وقف أمام القاضي بملامحه الخشبية رابط الجأش، ثاقب النظرة، لا يستطيع كائن ما أن يعرف مشاعره بافتراض أن من كان مثله له مشاعر وأحاسيس مثل بقية البني آدمين!

 

تقدَّم واثق الخطوة يمشي باعتزاز مجرم محترف، يعرف قدر نفسه في المجتمع الذي ظلَّ يسرق ويبلطج على أرضه عقودًا طويلة.

 

قبل أن يقسم اليمين نظر نظرةً ملؤها الإكبار والامتنان إلى زعيمه المرمي في عشة الاتهام يلعب في أذنه ثم حياه بالتحية البلطجية المعروفة، واغرورقت عيناه بالدموع لأول مرة في تاريخه الطويل الرفيع.

 

وانهالت ذكرياته ولم يستطع إيقاف انهمارها، واستعرض تاريخه مع الزعيم المسجى أمامه.

 

تذكَّر كيف استخلصه الزعيم من بين جميع رجال العصابة وجعله دراعه اليمين وسره الأمين.

 

تذكَّر كيف استطاع أن يحوذ على ثقته طوال عقود طويلة، من خلال إيقاف مسام الفهم والذكاء ليستطيع مجاراة قدرات الزعيم الفذة المحدودة!

 

وكاد أن ينهار عندما استعرض محاولة الزعيم المستميتة عندما وقع في براثن الأهالي، وأمسكوا به متلبسًا بالقتل والإجرام، لتسليم مقادير العصابة له، ورغم إحباط الأهالي لهذه المحاولة إلا أنها استطاعت أن تخرجه من القضية، وبدلاً من أن يكون بجانب زعيمه في عشة الاتهام؛ هاهو يقف شاهدًا بكلِّ احترام وتناكة ليرد الجميل لمن علَّمه الإجرام والبلطجة على أصولها.

 

انتبه على صوت القاضي، فأسرع مرددًا اليمين في سعادة بالغة.

 

وقال في نفسه: قالوا للشاهد "إحلف" قال: جالك الفرج ياجنتلمان.

 

سأله القاضي: ما علاقتك بالمتهم؟

 

الشاهد: ما اعرفشي.

 

القاضي: نعم! ارفع صوتك.

 

الشاهد: لا أستطيع رفع صوتي هذه مسألة أمن عصابة.

 

القاضي: هل شاهدت المتهم يقتل الأهالي؟

 

الشاهد: استغفر الله العظيم.. استغفر الله العظيم، يقتل..! هذا الصرح الشامخ الذي يلعب كالطفل البريء في شعره يقتل...لا..لا.. وألف لا.. إنه يا سيادة القاضي يمكن أن يسرق، ويمكن أن ينهب، ويمكن أن يفسد، ويمكن أن يذبح، ويمكن أن يسحل، ويمكن أن يرمي بالرصاص...إلخ ولكن يقتل لا..لا..لا لا لا لا.

 

القاضي: بصفتك كنت ذراعه الأيمن، هل سمعته يعطي أوامر إجرامية لأفراد العصابة؟

 

الشاهد: بالطبع لا.. نظرة عينه كانت تكفي.

 

القاضي: حدد إجابتك.

 

الشاهد: أقصد أنه لم يأمر إطلاقا أحدًا من الأخوة والأخوات من القتلة والسفاكين والقناصين والمجرمين والهجامة والجمالة وقادة الخيول والجحوش والوحوش والجيوش وحوش يا رب حوش.

 

القاضي: وكيف قام هؤلاء بعمليات القتل والنهب والسرقة وترويع الأهالي إذا كان زعيم العصابة لم يعطهم الأوامر بذلك؟ هل أنت الذي أمرتهم بتنفيذ هذه العمليات؟

 

الشاهد: ما عرفشي يا فندم.

 

القاضي: إذًا من يعرف من أفراد عصابتكم الموقرة هذا السر الغامض؟! إذا كنت أنت ذراع الزعيم ومكمن أسراره لا تعرف... لا بد أن تتكلم وإلا ستوجه لك تهمة الشهادة الزور.

 

الشاهد: زووووووووووووور! نعوذ بالله من الزور، وقول الزور، وأهل الزور يا فندم.. لقد تذكرت الآن.. الزعيم وجميع رجاله لم يعطوا أفراد العصابة أية أوامر بالقتل، ولكن الأفراد يعملون بالزمبلك أتوماتيكيًّا دون حاجة إلى أوامر من أحد؛ ومن هنا جاءت المشكلة التي لم يستوعبها الأهالي!