في يوم الإثنين 22/10/2007م بينما كنت معتقلاً في سجن مزرعة طرة قرأتُ حوارًا في صحيفة (البديل) مع المستشار محمد حامد الجمل رئيس المحكمة الإدارية العليا، (مجلس الدولة) سابقًا، يتضمن شهادةً في غاية الخطورة، فاحتفظت بصفحة الحوار حتى أكتب تعليقًا عليه فور خروجي من المعتقل، إلا أن مشاغل الحياة استغرقتني ما يزيد عن ثمانية أشهر قبل أن أنتزع نفسي للتعليق على الحوار الخطير، ولنبدأ بنص الحوار:

 

يسأل الصحفي قائلاً: دعنا نبدأ من قضية المحاكمات العسكرية، خاصةً أنك أصدرت حكمًا حينما كنت رئيسًا لمجلس الدولة عام 1993م بإحالة بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين إلى القضاء العسكري، وهو ما يحدث الآن.. كيف ترى محاكمة المدنيين عسكريًّا؟

 

ويجيب السيد المستشار: منح السلطة التنفيذية صلاحيات إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري محرَّمٌ وفقًا للمواثيق الدولية والأديان السماوية، وهو قضاء استثنائي، ويتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، وحينما أصدرتُ الحكم الشهير بإحالة بعض قيادات الإخوان إلى القضاء العسكري كنتُ ملتزمًا بالقانون والأحكام السابقة المستقر عليها في المحكمة الإدارية العليا، وليس معنى ذلك أنني أؤيد إحالة المدنيين إلى المحاكمات العسكرية.

 

س: قبل النطق بالحكم وأثناء المداولة، ماذا كان رأيك؟

ج: غصبًا عني "لازم" أفعل ذلك.

 

س: ولماذا غصبًا عنك؟

ج: لأني قاضٍ، ولا أستطيع تغيير الأحكام القضائية المستقرة بمزاجي كما فعل المستشار طارق البشري وقام بإلغاء إحالتهم حينما كان رئيسًا لمحكمة القضاء الإداري؛ لأنه يحكم بميوله السياسية، بينما أنا التزمتُ بالأحكام السابقة التي استقرَّت عليها المحكمة الإدارية العليا، ومن حقي الآن الاعتراض على الحكم الذي أصدرتُه؛ لأني تركت المنصة، "ومن حقي أقول اللي أنا عايزه".

 

س: حينما أصدرت الحكم.. ؟

ج: (مقاطعًا): أنا لم أصدر الحكم وحدي، وإنما المحكمة بكامل أعضائها، وأنا التزمتُ برأي الأغلبية.

 

س: هل مورست عليك ضغوط من قِبل الدولة قبل إصدار الحكم بإحالة المدنيين إلى المحاكمات العسكرية؟

ج: أعضاء الدائرة الذين وقَّعوا على الحكم معي منتدبون لدى الوزارات والهيئات الحكومية، ويعلمون جيدًا أن الحكم لو صدر على عكس ما تريد الدولة سيتم إلغاء انتدابهم، وبالتالي ضياع الأموال التي يحصلون عليها من الانتداب؛ الأمر الذي يجعلني ألتزم برأي الأغلبية رغم رفضي الداخلي للحكم؛ فالديمقراطية والالتزام برأي الأغلبية يتطلب أن تكون هذه الأغلبية مستقلة ومحايدة وليس لها مصلحة سوى مصلحة العدالة.

 

س: أنا كمواطن.. كيف أطمئن للقاضي الذي يحكم في قضيتي والسلطة التنفيذية تتدخل في عمله؟!

ج: لذلك كنت وأنا رئيس لمجلس الدولة أطالب بالاستقلال المالي والإداري والتنظيمي للسلطة القضائية، وهناك الكثير من الضغوط التي تُمارَس على السلطة القضائية، سواءٌ بطريقة مباشرة من خلال التدخل الفج في المنازعات والقضايا، أو بطريق غير مباشر من خلال تجنيد عددٍ من القضاة لبث الفرقة والفتنة بين القضاة، ولإحداث انشقاق في صفوفهم، وهذا الأسلوب متبع من العهد الناصري، والنظام الحالي ما زال يطبق هذا المبدأ: "فَرِّقْ تَسُدْ"، وفي مجلس الدولة أثناء رئاستي تم تجنيد عدد من المستشارين لصالح النظام، وكانوا أعضاءً بالمجلس الخاص.

