•   الهُرُوبُ إِلَى العَدُوّ

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِه ومَنْ والاه.

وبعد؛ فقد سُئلَ أبو مُسْلمٍ الخُراسانيُّ (أشهرُ القادةِ الذين أسقطوا الدولةَ الأُموية) عن سببِ سقوطِ دولةِ بني أُمَيَّة، فقال: «لأَنَّ دولةَ بني أُمَيَّةَ قرَّبت الأعداءَ، وأبعدَت الأَصدِقاء» فتحوَّلَ الصديقُ إلى عدُوٍّ، وبقي العدُوُّ على عُدْوانِه، فتعجَّلت الدولةُ سقوطَها.

 

وهذا عينُ ما يفعلُه الانقلابيُّون اليومَ، إذْ يُسارِعُون في التحالفِ مع أعداءِ الأمَّةِ من الصهاينةِ على حسابِ وطنِهم وأمتهِم، ظنًّا منهم أنَّ العدُوَّ يمكنُ أن يصبحَ صديقًا حقيقيًّا، وسفهًا منهم إذْ يظنُّون أنهم قادرون على إخضاعِ الأمةِ بالقهرِ.

 

ولا يرتابُ عاقلٌ واعٍ أنَّ الصهاينةَ هم سماسرةُ الكَيْد والغدرِ، وأربابُ الخُبْثِ والكفر، وأنهم منذ زُرِع كيانُهم (الزائل إن شاء الله) في فلسطين قلبِ العُروبةِ والإسلامِ، وهم يضربون أفظعَ الأمثلةِ في تشريدِ أصحابِ الدَّارِ، والتَّسلُّطِ عليهم، وانتهاكِ حُرماتِهم، والهيمنةِ على مقدساتِ الأمَّة، والتمدُّدِ في دولِ الجوارِ الفلسطينيِّ من كلِّ الاتجاهات، ولا تزال خريطتُهم على باب (الكنيست) تُؤكِّدُ حُلمَهم (الواهم!) بإسرائيلَ الكبرى من النِّيلِ إلى الفُرات، ويَسْعَوْنَ إلى اصطناعِ عملاءَ لهم من بني جِلْدتِنا، يُساعدونهم على استقرارِ كيانِهم وتحقيقِ أحلامِهم، وهو دأبٌ قديمٌ لهم، منذ كانوا يتواصلون مع إخوانِهم من المنافقينَ في المدينةِ؛ ليتآمرُوا معهم على رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، حتى إنَّ ابنَ سَلُولٍ رأسَ النِّفاقِ أصرَّ على مُوالاتِهم حين غدَروا بعهدِهم مع رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد أن تبرَّأَ المؤمنونَ الصادقُون من تحالُفِهم، وقال: يا مُحَمَّدُ، إنّي أَخْشَى الدّوَائِرَ، وفي ذلك نزل قولُه تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ. فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أَيْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.

 

إنَّ هذا الهروبَ إلى العدوِّ مشهدٌ مُحزِنٌ ومُهينٌ، ولكنَّه في الوقتِ نفسِه مُتَوَقَّعٌ من الانقلابيِّين الغاصِبين اليائِسين من شعبِهم، المرفوضِين من بني أُمَّتِهم ووطنِهم، المدرِكين أنَّهم اختطفُوا ما ليس مِنْ حقِّهم، وسرَقُوا إرادةَ شعبِهم وثرواتِه بقُوَّةِ السِّلاحِ، ولذا يُغيِّرُون عقيدةَ جيشِ الأُمَّةِ، ليستبدلَ بالعدوِّ الحقيقيِّ التاريخيِّ للأمةِ عدوًّا وهْميًّا من أبناءِ وطنِهم وأمتِهم الرافضينَ لظُلمِهم وعُدوانِهم وفسادِهم، ويهرُبون إلى عدوِّهم وعدوِّ أمَّتِهم؛ طلبًا للمُساعدِة في تثبيتِ نظامِهم اللَّاشرْعيِّ المهْتَزِّ، ومساندتِهم في الترويجِ الدوليِّ له، وممارسةِ الضغوطِ على دُولِ العالمِ للاعترافِ به والتغاضِي عن جرائمِه، وفي سبيلِ ذلك يُحقِّقُون ما يُرْضِي هذا العدُوَّ المجرمَ الغاصبَ، ويتعايشُون مع خُططِه وتصوُّراتِه ضدَّ إخوانِهم وبني وطنِهم، ويربطُون مصيرَهم بمصيرِ عدُوِّ أمتِهم، وهم بذلك يُكرِّرُون ما سبقَهم إليه عبدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ ابنُ سَلُول، وذكره القرآنُ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾.

