شخصيات المقامة:

 

الدكتور عبد الله المشوخي- دكتور ناصر- دكتور جابر- أبو مازن (دكتور محمد الملا): أساتذة في قسم الدراسات الإسلامية واللغة العربية في جامعة الملك فهد بالظهران (والأخير هو عميد القسم).

 

محروم بن مفروم: راوية المقامة، وهو شخصية خيالية.

 

زمن المقامة: قبيل حفل التخرج الذي تقيمه جامعة الملك فهد بالظهران، ويكون فيه عشاء فاخر، وأهم ما فيه الخراف المشوية.

.....................

حكى محروم بن مفروم، قال: لما اشتدت بيَ الهموم، ومن كثرة الأعمال غلبني الإرهاق، وفاضت بيَ الأشواق، قلت لنفسي: فلأُذْهبْ لوعة الشوق والأحزان، بزيارة الأحباب والإخوان، في جامعة الملك فهد بالظهران، فهناك أخي وحبيبي الدكتور حامد القنيبي، وهناك الأخوان أبو حسان وعدنان، وهناك الرجل الطيب ناصر، والمقلبنجي خفيف الظل جابر. وهناك زينة الشباب والشيوخِ، الدكتور عبد الله المشوخي. وغير هؤلاء كثير، وقلبي لحرماني منهم كسير.

 

وقلت أبدأ بقسم الدراسات الإسلامية، واللغة العربية، حيث مركز رياسة الملا أبي مازن، ذي الوجه الباسم، والخلق الطيب الفاتن، فهبَّ واقفًا وأخذني بالأحضان، وهتف: والله يا محروم من زمان زمان، وأنا لرؤيتك مشتاق، اجلس يا محرومْ. أنعم الله عليك بأمتع النعم وألذ اللحوم.

 

ولكن سرعان ما رأيت على وجهه من الحزن سحابة، جللتها ظلمات الكآبة، وقلت: ما هذا يا أبا مازن؟ لماذا تخلى عنك ابتسامك الساحر الفاتن؟

 

فقال في صوت خاشع، ونبر يثير القلوب والمدامع، إنما حزني لزينة الشباب والشيوخِ، الدكتور عبد الله المشوخي، فهو طريح الفراش عيانْ، في مستشفى الدكتور مكسوريان، سبحان من في كل يوم هو في شان، فهو وحده المعبود المستعان.

 

فقلت: أَذهبُ وأعوده، لعل زيارتي له تفيده، وفي الحجرة التي دلوني عليها في مستشفى مكسوريان، رأيت مخلوقًا ملفوفًا في الجبس والشاش والأقطان، لا يظهر منه إلا العينان والشفتان، وطرف اللسان. فصحت أين الدكتور المشوخي يا أصحاب العيادة؟ فقد جئت لزيارته والعيادة، وعيادة المريض تقرُّبٌ إلى الله وعبادة.

 

فسمعت صوتًا خافتًا من المخلوق الملفوف، يشبه في خفوته الحفيف الخفيف، يقول: أنا المشوخي يا محروم، وقاك الله شر الهموم. وشكواي إلى الله من المقلبنجي جابر، المكنى بأبي ياسر، فهو كما قال الشاعر:

 

ويحوكُ فـي جُنح الظلام مقالبًا **** ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ

آه.. آه.. إنه سبب نكبتي، وسر مصيبتي.

 

قال محروم بن مفروم: فقلت له لا تجهد نفسك في الكلام.. وهي شدة تزول إن شاء الله بسلام.

 

فقال: بل في الكلام تنفيس، عن همي الحبيس، وإليك حكايتي من البداية، فاستمعها للنهاية.

 

وشرع المشوخي يحكي لي حكايتَهْ، ويروي روايته، وأنا أستمع إليه بقلب دامع مخلوع، وعقل مصدوع.. فقال: لما عزمت اللجنة الاجتماعية، على إقامة الوليمة الثانوية. قصدت أبا مازن رئيس القسم، طهره الله من كل ذنب وإثم، وكان يجلس إليه في الحجرة الدكتوران ناصر وجابر، والله خير معين وناصر. فقلت: سنشتري خروفًا يا أبا مازن. فقال على الفور: عليك إذن بمضارب بني قارن.

 

فسألته: هل سعر الخرفان عندهم رخيص؟، فإني على رخص السعر جد حريص.

 

فاعتدل أبو مازن بزهْو ومالْ، وبعد لحظات من السكوت قال: "اسمع يا أبا حسان، إن الله هو المستعان، بذكائك وبراعتك تستطيع أن تحصل على الخروف بالمجان. فبنو قارن معروف عنهم أن نومهم ثقيل، فالواحد منهم بعد المغرب يسقط نائمًا كأنه فيل، فتسللْ إلى مضاربهم بعد العشاء، وامش في خفة وخفاء، واحمل خروفًا وفي صمت تعود، وكما قال حكيم بن مسعود: "السعي خير من القعود".

 

وصاح بإعجاب جابر، وأيده في الخطة شيخنا ناصر.

 

فسألت أبا مازن: إذا كان القوم نومهم ثقيل، فهل خرافهم أيضًا تنام النوم العميق الثقيل؟
فهب جابر واقفًا وقال: لا تخفْ سأحضر لك زجاجة من سائل مخدرْ، نقطة منه في الأنف تخدر. فتجعل الخروف في غيبوبة لساعاتْ. وتعود مكللاً بالانتصاراتْ.

