- الأُمَرَاءُ المُتْرَفُونَ الفَسَدَةُ وخَطَرُهُمْ عَلَى الأُمَّة:

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحْبِهِ ومَنْ والاه، واهتَدَى بهداه.

وبعدُ؛ فقد يتعجَّبُ البعضُ من هذا الدعمِ الماليِّ والإعلاميِّ الضخمِ الذي يوفِّره بعضُ حُكَّامِ الخليجِ للانقلابيِّين الدمويين في مصر، ولهذا الإصرارِ العجيبِ على سفكِ دماءِ الشعبِ المصريِّ الذي أظهرَ انحيازَه للمشروعِ الحضاريِّ الإسلاميِّ، والمحاربةِ والتصدِّي لكل من يحملُ رسالةَ الخيرِ والحقِّ والعدلِ والكرامةِ الإنسانيَّةِ.

وأقول: لا عجبَ؛ فقد ابتُليت الأمةُ في مراحلَ متعددةٍ من تاريخِها بفئاتٍ من الحكامِ والساسةِ كانوا سببَ سُقوطِها وتخلُّفِها عقودًا بل قرونًا كثيرة، وها نحن اليومَ نرى للأسَفِ قادةَ دُولٍ وقُوَّادَ جُيوشٍ ورِجالَ أعمالٍ ابتلاهم اللهُ بالسلطةِ والقوةِ والمالِ والغِنَى، ومكَّنهم منْ ثروةٍ هي محْضُ فضلٍ منه ونِعْمَةٍ، إذ أتاح لهم خزائنَ الأرضِ من البترولِ والغاز وغيرها، فأَثْرَوْا من فقرٍ، واغتنوْا من عَيْلَةٍ، أما هم فلا يُعْرَفُ لهم جهدٌ عقليٌّ أو علميٌّ أو إنتاجيٌّ حقَّقوا من ورائِه تلك الثروات.

وبدلًا من استثمارِ هذه النعمةِ في إسعادِ شُعوبِهم وأمَّتِهم؛ ﴿بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار﴾، فنراهم يستخدِمُون هذه النعمةَ في تغذيةِ الفسادِ وتشجيعِ المفسِدِين، ويتبجَّحُون بإنشاءِ فضائياتٍ لنَشْرِ العُهْرِ والفُجُورِ، وتمويلِ الانقلاباتِ الدمويَّةِ على الأنظمةِ الشعبيَّةِ المنتَخَبةِ انتخابًا حُرًّا في بلادِ الربيعِ العَربي، وقرَّبُوا منهم الخَوَنةَ من عُملاءِ الصَّهاينةِ الذين لَفَظَتْهُم شعوبُهم، وجمعُوا حولهم المنافقين والمرجِفين، وسَعَوْا في إفساِد القُضاة وعلماءِ الدين والمثقَّفين، ويصْدُقُ في هؤلاءِ القادةِ والأثرياءِ قولُ الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، ويَنْسَوْن تحذيرَ الحقِّ سبحانَه ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.

وتلك هي آفةُ التَّرفِ المفسِدِ، الذي سَيُودِي يقينًا بهؤلاءِ القادةِ وبمن رضيَهم واستسلمَ لِعَبَثِهِم وفَسادِهم إلى الهلاكِ المحقَّقِ، وفي الأثرِ: «إذا أرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا جَعَلَ أمْرَهُمْ إلى مُتْرَفِيهِمْ».

ويحدِّثُنا القرآنُ العظيمُ عن أحد أهمِّ أسبابِ السُّقُوط، الذي يبدأُ حين يتسلَّمُ المسؤوليةَ حفنةٌ من المترَفين الفَسَقةِ، والإداريِّين الظَّلَمةِ، والمجرمين الطُّغاةِ، فيمارِسون من مواقعِ السلطةِ وعبْرَ ما يتحكَّمُون فيه من ثروةٍ كلَّ أشكال التَّرَفِ والفِسْقِ الذي من شأنِه أن يَؤُولَ إلى إلحاقِ التفكُّكِ والدمارِ بهم وبالأمةِ التي انتصبوا قادةً ورُوّادًا لها، فاستسلمتْ لهم، فيقول تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.

