إن دارنا أيها الإخوان دار عمل وعبادة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتهذيب وتعليم، وما هي دار فلاسفة يتجادلون، ولا منتدى شعراء بضاعتهم اللسان؛ ولذلك فإن عُرفنا يقول بتأكيد أساسيات العمل، من الطاعة التامة، والتزام النظام والخُطة والمنهج، وعدم الالتفاف على التسلسل المرجعي، وترك التقدم بين يدي المقدمين، وإن تربيتنا تقوم على تعميق أساسيات.

 

يقول ابن عطاء الله السكندري: "ليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضًا، أو يطلب منه غرضًا، فإن المحب مَن يبذل لك، ليس المحب مَن تبذل له".

 

وانظر أدب الصديق، رضي الله عنه، مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة: أن يتقدم بين يديه، فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم،. كيف أورثه مقامه من الإمامة والقيادة والريادة؟ فكان ذلك التأخر إلى خلفه، وقد أومأ إليه أن اثبت مكانك، سعيًا إلى الأمام!.

 

ولقد كان الإمام البنا الإمام المجدد في أواخر عمره يحنُّ لعهد المأثورات والرحلات القمرية والمناجاة والتضرع والانكسار.

 

آهٍ أخي ثم آه، على زمان طيب مشرق منير كنا نجتمع على حصير بالٍ في ركن ركين بمسجد عتيق، نرفع أصواتنا بالذكر الجماعي بعد صلاة الفجر، فتدمع العين، ويرق القلب، وينشرح الصدر، وتطمئن النفس.. (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: من الآية 28).

 

القلوب صافية لم يشبها تعقيد، ولم تتلوث بغبار الدنيا، وبالصراع على المكاسب والمناصب والمواقع، باسم مصلحة الدعوة والتغيير وتجديد المسار- واللسان عفيف طاهر لم يتورط في انتهاك الأعراض، وهتك الأسرار، ونشر الفضائح والقبائح، والنية طيبة والفطرة سليمة لم تتعلم فنون الحيل والكيد والمكر والدهاء.

 

وما كنا نظن حين كنا ناشئة تلفنا الفورة أن سيأتي يوم يتأخر فيه أحد عن لقاء، أو دفع مال، أو يهفو برفض أمر صريح، وكانت الحياة الصارمة قد أدبتنا فأحسنت تأديبنا، وعلمتنا الانضباط الجاد والانفعال المعنوي اللاهب، وكنا نتحرك بأرواح سلسلة وقلوب سوية لم يشبها تعقيد، وتغمرنا العواطف الأخوية والتطلعات الأخروية، وما زلنا كذلك في خير وافر ودأب عامر حتى انحدر الزمان إلى أواخره، وتبع جيل يدقق قبل المسارعة، ويجادل قبل الإقرار، ويفشي للقرين، ويفرح لخلاف بين المربين، ويطبق معادلات السوق الاقتصادية على علاقات أراد الله لها أن تكون سامية.

 

وربما وجدنا في هذا الجيل من يغضب على الأمراء ويرتفع صوته، أو يشترط اعتذارهم له عند خطأ يسير يبدر منهم، وربما تبلغ به الجرأة أن ينظر في عيونهم، وكانت الأعراف الدعوية تلحق ذلك بالحرام.

 

نتدارس القرآن ولكن:

إن المسألة- في إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته- ليست هي فهم ألفاظه وعباراته، ليست هي "تفسير" القرآن- كما اعتدنا أن نقول- المسألة ليست هذه، إنما هي استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة، وهي تتلقاه في خضم المعترك، معترك الجهاد، جهاد النفس وجهاد الناس، جهاد الشهوات وجهاد الأعداء، والبذل والتضحية، والخوف والرجاء، والضعف والقوة، والعثرة والنهوض، جو مكة والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس، جو الشَّعب والحصار، والجوع والخوف، والاضطهاد والمطاردة، والانقطاع إلا عن الله، ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم، بين الكيد والنفاق، والتنظيم والكفاح، جو "بدر" و"أحد" و"الخندق" و"الحديبية"، وجو "الفتح"، و"حنين" و"تبوك"، وجو نشأة الأمة المسلمة ونشأة نظامها الاجتماعي والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ في ثنايا النشأة وفي خلال التنظيم.

 

في هذا الجو الذي تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية، كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحاءاتها، وفي مثل هذا الجو الذي يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره، ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور، ولكن الناس بعدوا عن القرآن، وعن أسلوبه الخاص، وعن الحياة في ظلاله، عن ملابسة الأحداث والمقوّمات التي يشابه جوها الجو الذي تنزّل فيه القرآن، وملابسةُ هذه الأحداث والمقوّمات، وتَنسُّمُ جوها الواقعي، هو وحده الذي يجعل هذا القرآن مُدرَكًا وموحيًا كذلك.

 

الانشقاقات تحت دعوى مصلحة الدعوة

ومَن يتجاوز من إخواننا فيظن أن التجديد الخططي يستلزم كيانًا جديدًا مستقلاًّ فإنه يكون قد أبعد في الوهم؛ إذ سوف لا تلامس البركة كيانه الطارئ، ويحرمه من أنفاس المتعاقبين العطرة؛ وذلك للأسباب الآتية:

 

1- إن قيام تنظيم صغير جدًّا إلى جانب آخر قوي تفوق قوته التنظيم الأول كثيرًا إنما هو عمل قليل الفائدة.. (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) (النور: من الآية 39).

