تتحدث هذه المقامة من مقامات بديع الزمان الهمذاني عن حكاية رجل ينتظر قافلة، ليرحل معها، وحين تأتي، يُنادَى للصلاة، فيسرع إلى صلاة الجماعة لكنه يتعرض لموقف طريف؛ إذ يطيل الإمام في الصلاة، ثم يتبعه رجل يحجزه بخطابته!.

 

- نقف في هذه المقامة على مضحك استخدمه "الهمذاني" كثيرًا وبرع في توظيفه، يتمثل هذا المضحك في التقاط الصور من الحياة وإضفاء الروح الفكاهية عليها، وتعميق المفارقة فيها وتأكيدها.

 

فكلما كانت الفكاهة قريبة من الإنسان، وبيئته ومجتمعه، كانت أقدر على الإضحاك، ولذلك وجدت الفكاهات الخاصة بكل بيئة اجتماعية، وقد لا يستجيب الشخص من خارج هذه البيئة للضحك- كما يقول علماء النفس(1)- فلا يكاد القارئ المسلم يقرأ هذه المقامة حتى يتذكر موقفًا مشابهًا، أو يدركه ويحسّه بجميع أبعاده- على أقل تقدير- هذا المضحك لا تخلو منه مقامة من مقامات "الهمذاني"؛ مما جعل القلوب تتعلق بها وتشغف بترديدها.

 

- ومن المضحكات التي وظفت توظيفًا ناجحًا في هذه المقامة، تتبع الحركة النفسية للشخصيات، فبالرغم من قلة شخصيات المقامة، فإن ملاحظات "بديع الزمان" كانت جدًّا خطيرة، فإذا كنا قد عرفناه بارعًا في التقاط الصور من الحياة بذكاء وحسٍّ فكاهي منقطع النظير، فها هو يمتلك نفس الملكة في تتبعه ورصده لما يعتمل في وجدان (البطل)، وإن كان "الجاحظ" قد سبقه في رصد وتسجيل الكثير والكثير من الملاحظات والنظرات النفسية والاجتماعية كما في "البخلاء"؛ فإن "الهمذاني" يبقى له فضل توظيفها في المقامة، بما يخدم الحبكة القصصية والعقدة فيها.. فإذا جاءت هذه الملاحظات في المواقف المضحكة، كان تأثيرها أوقع في النفس:

(حَدثَنا عِيسَى ْبنُ هِشَامٍ قَالَ: كُنْتُ بِأَصْفَهَانَ، أَعْتَزِمُ المَسِيرَ إِلى الريِّ، فَحَلَلْتُهَا حُلُولَ أَلْفَيِّ، أَتَوَقعُ الْقَافِلةَ كُلَّ َلْمَحةٍ، وَأَتَرَقبُ الرَّاحِلَةَ كل صّبْحَةٍ، فَلَما حُم مَا تَوَقَّعْتُهُ نُودِيَ لِلصَّلاةِ نِدَاءً سَمِعْتُهُ، وتَعَينَ فَرْضُ الإِجَابَةِ، فَانْسَلَلْتُ مِنْ بَيْنِ الصحَابةِ، أَغْتَنِمُ الجَمَاَعةَ أُدْرِكُهَا، وأَخْشَى فَوْتَ القَافِلَةِ أَتْرُكَها، لَكِني اسْتَعَنْتُ بِبَركاتِ الصَّلاةِ، عَلى وَعْثَاءِ الفَلاةِ، فَصِرْتُ إِلَى أَوَّلِ الصَُفُوفِ، وَمَثَلْتُ لِلْوُقُوفِ..)(2).

 

حشد الكاتب مجموعة من الأفعال تعبِّر عن حالة البطل النفسية، من خوفٍ، وترقب، وتشتت بين الحرص على إدراك الجماعة، والخوف من فوات القافلة: 

(أعتزم- أتوقع- أترقب- انسللت- أغتنم- أخشَى- استعنت- فصرت).