وحين يريدُ اللهُ بأمةٍ سوءًا فإنه يجعلُ المالَ والسلطةَ في أيدي هؤلاء المترَفين السفهاءِ، أمَّا إذا أراد بالأمَّةِ خيرًا فإنه يجعلُ المالَ والسلطةَ في أيدي العُقَلاءِ السُّمَحَاءِ، وصدَقَ النبيُّ صلي الله عليه وسلم حين قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِم الحُلَمَاءَ، وَجَعَلَ أَمْوَالَهُمْ فِي أَيْدِي السُّمَحَاءِ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ بَلَاءً اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِم السُّفَهَاءَ، وَجَعَلَ أَمْوَالَهُمْ فِي أَيْدِي البُخَلَاءِ»، وقال صلي الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ؛ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا (أى الحياة خير لكم من الموت)، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاَءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا» .(أى فالموت خير لكم من الحياة).

في ظلِّ هذا التسلُّطِ للمترَفين الفَسَقَة لا يستجيبُ المفسِدون للحقِّ إلا على مَطارقِ الموتِ؛ لغُرورِهم وفسادِ قلوبِهم، ويتجرَّأُ السِّفْلَةُ القُساةُ على المصلِحين الهُداة، وينزوي الآمرون بالمعروفِ والنَّاهُونَ عن المنكرِ، وتُصبِحُ القوةُ والثروةُ والأنانيةُ الفرديةُ والأثَرَةُ هي القيمَ المسيطرةَ، ويلجأُ العامَّة إلى الملَقِ والنفاقِ والكذبِ والسلبيَّةِ، وتتفشَّى الرشاوَى والاختلاساتُ والتلاعُبُ بالمالِ العامِ واستغلالُ النفوذِ والوظائفِ في أكلِ المالِ بالباطلِ، وتُحَاصَرُ الاتجاهاتُ الأخلاقيةُ والرُّوحيَّةُ، وفي الوقتِ الذي تُغلَقُ فيه قنواتُ التَّوْعيةِ الأخلاقيةِ تُفتَحُ قنواتٌ جديدةٌ للرقصِ والفُجورِ!، وعندئذٍ تستحقُّ الأمَّةُ الهلاكَ.

يقول المؤرِّخ النصرانىُّ كوندي: «العربُ هُزموا عندما نَسُوا فضائلَهم التى جاؤوا بها، وأصبحوا على قلبٍ متقلِّبٍ يميلُ إلى الخِفَّةِ والمرَح، والاسترسال بالشهوات».

- البِدَايَةُ منَ التَّرَفِ غَيْرِ المُنْضَبِط:

الترَفُ: هو التوسُّعُ في التَّنَعُّمُ بمَلاذِّ الدُّنيا وشَهواتِها، وهو ما حذَّر منه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ فقَالَ له فيما أخرجه أحمد: «إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ؛ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ».

والإسلامُ لا يُحرِّمُ الترفَ لذاتِه، بل يُحرِّم التوسُّعَ فيه بما يخرجُ إلى السَّرَفِ والتَّبْذيرِ والشَّرَه ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾. وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ».

إنه يكره التوسُّعَ والإسرافَ الذي يَغْتالُ الأخْلاقَ، ويُفسِدُ الفِطرةَ، ويَبْعثُ على الظلمِ والبَطَرِ والكِبْرِ والغُرورِ والفُجُور، ويُنْسِي الشكرَ، ويجعلُ صاحبَه لا يذكرُ آخرةً، ولا يعرفُ ربًّا، ولا يحترمُ دينًا، ولا يتذكَّرُ موتًا، ولا يؤمنُ بعذابٍ أو نعيمٍ في القبرِ، بل لا ينشغلُ إلا بالكرسيِّ الزائلِ، ولا يحرصُ إلا على المنصبِ الفاني، ولا يستغرِقُ إلا في شهواتِه الشخصيةِ ورغباتِه الأنانيةِ، حتى يستحِلَّ ما حرَّم الله  كما في حديث البخاري: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ (يعني الفروج، كناية عن الزنا) وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِف»، وهؤلاء هم سِرُّ بلاءِ الأمة.

ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه ابنُ أبي الدنيا وغيره: «شِرَارُ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيابِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الكَلاَمِ»، وحذر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمةَ مما يترتبُ على ذلك من الخُيَلاء واستخدامِ أبناءِ الأممِ الأخرى، فقال فيما أخرجه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي بِالْمُطَيْطَاءِ، وَخَدَمَهَا أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ سُلِّطَ شِرَارُهَا عَلَى خِيَارِهَا». والمطيطاء: مِشْيَةٌ فيها اختيال.

- التَّرَفُ المنفلِتُ سببُ الهَلاك:

قال تعالى ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾.