 

س: ولكن أعضاء المجلس الخاص يتم اختيارهم بالأقدمية؟

ج: نعم، ولكن النظام يجند عددًا منهم ويوحي لهم بأنهم إذا فعلوا كذا سنعينك رئيسًا لمجلس الدولة، وحدث معي بالفعل؛ حيث دعا عددٌ من التابعين للنظام إلى عقد جمعية عمومية لسحب الثقة مني ولكنهم فشلوا في ذلك بسبب رفض أغلبية المستشارين سحب الثقة.

 

س: تحدثت عن تعرضك لضغوط أثناء فترة رئاستك لمجلس الدولة.. ما شكل هذه الضغوط؟

ج: كانت ضغوطًا من داخل أعضاء بالمجلس لهم صلة وثيقة بالنظام ووزارة العدل.

 

س: هل كان يتصل بك أحد من النظام ويطلب منك إصدار حكم في قضيةٍ ما في اتجاه معين؟

ج: حينما يريد النظام الضغط على رئيس هيئة قضائية فلا يكون بهذا الشكل الفج كأن يقول له "قضية عبد السلام عايزين الحكم كذا"، ولكن يكون الضغط بمنع الفلوس التي نريدها للمجلس أو منع درجات قضائية يحتاجها العمل أو عدم تنفيذ قراراتك.

 

س: وهل حدث ذلك معك؟

ج: طبعًا.

 

س: في أية قضية كانت؟.

ج: لن أستطيع القول الآن، ولديَّ مذكراتي فيها كل شيء وكل الضغوط التي تعرَّضت لها، ولكن سأعلنها في الوقت المناسب، ولا أخفي عليك أني خائف من إعلانها الآن.

 

س: هل المستشار محمد حامد الجمل راضٍ عن الأحكام التي أصدرها؟

ج: أنا مرتاح لهذه الأحكام من الناحية المهنية والقانونية، ولكن هذا لا يعنى أنني راضٍ عن القوانين وأحكام الدستور.

 

س: هل هناك أحكام أصدرتها وندمت عليها؟

ج: لست نادمًا على الأحكام في حد ذاتها، وإنما ما شعرت به أن القوانين والدستور مرفوض، ولكنني ملزم بتطبيقه، وأنا أتحدث الآن بعيدًا عن منصبي القضائي، كما أن الأحكام التي أصدرتُها لم أبخل في بحثها، وبذلت الجهد فيها لتحقيق العدالة.

 

س: القوانين السيئة جعلت المستشار محمد حامد الجمل يصدر حكمًا على غير رغبته.. أليس كذلك؟

ج: لم أكن راضيًا عن بعض الأحكام التي أصدرتها، ولكني ملتزم بتطبيق القانون، ومنها حكم إحالة الإخوان إلى المحاكمات العسكرية.

 

س: ما تعليقك على الأحكام التي يصدرها مجلس الدولة ولا يتم تنفيذها؟ وما هو شعورك؟

ج: عدم تنفيذ الأحكام يؤكد أننا في دولةٍ لا تحترم القانون ولا الدستور؛ فرغم أن الدستور أكد سيادة القانون إلا أن أحكام القضاء تُهدَر ولا تُنفَّذ، وأنا حاليًّا أشعر بالندم على دخولي كلية الحقوق؛ لأني أضعت حياتي في مهنةٍ غير مرغوب فيها من النظام الحاكم؛ فهو لا يحترم القانون ولا يعترف به إلا لمصلحته، ويضع القوانين التي تحقِّق رغباته، ونتيجةً لذلك لا ينفذ الأحكام إلا التي تصدر لصالحه.

 

س: تتحدث عن عدم جدوى الدستور والقانون رغم أن الدستور به نصوص تؤكد سيادة القانون.. أعتقد أن المشكلة في التطبيق؟

ج: لا بد من وجود آليات لتطبيق نصوص الدستور وإلا فستظل حبرًا على ورق؛ فلا بد من إحداث توازن بين السلطات الثلاث، وأن تكون هناك سلطة قضائية مستقلة، وسيادة قانون فعلية، وانتخابات تشريعية حرة ونزيهة، ونواب مستقلون يعبرون عن إرادة الشعب، وبدون هذه الآليات فلا فائدة من القانون أو الدستور، ولن يتم تطبيقه.