 

2- إن هذا التنظيم الجديد لا يستطيع أن يعمم ذاته ليكون له جذور عميقة في الأرض أو ليكون له انتشار في الوطن إلا بعد زمن طويل جدًّا، وسيصادف خلال هذا الزمن ما صادفه التنظيم الأول من تقسيم المقسم وتجزئ المجزأ.

 

3- إن العمل الإسلامي لا يستطيع كل فرد تحمل مسئولياته، وأكثر القادرين على العمل قد استقطبتهم الحركة؛ ولذلك لن يجد العمل الجديد عناصر مستعدة لتحمل عبء ضخم، وهكذا يبدأ العمل الجديد سيره بإمكانات أقل بكثير من إمكانات الأول بجذوره العميقة خلال تاريخ طويل.

 

- إن الحركة تملك تاريخًا ناصعًا، فقد قدمت للإسلام والدعوة والصحوة الكثير بفضل الله، وأتيحت لها ظروف أغنت فيها العمل الإسلامي المركب غناء عظيمًا، ولئن جرت محاولات لتشويهها، فإنها استطاعت أن تجابه ذلك عمليًّا ببطولة وحجج قوية، أما العمل الجديد فإنه لا تتاح له فرصة كبيرة يستعصي معها على التشويه.

 

- وكمسلمين نعتبر الوفاء خلقًا من أخلاقنا، نرى أن الوفاء شيء أساسي في حياتنا للحركة التي تحملت ثقل الضغوط، وقدمت الشهداء وسلط عليها كل فنون التشويه.

 

- ولنفرض جدلاً أن قيادة الحركة وقعت في أخطاء، فهل سيكون العمل الجديد بلا خطأ؟!! وأي عمل أجدى؟ عمل جٌرِّب أو عمل سيُجرَّب؟، وبعض الطيبين يقولون: نحن نستفيد من تجاربهم ونتجنب أخطاءهم، وهذا وهم، فالمجرب وحده هو الأقدر على الاستفادة من تجربته.

 

- إن سر قوة الحركة هو في انسجامها وتماسكها وتناغمها وانضباطها الذي شهد به العدو والصديق، فإذا انقسمت أو تشرذمت- لا قدر الله- فقد فقدت مركز ثقلها ومحور توازنها، وبعثرت أوراق تفاوضها، وذهب ريحها ومبرر وجودها.. (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (آل عمران: من الآية 46).

 

وفي فتح الباري عن الطبري وصف ليوم الجمل، وكيف أن أول ما وقعت الحرب أن صبيان المعسكرين تسابوا، ثم تراموا، ثم تبعهم العبيد، ثم السفهاء، فنشبت الحرب، وهكذا الفتن تكون: أساتذتها صبي وسفيه، وهم قادتها، وأهل الجنة وقودها!.

 

إن ناكث البيعة يوقع نفسه في جملة أمور رديئة حتى ولو اعتزل ولم يؤذ جماعة العاملين:

* فهو واقع في إثم عدم الوفاء بالعهد، وعلى مقربة من خصلة من النفاق بغيضة، فإن المنافق إذا عاهد غدر، وأقل ما يقال في هذا العهد الذي أعطاه أنه آكد من النذر الذي ينذره على نفسه، والنذر واجب الوفاء، يشغل الذمة بمجرد النطق.

 

* وهو واقع أيضًا في إثم النكوث على العقب، المذموم في القرآن، فليس هو مجرد وقوف سلبي لا يتقدم بوفاء ولا يزداد من الخيرات، وإنما هو رجوع أيضًا يستهلك ما أدخره من حسنات.

 

* كما أنه قد دخل في سنة نافلة تطوع بها إن لم نقل بوجوب العمل الجماعي، والمتطوع بسنة عليه أن يتمها كما يقول جمهور الفقهاء.

 

* ثم إن الناكث يقع رابعًا في إثم انتصابه قدوةً سيئةً لغيره يُشجِّع من بعده على تقليده، وتسويغ النكث احتاجًا بسابقته.

 

فمن خالف الجماعة فإنه لن يجد إلا وحشة، حتى قال كعب التائب، رضي الله عنه،: "تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرفها".

 

فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو، ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب.

 

أيها الحبيب:

إذا وجدت خلَلاً تنظيميًّا في جماعة مسلمة فابحث أولاًّ عن الخلل الإيماني؛ لأن كثيرًا مما يصيب الجماعة من خلل تنظيمي ربما يكون سببه ضعفًا في الإيمان أو مرضًا في القلب أو عدم الأخذ بالأسباب أو إهمالها، ومع هذا فكم من ثغرات عولجت بالإخلاص!! وكم من ضعف قَوِيَ بالمحبة؛ لذلك كان من الإخلاص سلامة الصدور بين أفراد الجماعة الواحدة، فلا بد للجماعة التي أخلص أفرادها لدعوتهم أن تكون صدورهم سليمة، وقلوبهم رحيمة، وعلاقاتهم وطيدة، يستمعون إلى رسولهم، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لهم: "بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة الصلاة ولا الصيام وإنما دخلوها بسخاوة الأنفس وسلامة الصدور". إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوصي أنسًا، رضي الله عنه، فيقول: "يا بني إذا أصبحت وأمسيت وليس في قلبك غشٌّ لأحد فافعل؛ فإن ذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبَّني، ومن أحبَّني كان معي في الجنة" ويقول: "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في الصدر". ﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر: من الآية 9). 

 

---------------

* مسئول المكتب الإداري لجماعة الإخوان المسلمين بدمياط