أيْ صاروا تابعين للنعمِ التي صاروا بها مترَفين، فلم يَنْهَوْا عن الفسادِ ولم يشتغِلوا بالإصلاحِ، ولم يأخذوا على يدِ الظالم، فاستحقُّوا الهلاك، واتِّباعُ ما أُتْرِفُوا فيه: هو الانقطاعُ له والإقبالُ عليه إقبالَ المتَّبِعِ على مَتْبُوعِه. والآيةُ تدلُّ على أنّ العذابَ سوف لا يشملُ النَّاهين عن الفسادِ في حالةِ نزولِه، بل إنّ هذا العذابَ سوف ينزلُ على المفسِدين ومَنْ سكت عنهم، ورضيَ عن ممارساتهم.

-  التَّرَفُ المنفلِتُ سبيلٌ إلى الفِسْقِ المُدَمِّر:

 قال تعالى ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.

قيل معنى ﴿ أَمَرْنَا﴾: أمرْناهم بالطاعةِ فعَصَوْا، وبالإيمانِ فكفروا؛ فاستحقُّوا العقوبةَ، فدمَّرهم الله عز وجل، وقيل: معناه أمرْناهم أمرًا قدريًّا بالفسقِ والفجورِ، أي كتب اللهُ عليهم ذلك، لما عَلِمَه منهم من استعدادِهم له، حتى إذا حقَّ عليهم القولُ بالمعصيةِ والفجورِ دمَّرهم الله تبارك وتعالى تدميرًا، وقيل: معناه أَكْثَرْنا، أي أَكْثَرْنا مُتْرَفِيها ففَسقُوا.

وفي قراءةٍ أخرى ﴿أمَّرْنا﴾ أي: جعلناهم أمراءَ وسلاطينَ وحكامًا، ففسقوا في هذه القرى، فحقَّ عليها القولُ، فدمَّرْناها تدميرا. قال عمر رضي الله عنه: «تُوشِكُ القُرَى أنْ تَخْرُبَ وهِيَ عَامِرَةٌ»، قيل: كيفَ تخرُب وهي عامِرةٌ؟ قال: «إذَا عَلَا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا، وسَادَ القَبِيلَةَ مُنَافِقُوهَا». وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي هذه الآية قَالَ: «سلَّطْنَا شِرارَها، فعَصَوْا فيها، فإذا فعلوا ذَلِكَ أهلكْناهُم بالعذابِ، وهو قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾».

وذلكَ أنَّ الغالبَ أنَّ الترفَ يُلازِمُه الظلمُ، والظالمُ يَدْأَبُ في نصرِ الباطلِ وأهلِه وإشاعةِ الفواحشِ، ومحاربةِ الحقِّ وأهلِه، وازْدِراءِ القيمِ العُليا، ومن ثمَّ تفقِدُ الأمَّةُ عناصرَ قوَّتِها وأسبابَ بقائِها، فتهلِكُ وتُطْوَى صفحتُها، ولهذا اشتكى نبيُّ الله موسى إلى ربِّه من الغِنَى والتَّرفِ اللذيْن آتاهما اللهُ فرعونَ وملأَه فرصدُوهما لمحاربةِ الحق ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾.

والقرآنُ يُؤكِّدُ هذا المعنى في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾.

إنَّ وجودَ المتْرَفينَ بالصورةِ التي ذكرْناها دليلٌ على أنَّ الأمَّةَ قد تَخَلْخَلَ بناؤُها، وسارتْ في طريقِ الانحلال، وأنَّ عذابَ الله سيصيبُها جزاءً وفاقا.

-  محاولاتُ استدراكِ المُتْرَفِينَ المتأخِّرَةُ للأمرِ فاشلةٌ:

إذا ما عايَنَ المترَفُون العذابَ الأليمَ سارَعوا إلى الإيمانِ، ولكن يأْبَى اللهُ أنْ يقبلَ هذا الإيمانَ منهم، لِأنّه ليس بِمَلْكِهم ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ. لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾، والأمرُ بالرُّجوعِ من باب التَّهَكُّم والاستهزاءِ، فبأسُ الله إذا نزلَ لا ينفعُ اعتذارُ المجرمِ لأنه لا يكونُ صادقًا، ولا يكون لدَى الهالِكين إلا التَّنَدُّمُ والتَّحَسُّر ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾.

إنهم يظلُّون سادِرِين في غَيِّهم وغفلتِهم حتى ينزِلَ بهم عذابُ الله فيضرَعون إليه، فلا يستجيبُ لهم ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ. حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ. لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ. قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ. مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ﴾.