 

ولئن كان المنافِقُون إذ ذاك يتواصلون مع اليهودِ سِرًّا، ويقُولون ذلك بألسنَتِهم ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾؛ فقد تجاوزَ الانقلابيُّون اليومَ هذا المستوى المهينَ إلى التواصُلِ العلنيِّ في صفاقةٍ ظاهرةٍ، وإلى الممارسةِ العمليَّة بالقتلِ والتَّعذيبِ لأبناءِ أمتِهم ووطنِهم والتضييقِ عليهم، إلى الحدِّ الذي جعل الصهاينةَ يُعْلنون بوقاحةٍ عجيبةٍ أنَّ الإسلاميين في مصرَ والمقاومةَ الإسلاميَّةَ في فلسطين هي العدوُّ المشتركُ(!) الذي يحاربه الطَّرَفان، وأنهم ليسوا في حاجةٍ لتأمينِ حدودِهم الغربيةِ مع مصرَ؛ لأنَّ الانقلابيين قاموا بما لا يستطيعون هم القيامَ به، بل أعلن بعضُهم أنَّ الانقلابيين يحثُّون جيشَ الكيانِ على ضرْب المقاومةِ الفلسطينيةِ في غزَّة، ولكنَّ جيشَ الكيان يتردَّدُ، ربما انتظارًا لأنْ يقومَ الانقلابيُّون نيابةً عنهم بالعملِ العسكريِّ، فما أرخصَ المبادِئَ والقِيَمَ والدماءَ العربية والإسلاميةَ عند الانقلابيِّين والمستبدِّين وسُرَّاقِ الوطنِ وناهبي ثرواتِه!.

 

•  إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ

لا يمنعُنا رفضُنا للانقلابِ الدمويِّ الأثيم، ولا يمنعُنا فُجورُ الانقلابيين في الخصومةِ الأثيمةِ للمُخْلِصين من أبناءِ هذا الوطنِ؛ أنْ نُبادِرَهم بالنصيحةِ الأمينةِ لمراجعةِ النفسِ والتوقُّفِ عن هذا الاندفاعِ الأهْوجِ نحو السُّقُوطِ المريعِ، فالصهاينةُ وحلفاؤُهم من الأمريكانِ والغربيِّين لنْ يَرْضُوا عنكم في الحقيقةِ، فهم يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ، ولَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، أنتم وأوطانُكم، ولسانُ حالهم يقول:

 

لَنْ تَسْتَرِيحَ قُلُوبُنَا إِلَّا إِذَالَمْ              يَبْقَ فِي الْأَرْضِ الْفَسِيحَةِ مُسْلِمُ

 

ولكنَّهم يستخدِمُونكم لأهدافِهم مُؤَقَّتًا، حتى إذا تحقَّقتْ مآربُهم منكم، أوْ أسقطكُم الشعبُ (أيُّهما أقربُ) رَكلُوكم بأقدامِهم وتخَلَّوْا عنكم كما فعلوا مع غيركِم! (وفي بينوشيه في شيلي وبرويز مشرف في باكستان وغيرهم عبرة)، فلا يغُرُّكم ثناؤُهم عليكُم بما تُقدِّمون لهم من خِدْمةٍ مُخْزِيةٍ بتخريبِ أوطانِكم وقتْلِ إخوانِكم ومُواطِنيكم، وقهْرِ شعوبِكم، فإنَّهم لنْ يحترِمُوكم في وقتٍ من الأوقاتِ ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾.