 

مرَّ أكثر من ثمانية أشهر على هذا الحديث ولم يعلق عليه أحد رغم خطورته، ومما يضاعف من هذه الخطورة أنه صادر عن رئيس إحدى أكبر ثلاث محاكم في مصر، وهي التي تتولَّى الحكم في النزاع بين الحكومة وأفراد الشعب.

 

ولو تأملنا هذا الحديث لخَلُصنا منه إلى الحقائق الآتية:

1- السلطة التنفيذية لها صلاحيات مهيمنة على السلطة القضائية، وتستغلها في إجبار بعض القضاة على إصدار أحكام جائرة تحقق مصلحتها.

 

2- إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية أمر محرَّم وفقًا للمواثيق الدولية والأديان السماوية، ويتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان؛ لأنه قضاء استثنائي.

 

3- هناك قوانين معمول بها تتعارض مع المواثيق الدولية والأديان السماوية ومنها الشريعة الإسلامية، وكذلك مع مبادئ حقوق الإنسان، ويُلزَم القضاة بتطبيقها رغم إنكار ضمائرهم هذه الأحكام.

 

4- السلطة التنفيذية تُخضِع بعض القضاة بأسلوب الترغيب والغواية عن طريق انتدابهم للوزارات والهيئات الحكومية مقابل مبالغ مالية ضخمة، وبأسلوب الترهيب عن طريق تهديدهم بحرمانهم من هذه المبالغ بإلغاء الانتداب إذا أصدروا أحكامًا على غير هواها.

 

5- أن الاستقلال المالي والإداري والتنظيمي الكامل للسلطة القضائية غير موجود، ولا تزال الحكومة ترفض تحقيقه، رغم أن شرفاء القضاة يكافحون من أجل ذلك منذ عدة عقود.

 

6- السلطة التنفيذية تجنِّد عددًا من القضاة التابعين لها لإحداث الفرقة والفتنة والشقاق في صفوف القضاة، وتهديد رؤسائهم المستقلين بسحب الثقة منهم.

 

7- من وسائل الضغط على المحاكم أيضًا- لا سيما المحكمة الإدارية- منع الأموال التي تحتاجها المحاكم، أو منع الدرجات القضائية التي تحتاجها، وكذلك عدم تنفيذ أحكامها.

 

8- المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق يخشى من بطش الحكومة به إن قام بنشر مذكراته؛ فما بالنا بأفراد الشعب العاديين؟! كما أنه نادم على دخوله كلية الحقوق؛ لأن القضاء النزيه غير مرغوب فيه من الحكومة.

 

9- من نصوص القانون بل ومن الدستور ما يقنَِّن الظلم، وهذا أبشع ألوان الظلم؛ لأنه يسبغ عليه صفات القانونية والدستورية والاستمرار والاطراد والعموم؛ بمعنى أن يطبَّق على كل أفراد الشعب.

 

10- أننا نعيش في دولةٍ لا تحترم القانون والدستور- رغم ذلك- فهي لا تطبق إلا ما هو مع مصلحة الحكومة وضد مصلحة الشعب، أما الأحكام التي تأتي على خلاف ما تريد فتضرب بها عرض الحائط.

 

11- لن يتم إصلاح إلا بتحقيق الفصل المتوازن بين السلطات، وأن تكون هناك سلطة قضائية مستقلة، وسيادة قانون حقيقية، وسلطة تشريعية منتخبة انتخابًا حرًّا نزيهًا؛ حتى يكون النواب مستقلين؛ يعبِّرون عن ضمير الشعب وإرادته.

 

وإذا كان لنا من تعليق فإنما نتوجه به إلى القضاة الذين أناط الله تعالى بهم القيام بالقسط والحكم بالعدل بين الناس، وهو الغاية التي أرسل من أجلها الرسل وأنزل الكتب ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).