 

هذا الرصد المعبر عمّا يعتري البطل من انفعالات يستمر باستمرار الحكاية، ويثير الضحك لما يبرزه من مفارقات:

(وَتَقَدمَ الإِمَاُم إِلى المِحْرَابِ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكتَابِ، بِقِراءَةِ حَمْزَةَ، مَدةً وَهَمْزَةً، وَبِي الْغَم الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ في فَوْتِ القَافِلَةِ، وَالبُعْدِ عَنِ الراحِلَةِ، وَاتْبَعَ الفَاتِحَةَ الوَاقِعَةَ، وَأَنَا أَتَصَلَّى نَارَ الصَّبْرِ وَأَتَصَلَّبُ، وَأَتَقَلَّى عَلى جَمْرِ الغَيْظِ وأَتَقَلَّبُ، َوَلْيَس إِلاَّ السكُوتُ وَالصبْرُ، أَوِ الكَلاَمُ وَالْقَبْرُ؛ لِمَا عَرَفْتُ مِنْ خُشُونَةِ القَومِ فِي ذَلكَ المَقامِ، أَنْ لَوْ قُطِعًتِ الصَّلاةُ دُونَ السلام، فَوَقَفْتُ بِقَدَمِ الضَّرُورَةِ، على تِلْكَ الصُّورَةِ إِلَى انْتِهَاءِ السورَةِ، وَقَدْ قَنِطْتُ مِنَ القَافِلَةِ، وَأِيِسْتُ مِنَ الرَّحْلِ وَالرَّاحِلَةِ، ثُمَّ حَنَى قَوْسَهُ لِلْرُّكُوع، بِنَوْعِ مِنَ الخُشُوعِ، وَضَرْبٍ من الخُضُوعِ، لَمْ أَعْهَدْهُ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأَسَهُ وَيَدَهُ، وَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَقَامَ، حَتَّى مَا شَكَكْتُ أَنَّهُ قَدْ نَامَ، ثُم ضَرَبَ بِيَمِيِنِهِ، وَأَكَب لِجَبِيِنهِ، ثُمَّ انْكَب لِوَجْهِهِ، وَرَفَعْتُ رَأَسِي أَنْتَهزُ فُرْصةً، فَلَمْ أَرَ بَيْنَ الصُّفُوفِ فُرْجَةً، فَعُدْتُ إِلَى السجُودِ، حَتى كبر لِلْقُعُودِ، وَقامَ إِلى الرَّكْعةِ الثانِيَةِ..).

 

إننا نشعر بثقل مرور الوقت، ونشعر بالموقف العصيب الذي وقع فيه "عيسى بن هشام"، فالحركة العادية صورها "الهمذاني" بما يتناسب مع الحالة النفسية لبطلة، فجاءت بطيئة مملة.

 

(فصرت إلى أول الصفوف، ومثلت للوقوف، وتقدم الإمام إلى المحراب، فقرأ فاتحة الكتاب...).

 

وعندما ينفد صبره، يفكر في الهرب، ويُقْدمُ عليه، غير أن محاولته تبوء بالفشل، وعندما تنتهي الصلاة- وقد نفد صبره- ظنّ- ونحن معه- أنّ فرجَ اللهِ قد جاء:

(فَلَمَّا فَرِغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلى التشَهُّدِ بِلَحْيَيْهِ، وَمَالَ إِلَى التحِيةِ بِأَخْدَعَيْهِ، وَقُلْتُ: قَدْ سَهَّلَ اللهُ الَمْخرَجَ، وَقَربَ الفَرَجَ، قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُحِب الصحَابَةَ والجَمَاعَةَ، فَلْيُعِرْنِي سَمْعَهُ سَاعَةً.

 

قَالَ عِيَسى بْنُ هِشَامٍ: فَلَزِمْتُ أَرْضِي، صِيِانَةَ لِعَرْضِيَ، فَقَالَ: حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لاَ أَقُولَ غَيْرَ الحَقْ، وَلا أَشْهَدَ إِلاَّ بِالصدْقِ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبِشَاَرةٍ مِنْ نَبِيكُمْ، لكِنِّي لاَ أُؤَدِّيهَا حَتَّى يُطَهِّرَ اللهُ هَذا المَسْجدَ مِنْ كُلِّ نَذْلٍ يَجْحَدُ نُبُوءَتَهُ.