 

إِذَا رَأَيْتَ نُيُوبَ الِّذْئبِ بَارِزَةً            فَلَا تَظُنَّنَّ أَنْ الذِّئْبَ يَبْتَسِمُ

 

ولا يعرفُ التاريخُ لهم أنهم حفِظُوا جميلًا أو راعَوْا عهدًا لمن تقرَّب إليهم على حسابِ دينِه ووطنِه وأمتِه، وما هم إلا كَذِئْبِ السُّوءِ، دينُه الخيانةُ والظلمُ، ذلك أنهم يزعُمون كذبًا أنَّ اللهَ سخَّر لهم كلَّ مَنْ سواهم مِن البشرِ، ولنْ يُؤاخِذَهم على أيِّ جريمةٍ بحقِّ غير اليهود ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون﴾، ويعرفُ عنهم ذلك الغربيُّون الذين زرَعُوهم في بلادِنا؛ ليتخلَّصُوا من شُرورِهم، وراجِعوا إنْ شئتُم قصةً (تاجر البندقية) لشكسبير.

 

وقد قيل: «لَا تَغْتَرَّنَّ بِمُقَارَبَةِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّهُ كَالْمَاءِ وَإِنْ أُطِيلَ إسْخَانُهُ بِالنَّارِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إطْفَائِهَا»، وقيل: «مَثَلُ الْعَدُوِّ الضَّاحِكِ إلَيْك كَالْحَنْظَلَةِ الْخَضْرَاءِ أَوْرَاقُهَا، الْقَاتِلِ مَذَاقُهَا».

 

ثم إنَّ الشعبَ المصريَّ الأصيلَ لنْ يسمحَ لكم وللصهاينةِ بتمريرِ مشروعِ هذا الحلفِ الأثيمِ، وسوف يظلُّ في حراكِه السِّلميِّ المبدِع والمبهِرِ، حتى يُسقطَ كلَّ المتآمرينَ على هُويَّتِه العربيةِ والإسلاميةِ وعلى مستقبلِه وحريتِه وكرامتِه ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.

 

•  الغَدْرُ طَبِيعَتُهُم والخِيَانَةُ دَأْبُهُم

بهذا وصفُهم ربُّ العالمين ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾، وضرب لنا مثلًا من نقضِهم العهودَ والمواثيقَ حتى مع بعضِهم البعض، فقال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.

 

ومهما حاوَلُوا الوفاءَ فإنَّ طبيعتَهم تغلِبُهم، فلا يستطيعُون منعَ أنفسِهم من الغَدْرِ ونُكْرانِ المعروفِ؛ لأنَّ الطبعَ يغلبُ التطبَّع، وقد حاولَ كعبُ بنُ أسدٍ زعيمُ يهودِ بني قُرَيْظةَ أن يحملَ نفسَه على الوفاءِ بالعهدِ مع رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنَّه لم يستطِعْ أنْ يُقاوِمَ طبيعتَه بعد أنْ أغْوَاه حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ زعيمُ يهودِ بني النَّضيرِ، وزَيَّنَ له أنَّ محمدًا والمسلمينَ في أضعفِ أحوالِهم، وأنه لا خشيةَ عليه وعلى بني قُرَيْظةَ من نقضِ العهدِ، وأن هذه فرصتُهم في النَّيْلِ من الإسلامِ والمسلمين، فاستسلم لطبيعتِه الغادرةِ ونَقَضَ العهدَ، وبَاءَ بوِزْرِ إثمِه وخيانتِه

