ذي الحجة 1434هـ الموافق 30 من أكتوبر 2013م