-  المُتْرَفُون مُتكبِّرون مُكذِّبون بلقاءِ الله:

المترَفُون الأغنياءُ يفتخِرون بما وهبهم اللهُ عزَّ وجلَّ من مالٍ أو جاهٍ أو سلطانٍ، ويروْنَ أنَّ الذين يدعونهم إلى اللهِ وإلى الدارِ الآخرةِ مجردَ أفرادٍ عاديين لا قيمةَ لهم ولا شأن، ولا يُنكِرون البعثَ بعد الموت والبِلَى فحسبُ؛ بل يَعجَبُون من هذا الرسولِ الذي يُنَبِّئُهم بهذا الأمرِ الغريب! و يستبعدون أنهم مُخْرَجُون  بعد أن صاروا عظامًا ورُفَاتًا! ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وهم إذ يفعلون ذلك إنما يُلْقُون بأنفسِهم في الهلاكِ الذي أعدَّه الله لأمثالهم ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ. قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾.

- المُتْرَفُون مُغتَرُّون واهِمُون:

المترَفُون دائمًا تخدعُهم القِيَمُ الزائفةُ والنعيمُ الزائلُ، ويَغُرُّهم ما هم فيه من ثراءٍ وقوة، فيحسَبُونه مانِعَهم من عذابِ الله؛ ويخالُون أنه آيةُ الرِّضى عنهم، أو أنهم في مقامٍ أعلى من الحسابِ والجزاء، وهو الوهْم الذي بدَّدَتْه آياتُ القرآن في أكثرَ من موضع ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾.

هي قصةٌ مُعادةٌ، وموقفٌ مكرورٌ، على مدارِ الدهور، وهو الترفُ الذي يُغَلِّظُ القلوبَ، ويُفْقِدُها الحساسيةَ؛ ويُفْسِدُ الفطرةَ ويُغَشِّيها فلا ترى دلائلَ الهداية؛ فتستكبرُ على الهدى، وتُصِرُّ على الباطلِ، ولا تنفتِحُ للنور، ولا تدرِكُ أنَّ تَوَالِيَ النعم عليها في موقفِها المشِينِ هذا إنما هو استدراجٌ؛ لا إكرامٌ، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾.

قال الحسَن: «كم من مُسْتَدْرَجٍ بالإحسانِ إليه، وكم من مَفْتُونٍ بالثناءِ عليه، وكم من مَغْرُورٍ بالسَّتْرِ عليه!».

-  المُتْرَفُون ينصُرون الباطلَ بدعْوَى اتباعِ الآباء:

المترَفون دائمًا أكثرُ استجابةً للباطلِ وتأييدِه، وأكثرُ نفورًا من الحق ومناصريه، لشعورِهم بأنَّ الحقَّ يُقَيِّد الشهواتِ الجامحةَ والنَّزَواتِ الطائِشةَ، ويمنعُ من الفواحشِ الآثمة، وهم قد ألِفُوا الانغماسَ في دنَسِ المعاصي، وأعماهُم الترفُ، ومهما عُرِضَتْ عليهم الأدلَّةُ الهاديةُ فإنهم يتمسَّكون بباطلِهم ولا يَدَعُهم الترفُ يُحسِنُون التفكيرَ أو يَقْبَلون المراجعةَ ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾ والحِنْثُ العظيمُ: هو الشركُ بالله، وهو أكبرُ الذنوب.

ويحتجُّون لموقفِهم الشائنِ بالاستمساكِ بتراثِ الآباء ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.

-  نماذِجُ من المُتْرَفين الهالِكين:

ذكر لنا القرآنُ العظيمُ وحفِظَ لنا التاريخُ آلافَ القَصصِ التي تؤكِّدُ المصيرَ المفجِعَ الذي ينتظِرُ المترَفين الفاسِقين على مُستَواهم الشخصيِّ، وعلى مُستَوى الأمةِ التي ارتضتْهم قادةً لها، وهاكَ بعضَها:

قوم عاد: انشغلوا بالترفِ في البُنْيانِ لمجرَّدِ العبَثِ والتَّباهِي بالمقدرةِ، والإعلانِ عن الثراءِ، والتكاثُرِ والاستطالةِ في البناء؛ وملأهم الغرورُ بقوَّتِهم وبما يَقْدِرُون عليه من أمرِ هذه الدُّنيا، وما يُسَخِّرُونه فيها من القُوَى، فانظُرْ ما قال لهم نبيُّهم هودٌ عليه السلامُ وما رَدُّوا عليه، وما كانت النتيجةُ. قال: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ. إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.

 قوم ثمود: جاؤُوا بعد قومِ عادٍ، وعرَفوا ما حصَل لهم، ومع ذلك اتَّبَعُوهم في الترفِ المفسِدِ والفِسْقِ المهلِكِ، وانظُرْ ما قال لهم نبيُّهم صالحٌ وما رَدُّوا عليه به وما كانت النتيجة. قال: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ. قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.