 

كُلَّ امْرِئٍ رَاجِعٌ يَوْمًا لِشِيمَتِهِ             وَإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلَاقًا إِلَى حِينِ

 

• الطَّبْعُ غَلَّابٌ:

للَّذين يتصوَّرون أنَّ الصهاينةَ يمكنُ أنْ يحفظوا لهم جميلًا لمن ناصَرَهم وخانَ الأوطانَ لصالحِهم، أسوقُ قصةَ العَجُوز التي ربَّت جَرْوَ ذِئْبٍ في بَيْتهَا، فَلَمَّا كَبِرَ قَتَلَ شَاتَهَا، فأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

 

بَقَرْتَ شُوَيْهَةً وَفَجَعْتَ قَوْمًا             وَأَنْتَ لِشَاتِنَا ابْنٌ رَبِيبُ

غُذِيتَ بِدَرِّهَا وَرُبِّيتَ فِينَا                فَمَنْ أَنْبَاكَ أَنَّ أَبَاك ذِيبُ

إذَا كَانَ الطِّبَاعُ طِبَاعَ سُوءٍ              فَلَا أَدَبٌ يُفِيدُ وَلَا حَلِيبُ

 

وهلْ ينتظرَ خائنُ مبادئِه وصنيعةُ عدُوِّه ممَّنْ خدمَهم غيرَ هذه النهاية؟.

•  إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً:

لقد قرَّر القرآنُ العظيمُ أنه لا يجتمعُ الدِّينُ الصحيحُ والعقلُ الواعي مع الثقةِ بالعدُوِّ، والاعتمادِ على وُعودِه، لأنه لن يـتأخَّرَ لحظةً في الانقضاضِ على الأُمَّةِ ونقضِ كلِّ العهودِ متى وجدَ فرصة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾. وقد رأيْنا انتهازَ يهودِ بني قُرَيْظةَ اجتماعَ الأحزابِ على المسلمينَ في غزوةِ الخندقِ لنقْضِ العهْدِ مع المسلمين.

 

تلك هي طبيعةُ هذا الصنفِ من البشرِ اللِّئامِ، لا يُحّوِّلُهم صُنْعُ المعروفِ إليهم عن طبائعِ الشرِّ والغدرِ الأصيلةِ فيهم، وبمجرَّدِ أنْ يتمكَّنُوا يكونُ مُسْدِي المعروفِ إليهم أوَّلَ ضَحاياهم، كمُجِيرِ (أمّ عامِر) التي تضربُ بها العربُ المثَلَ لمن صنعَ المعروفَ في غيرِ أهلِه، فارتدَّ عليه بالخُسْران، وهاكم قصتَها: خرجَ فِتْيانٌ من العربِ للصَّيْدِ، وأثَارُوا ضَبْعًا، ففَلَتَتْ مِنْ أيْدِيهم، ودخلتْ خِبَاءً لبعضِ العربِ، فخرج إليهم فقالَ: واللهِ لا تَصِلُونَ إليها وقد استَجارَتْ بي، فخَلَّوْه وإيَّاها، فلما انصرفُوا عَمَدَ الرجلُ إلى خُبزٍ وسمنٍ فثَرَدَه وقرَّبَه إليها، فأكلتْ حتَّى شَبِعَتْ وتمدَّدَتْ في جانبِ الخِبَاءِ، وغلبَ الأعرابيَّ النومُ، فلما استثقَلَ وَثَبَتْ إليهِ فقَرَضَتْ حلقَه وبَقَرَتْ بطنَه وأكلَتْ حَشْوَتَه، وخرجَتْ تَسْعَى، وجاءَ أخو المقتولِ فلما نظرَ إليه أنشأَ يقولُ:

 

وَمَنْ يَصْنَعِ المعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ        يُلَاقِي كَمَا لَاقَى مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ

أَعَدَّ لَهَا لَمَّا اسْتَجَارَتْ بِبَيْتِهِ             قِرَاهَا مِنْ أَلْبَانِ اللِّقَاحِ الغَرَائِرِ

فَأَشْبَعَهَا حَتَّى إِذَا مَا تَمَلَّأَتْ             فَرَتْهُ بِأَنْيَابٍ لَهَا وَأَظافِرِ

فَقُلْ لِذَوِي المعْرُوفِ هَذَا جَزَاءُ مَنْ       يَجُودُ بِمَعْرُوفٍ إِلَى غَيْرِ شَاكِرِ

 

ويرحمُ اللهُ سفيانَ الثوريَّ إذْ يقولُ: «وجدْنَا أصْلَ كُلِّ عَدَاوَةٍ: اصطِناعَ المعرُوفِ إلى اللِّئام».

 

•  مَنْ حَفِظَ الصَّهَايِنَةَ يَوْمًا ضَاعَا

نُكرانُ الجميلِ ونسيانُ المعروفِ هو الحقيقةُ التي يؤكِّدُها التاريخُ والواقعُ عن الصَّهاينةِ، والتي تتكرَّرُ مع كل مَنْ خانَ مبادِئَه وباعَ قِيَمَه وغدَرَ بالمخلِصين له، ووَثِقَ بوُعودِ الأعداءِ وأَمَانِيِّهِم واجتهدَ في إرضائِهم، فأصبحَ مُضَيَّعًا ممَّنْ باع لأجلِهم دينَه ومبادِئَه، ومُضَيَّعًا من بني وطنِه الذين عَاداهم واغتصبَ حُقوقَهم وخانَ دينَه ومبادِئَهم، فخسِرَ الدُّنْيا والآخرةِ؛ ذلك أنَّ العداوةَ والحقدَ والشحْناءَ في قُلوبِهم لا تَدَعُ موضعًا لعِرْفانِ الجَميلِ، وقد صاغَ أميرُ الشعراءِ هذه الحقيقةَ في إحدَى روائِعِه فقال :

 

فَأْرٌ رَأَى القِطَّ عَلَى الجِــــدَارِ             مُعَذَّباً في أَضْيَقِ الحِصـَــارِ

والكَلْبُ فِي حَالَتِهِ المعْهُــودَهْ              مُسْتَجْمِعًا لِلْوَثبَة ِ الموْعُـودَهْ

فَحَاوَلَ الفَأْرُ اغْتِنَامَ الفُرْصَهْ             وَقَالَ: أَكْفِي القِطَّ هَذِي الغُصَّهْ

لَعَلَّـــــــهُ يَكْتُبُ بِالْأَمـَــــــانِ                  لِي وَلِأَصْحَابِي مِنَ الجُـرْذَانِ

فَسَـــــــــارَ لِلْكَلْبِ عَلَى يَدَيْهِ               ومَكَّـــنَ الـــتُّرَابَ مِنْ عَيْنَيْهِ

فَاشْتَغَلَ الرَّاعِي عَنِ الجِـدَارِ              وَنَزَلَ القِطُّ عَلَى بـــــِـــــــدَارِ

مُبْتَهِجــًا يُفَـكِّــرُ فِي وَلِــيمَهْ                وَفِي فَرِيسَةٍ لَهَا كَــــــــرِيمَهْ

يَجْعَلُهَا لِخَطْبِهِ عـَــــلَامَــــهْ                   يَذْكـُـــــرُهَا فَيَذْكُرُ السَّــلَامَهْ

فَجَاءَ ذَاكَ الفَأرُ فِي الْأَثْنـَــاءِ              وَقَـالَ: عَاشَ القِطُّ فِي هَنـَــاءِ

رَأَيْتَ فِي الشِّدَّةِ مِنْ إِخْلَاصِي           مَا كَانَ مِنْهَا سَبَبُ الخَـــلَاصِ