 

لذلك فقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم القضاة من الجَوْر، وحضَّهم على العدل، فقال: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار"، وحذَّر الأشخاص الذين يضعفون عن الصدع بالحق والحكم بالعدل ويميلون مع الهوى ويؤثرون مصالحهم الشخصية من تولي القضاء أصلاً، فقال "من وَلِيَ القضاء فقد ذُبح بغير سِكِّين" أي عرَّض نفسه للهلاك.

 

بل ضرب مثلاً بنبي الله داود؛ إذ حذره من اتباع الهوى فقال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص: 26).

 

ويقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجلٌ عرف الحق فقضى به. ورجلٌ عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار".

 

وقال العلماء إن الهدية إلى القاضي من أحد المتخاصمين تعتبر من الرشوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا؛ فما أخذه بعد ذلك فهو غلول" أي من ولَّيناه وظيفةً وجعلنا له أجرًا مقابلها؛ فما أخذه بعد ذلك بسببها فهو رشوة، وقال عليه الصلاة والسلام: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم" ويقول تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 188).

 

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ويل لديانِ مَن في الأرض مِن ديانِ مَن في السماء يومَ يلقونه إلا من أمر بالعدل، وقضى بالحق، ولم يَقْضِ على هوى ولا على قرابة، ولا على رغبٍ ولا رهبٍ، وجعل كتاب الله مرآةً بين عينيه".

 

فإذا استيقن القضاة أن إحالة المدنيين إلى المحاكمات العسكرية محرم؛ تُحرِّمه المواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الأديان السماوية؛ أي أن الله تعالى قد حرَّمه، فكيف يحكمون به حتى إن أباحه القانون الوضعي؟! ولا سيما أنهم أعلم الناس بطريقة سَن القوانين عبر مجلس تشريعي جاء معظمه بانتخابات مزوَّرة، ولا يجرؤ أحد من المنتمين للحزب الحاكم أن يرفض له طلبًا ولو تعارض مع شرع الله وحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، ثم إذا كان القانون يقضي بما حرَّمه الشرع.. هل يكون دستوريًّا؟! والدستور ينص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.

 

وهل يليق بمن جلس على منصة القضاء والحكم، وتطلعت إليه أفئدة أفراد الشعب كله، ورَنَت إليه أبصارهم، وامتلأت قلوبهم بالحب والتوقير له، وأَمِلت فيه الخير ومنه العدل والإنصاف.. أن يضحيَ بهذا كله مقابل انتدابٍ هنا أو هناك يدر عليه مالاً مهما عظم فهو حقير؛ لأنه حرام فهو رشوة مستترة؟!

 

وهل أدرك هؤلاء القضاة مغبة حكمهم بإحالة المدنيين إلى القضاء العسكري وهم يعلمون أنه ليس قضاءً؛ فهو جزء من السلطة التنفيذية يخضع لها ويأتمر بأمرها، وبالتالي تكون السلطة التنفيذية هي الخصم والحكم؟! وهل يعلمون كم أُصدر من أحكامٍ بالإعدام على مظلومين، أو على الأقل لا يستحقون الإعدام.. فمن الذي يتحمَّل وزر قتلهم؟!.. إن الذين حكموا بإحالتهم إلى القضاء العسكري، والسلطة التنفيذية التي أحالتهم، والقضاة العسكريون الذين أصدروا الأحكام الظالمة كلهم يتحملون هذا الوزر.

 

ولكن القضاة المدنيين الذين حكموا بجواز الإحالة إلى المحاكم العسكرية يتحملون الوزر الدائم؛ لأن حكمهم كان الأساس، وسيظل المستَند الذي تعتمد عليه السلطة التنفيذية لإحالة المدنيين إلى القضاء العسكري، وستظل لعنة هذا الحكم تطاردهم ما بقي الحكم منفَّذًا، ولو انتقل القضاة إلى الدار الآخرة، وسيتعلق كل من قُتل مظلومًا برقابهم يوم القيامة، إذا كان ذلك نتيجة قضائهم.

 

ألم يقل الله عز وجل: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ (الإسراء: من الآية: 33)؟! وألم يقُل: ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: من الآية: 32)؟! ثم ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَزَوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم"؟! وأيضاً ألم يقل الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 93)؟!

 

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعان على قتل رجل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا على وجهه: آيس من رحمة الله"، وجاء في الحديث أيضًا: "ما من نفس تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سنّ القتل".