فرعون وقومه: يُمثِّلُ فرعونُ أوضحَ نماذجِ الحُكَّامِ المترَفينَ الفسَقَةِ الذين استخَفُّوا قومَهم، قال تعالى ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ. فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ. فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾.

قارون: هو النُّموذجُ الأبرزُ في التاريخِ لسُوءِ التَّصرُّفِ مع النِّعْمةِ، وللطُّغيانِ الَّذي دفَعَ صاحبَه لا إلى إنكارِ نعمةِ اللهِ فحَسْبُ، بل تعمَّد التَّحدِّي وكسْرَ قلوبِ الناسِ ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾.

المعتمِدُ بن عبَّاد: كان المعتمِدُ بن عبَّادٍ أحدَ أُمراءِ الأندلُس، وأقامَ بالمُلْكِ نيِّفًا وعشرين سنةً، وذكر المؤرِّخون أنَّ زوجتَه اشتهتْ أنْ تمشيَ في الطِّينِ وتحملَ القِرْبة على رأسِها؟! فأمرَ المعتمِدُ أنْ يُنْثَرَ المِسْكُ على الكافورِ والزَّعْفَرانِ، ويُعْجَنَ منه طينٌ لتخوضَ فيه زوجتُه؛ تحقيقًا لشهوتِها, وجرَت السُّنَّةُ الإلهيَّةُ وتهاوَى ملكُه بسببِ اللَّهْوِ والغفْلةِ والإغراقِ في الشهواتِ, ليُؤْخَذَ المعتمِدُ أسيرًا إلى (أَغْمات) ويبقَى بنُوه وبناتُه يتجرَّعْنَ كأسَ الفقرِ بعد الغِنى، والذِّلَّةِ بعد العِزَّةِ، وكُنَّ بناتُه يغْزِلْنَ للنّاسِ بالأُجرةِ في أغْمات، ويذكرُ الذهبيُّ في (تاريخ الإسلام) وابنُ كثير في (المختصر في أخبار البشر) أنه دخلَ عَلَيْهِ فِي السجْنِ بنُوه وَبنَاتُه يُهَنُّونه يَوْم عيدٍ، وعَلى بَنَاته أطْمَارٌ (أي ثيابٌ باليةٌ)، وأقدامُهنَّ حافيةٌ، وآثارُ نِعْمتِهنَّ عَافِيَةٌ (أي ذاهبة)، فَصَدَعْنَ قلبه، فقال:

فيمَا مضَى كُنْتَ بالأَعْيادِ مَسْرورًا         فساءَكَ العِيدُ في أَغْماتَ مأْسُورا

تَرَى بناتِك في الأَطْمَارِ جائِعَةً يَغْزِلْنَ للنَّاسِ لا يَمْلِكْنَ قِطْمِيرا

بَرَزْنَ نحوكَ للتّسليمِ خاشِعَةً              أبْصارُهُنَّ حَسِيراتٍ مَكَاسِيرا

يَطَأْنَ في الطِّينِ والأقْدَامُ حافِيَةٌ            كأنّها لمْ تَطَأْ مِسْكًا وكافُورا

قد كَانَ دَهْرُكَ إِنْ تَأمُرْهُ مُمْتَثِلًا            فَرَدَّكَ الدَّهْرُ مَنْهِيًّا ومأْمُورا

مَنْ باتَ بعدَكَ في مُلْكٍ يُسَرُّ بِهِ          فَإنَّما باتَ بالأَحْلامِ مَسْرُورا

فهل يَعِي المتحكِّمُون في مصائرِ وثرواتِ الشعوبِ هذا الدرسَ قبل فواتِ الأوان؟ وهل يُدرِكون أنهم لنْ يُعْجِزُوا اللهَ شيئًا، ولنْ يستطيعُوا أن يَفِرُّوا من قَدَرِه المحتومِ، وأنَّ العصرَ الجديدَ هو عصرُ الشعوبِ بامتياز، فيقترِبُون من شعوبِهم، ويَعْدِلُون في حُكمِهم، ويُحسِنُون التصرُّفَ في الثرواتِ التي ائتُمِنُوا عليها، ويُنْقِذُون أنفسَهم وأهْلِيهم وأوطانَهم من النهايةِ المأْسُوفة، ويتعاونُون مع المخلِصينَ من أبناءِ وطنِهم في تحصيلِ أسبابِ المجْدِ والارتِقاء؟ هذا أمَلُنا، إنْ يكُنْ عزيزًا فما هو علَى الله بعزيز، وسوف يسقط الله المترفين الظالمين على يد الشعب الحر الثائر، الذي عرف طريقه، وانطلق يحقق أهداف ثورته من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، من خلال سلميته المبدعة إن شاء الله ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين﴾.