 

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَرَبَطني بِالْقُيُودِ، وَشَدَّني بِالحِبَالِ السُّودِ..).

 

كلما برز أملٌ ولاحَ أمام عين "عيسى بن هشام" لا يلبث حتى يذهب أدراج الرياح، وهو في كل مرة يحدوه فيها الأمل وما يصحبه من فرحة، يعقبها- بلا ريب- يأس وحزن وكمد!.

 

- لم يكن "القصّ" و"الحكى" عند "الهمذاني" ساذجًا أبدًا، بل كان غاية في الإتقان، فإذا وجدناه يقدم حدثًا ما على حدثٍ آخر، فلضرورة فنية، يقتضيها السياق، وحين يختار مكانًا محددًا فلديه من المبررات ما يسوّغ له ذلك، و"الهمذاني" موفق في التمهيد الفني للأحداث التي يضمّنها مقاماته، فحين أراد إتقان الحبكة في هذه المقامة، وتصعيد الأحداث مهدّ لذلك على النحو التالي:

(لكنى استعنت ببركات الصلاة، على وعثاء الفلاة)، جاء هذا الخبر بعد أن عرفنا تردّد (البطل) بين القافلة والصلاة، لكنه يحسم أمره في النهاية، مرجحًا داعي الإيمان، مستعينًا ببركة الصلاة، غير أن "بديع الزمان" أراد أمرًا آخر حين أردفه بقوله:

(فصرت إلى أول الصفوف، ومثلت للوقوف) لو لم يذكر تغلب جانب الإيمان والركون إلى الاستعانة ببركات الصلاة- ويلاحظ الجمع في "بركات"-؛ لظهر أمامنا السؤال التالي:

لماذا لم يقف في نهاية الصفوف، ليكون أسرع في الخروج من المسجد؟

هذا ما يقتضيه حال المتعجل؛ فلم يترك الكاتب المبدع المجال لمثل هذه الثغرة أن تخلّ بعمله، حتى إن كان على سبيل الافتراض! وحين تتتابع الأحداث، تتضح قيمة هذه النقطة، إذ تترتب عليها بقية الأحداث كحبسة في الصلاة، وعدم استطاعته التسلل متخطيًا الرقاب.

 

- ولا يخفى علينا الخط التصاعدي الذي سارت فيه الأحداث في تطور طريف مضحك، ثم عرضه في صياغة محكمة.

 

- والحيلة الذكية حين ادّعى الرجل الذي قام بعد الصلاة رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام، وكتابته الوصية التي أوصاه بها، وأمره بتبليغها؛ هذه الحيلة كانت- وما زالت- لها وقعها المؤثر عند العامة والدهماء، وهي من المضحكات التي لا تملّ.

 

- وقد استخدم "الهمذاني" السجع دون تكلف، فجاء مؤكدًا الفكاهة وما أراده من تصوير مثل:
(فصرت إلى أول الصفوف، ومثلت للوقوف)، و(فوقفت بقدم الضرورة، على تلك الصورة، إلى انتهاء السورة).

 

و(فقرأ الفاتحة والقارعة، قراءة استوفَى بها عمر الساعة، واستنزف أرواح الجماعة).

 

ويلاحظ أن بعض الفقرات جاءت عارية من السجع كقوله (لكني لا أؤديها حتى يطهر الله هذا المسجد من كل نذل يجحد نبوءته).

 

إن ما سبق من مضحكات قد عُرفت في الرسائل والنوادر، غير أن التوظيف الفني لها يختلف اختلاف المركب عن البسيط والناضج عن النيئ.

------------

(1) انظر: سيكولوجية الفكاهة والضحك-  د. زكريا إبراهيم- مكتبة مصر- 1988م- ص47 وما بعدها.

(2) مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني- شرح الشيخ محمد عبده- مؤسسة أخبار اليوم- القاهرة- 1988م- ص48.