 

ثم ألم يكن حكمهم هذا سببًا في سجن كثير من الناس المصلحين الذين ما كانوا يستحقون إلا التقدير لسنوات طويلة، ومصادرة أموال، وحرمان أسر من ذويهم، وأحزان قلوبهم، وتضَعْضُع صحتهم، وتعطُّل مصالحهم؟! ألم يفكروا في عدد السنوات التي غُيِّب هؤلاء المصلحون فيها في غياهب السجون؟! وهل إذا قضى الله بتغييبهم مثلها في نار جهنم.. هل يقوون على ذلك؟! أم لم يرد هذا على تفكيرهم فغشيتهم الغفلة ونسوا الله فأنساهم أنفسهم؟!

 

فهل تستحق عشرات أو مئات أو حتى ملايين الجنيهات التي جَنَوها من الانتدابات هذه الخسائر؟! وهل تستحق أيضًا انهيار قيمة العدل في الأرض، وفقدان الثقة في القضاء، ويَأْس الناس من الحق، وضياع الولاء للوطن؟!.

 

كما أن القضاء ليس فيه ديمقراطية؛ بمعنى أن على القاضي أن يتمسك بالحكم الذي يقتنع به عقله ويرتضيه ضميره، وليس له أن يتنازل عنه كي يوافق الأغلبية، لا سيما أنه يعلم أن هذه الأغلبية مدفوعة بمصالحها في الانتداب، ولكن عليه أن يثبت رأيه في المداولة حتى إن أصدرت الأغلبية حكمها مخالفًا للحق الذي يعتنقه.

 

ألم يقرأ القضاة الذين يحكمون بما يخالف ضمائرهم، ويخالف حكم الله، سيرة الأئمة الصالحين الذين رفضوا تولِّي القضاء حينما اشتمُّوا شبهة عدم قدرة فيهم على إنفاذ الحق والعدل كاملَين بين الناس، وبعضهم تعرَّض للفتنة نتيجة رفضه تولِّيَ المنصب، ومنهم الإمام أبو حنيفة النعمان، وحياة بن شريح وغيرهما؟! بل إن من القضاة المعاصرين نماذج مضيئة رفضت الانتداب من أصله، سواءٌ كان للوزارات والهيئات الحكومية، أو لمحكمة القيم أو الأحزاب؛ لأنهم يعتبرونهما ليستا محكمتين، وضحوا بالمنافع الكبيرة التي كانت من الممكن أن تعود عليهم لو قبلوا ذلك، ولكنهم آثروا رضاء الله على رضاء الحكومة، واحتفظوا بشرفهم وكرامتهم، متمثلين قول الله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾ (الطلاق)، بل لا يزالون يجاهدون من أجل إصلاح القضاء واستقلاله، ولا داعيَ لذكر الأسماء.

 

وفي مقابل ما تفعله الحكومة من إفساد للقضاء بكل الأساليب غير الشرعية وغير الأخلاقية، أقدم رسالة الحاكم العادل عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري قاضيه على العراق؛ أنقل منها قوله رضي الله عنه: "فإن القضاء فريضةٌ مُحْكَمة، وسُنَّة مُتَّبعة، فافهم إذا أُدليَ إليك؛ فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحق لا نفاذَ له، آسِ- أي سوِّ- بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمعَ شريف في حيفك- أي ميلك إليه لشرفه- ولا ييأسَ ضعيفٌ من عدلك، البيِّنةُ على من ادَّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالاً، لا يمنعنك قضاءٌ قضيتَه اليوم فراجعتَ فيه عقلك وهُدِيتَ فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ أو مُجرَّبًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا- متهمًا- في ولاء أو نسب؛ فإن الله تولَّى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والأَيْمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات؛ فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر؛ فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس- أظهر لهم في خُلقه خلافَ نيته- بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله- أي فضحه- فما ظنك بثواب الله- عزَّ وجل- في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟!".

 

هذا هو الحق، وهذا هو العدل، وهذا هو الإسلام، الذي سنظل نؤمن ونقرر أنه هو الحل ولو كره الكارهون ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (النساء: 58).

------------

* عضو مكتب الإرشاد