وَقَــــدْ أَتَيْتُ أَطْلُبُ الْأَمـَــانـَـا              فَامْنُنْ بِهِ لِمَعْشَرِي إِحْسَــــانَا

فَـــقَـــالَ: حَقــًّا هَذِهِ كَــرَامَهْ                غَنِيمَة ٌوَقَبْلَهَا سَــــــــــــلَامَهْ

يَكْفِيكَ فَخْرًا يَا كَرِيمَ الشِّيمَهْ           أَنَّكَ فَأْرُ الخَطْبِ وَالوَلِيمـَـــــهْ

وَانْقَضَّ فِي الحَالِ عَلَى الضَّعِيفِ         يَأْكُلُهُ بِالمِلْـــــــحِ وَالرَّغِيفِ

فَقُلْتُ فِي المقَامِ قَوْلًا شَاعَـــــا              مَنْ حَفِظَ الأَعْدَاءَ يَوْمًا ضَاعَا

 

فهلْ يَعِي ذلك الذين يُسارِعُون في مودَّةِ كارِهي الوطنِ والملَّةِ، ويَسْعَوْنَ في خدمةِ أهدافِهم، وهل يُحَكِّمُون عقولَهم ويَستعِيدونَ وطنيَّتَهم، فيتدارَكُون أمرَهم قبلَ فَوَاتِ الأَوَان؟.

 

إذا كنتم تبتَغُون العِزَّةَ بالاستعانةِ بالصَّهاينةِ فقد أحْلَلْتُم على أنفسِكم غضبَ اللهِ وسَخَطَ الشعبِ، وسوف تَسقُطُون أنتم والصَّهاينةُ بإذْنِ اللهِ قريبا، ولنْ تنالُوا ما تبتَغُون ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾. وخِيانَتُكم لأُمَّتِكم ودُخولُكم في حِلْفِ أعداءِ أُمَّتِكم لنْ يُسْلِمَكُم إلَّا إلى خِزْيٍ وهَوَانٍ إنْ شاء الله.

 

أَخْلِقْ بِمَنْ رَضِىَ الخِيَانَةَ شِيمَةً            أَنْ لَا يُرَى إِلَّا صَرِيعَ حَوَادِثِ

 

أمَّا أنتم أيُّها الثُّوَّارُ الأحرارُ فاستمرُّوا في نضالِكم وحَراكِكم الثوريِّ، وكُونُوا على تمامِ الثِّقةِ بأنَّ ما يبتغِيه الانقلابِيُّون بالمسارَعةِ في إرضاءِ أعداءِ الأمَّةِ لَكَفِيلٌ بسُقُوطِهم جميعًا عن قريبٍ إنْ شاء الله، ولنْ تستعيدَ الأمةُ حقوقَها ومكانَتَها وتتحقَّقَ عِزَّتُها إلَّا حينَ تطلُبُ العِزَّةَ مِنْ ربِّ العِزَّةِ وحدَه لا شريكَ له ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾، ولا تَبْتَئِسُوا بما يصنعُه تلامِذَةُ ابنِ سَبَإٍ وابنِ سَلُولٍ، فمصيرُهم كمصيرِ مَنْ سَبقوهم فِي الضَّلالِ إن شاء الله

 

وتيقَّنُوا أنَّ ما يُصِيبُنا الآن ليس إلَّا آلامَ ما قبْلَ بُزُوغِ فجرِ النصرِ والتَّمْكينِ لهذا الدين ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾

 

والحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلَا                تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ

لَكِنَّمَا الْعُقبَى لأَهْلِ الْحَقِّ إِنْ             فَاتَتْ هُنَا كَانَتْ لَدَى الدَّيَّانِ

أسألُ اللهَ أنْ يُلْهِمَنا رُشْدَنا، وأنْ يَنْصُرَنا على عدُوِّنا، وأنْ يُعَجِّلَ لأُمَّتِنا فرجًا قريبا.