 

وأيده أبو مازن، وقال: سيكون معك في المهمة الجليلة الدكتور ناصر، يساعدك في الحمل ويناصر.

 

آه.. ارحمني يا رباه.. يا واسع الرحمة والجاه.

 

قال محروم بن مفروم: "ورأيت الدموع في عينيه، والارتعاش في شفتيه. فقلت: استرح يا أبا حسان. ولكنه واصل كلامه الذي يقطر بالأحزان.

 

قال المشوخي: ووضعت زجاجة المخدر في جيبي، وأنا أستغفر ربي. وفي ليلة غاب قمرها، وأظلم ليلها. صحبت شيخنا الدكتور ناصر ليقف خارج مضارب القوم، وأتسلل أنا لإحضار الخروف لأسلمه له ولا لومْ. وتسللت في خفة الغزالْ، ولم يحس بي الرجال. وتخطيت الرعيان إلى مرابض الخرفان، وحملت خروفًا ثقيلاً جدًّا وخطوت به خطوات، وأنا أتمتم ببعض الآيات، ومشيت الهوينَى من ثقل الخروف؛ ليحمله عني الشيخ ناصر في هذا الليل المخوف، ولكن الخروف بدأ يتمرد بين يدي، فقلت أستعين بكتفي، ثم تذكرت زجاجة المخدر الجابرية، فصببت منها في أنف الخروف شوية. فأفلت الخروف وانتفض واقفًا كالعملاق، كأنه في بشاعته المتقاتلون في العراق، فالسائل الذي أعطانيه المقبلنجي جابر، لم يكن بنجًا ولكن خلاصة روح النشادر. ورأيت الخروف أو ما ظنته خروفًا يصيح، بأعلى صوته القبيح: أدركوني يا بني قارن، فأنا الراعي مهياص بن شادن. حملني هذا الحرامي، وأنا نائم.. وها هو أمامي بشحمه ولحمه قائم.

 

آه.. فهب من بني قارن الرجال، وصرخ النساء والأطفال.. والكل يضربني بالعصي والحجارة والحبال، والبواني عال العال. وأحيانًا بالروسياتْ، وأحيانًا بالشومات.. وأنا أرى بعيني الدنيا تظلم وتضيء، ولا من مغيث يطل ويجيء.. فناديت: "إليَّ إليَّ يا ناصر، فإني أسحق تحت المكاسر، وتعصرني المعاصر، ويتبادنلي الجبابر" ، ولكنه كان فص ملح وذابْ.. عفا الله عنه في الحضورِ وفي الغيابْ.

 

واتجهت الجموع إليّ، وتكاثروا عليّ.. ورأيت زعيمهم يقترب مني، ويزيح الرجال عني.. فقلت إن زعيم الرجالْ.. لا بد أنه أشفق عليَّ وإليَّ مال. ولكن فجأة في لحظة شقيةْ.. رأيت ابن الجنيةْ، هفَّني بيمناه الخرساء بُنيَّةْ. وأردفها بروسية.. آه... روسية من إياهم، وكأنني قتلت أمهم وأباهم، روسية تذهل العقلْ، وتصرع أقوى فحلْ. فشعرت كأن البراكين تثور، وكأن الدنيا تلف وتدور، وكأنني غير موجود في هذا الوجود.

 

ولم أدر إلا وأنا هنا في الجبس والأقطان، في مستشفى الدكتور مكسوريان. وقالوا حدثت لك غيبوبة، تُـنْسي الإنسان محاسنَـه وعيوبَهْ.

 

قال محروم بن مفروم: واشتد من المشوخي النشيج والبكاء، فقلت له: ارحم نفسك بحق السماء. هي علقة فاتتْ ولا أقول تفوتْ، وسبحان الحي الذي لا يموت.

 

فقال المشوخي بصوت مخنوقْ، ونبر محروقْ:

 

أأضرب بالعصي وبالبواني

 = ويتركني ويجري الشيخ ناصرْ

 

تعاهدنا بأن نمشي سويًّا

 = جميعًا في المكاسب والمخاسرْ

 

وأن نمضي إلى الكبش المفَدَّى

 = ونحمل للجميع شذا البشائر

 

ونطعم منه إخوتنا جميعًا

 = ونسلم من لسانِ أخيَّ جابر

 

فلما ناصرٌ شم البواني

 = على وجهي ومالي من جرائر

 

تولى هاربًا في عنفوان

 = وما ألوى ولم يمنعه ساتر

 

وخلاَّني الصديق بشرِّ حال

 = وحوْلي ألفُ عملاق يحاصر

 

ولعلعت العصيُّ على دماغي

 = وسال الدمَّ من رأسي غدائر

 

فطورًا تشهد اللكماتِ عيني

 = وطورًا يعتليها النورُ باهر

 

فأنفى صار في أذني. وعيني

 = من اللكمات في حجم الجآزر

 

فمن وجعي صرختُ : أيا صديقي

 = أغثني فاسمك الرسمي ناصر

 

فصاح: اصبر فإن الصبر ينجي

 = وطوبى في الحياة لكل صابر

 

ويا بشرى لمن يصبر ويصبر

 = ولو عصرته بالضرب المعاصر

 

وجاء لهم من الأمداد جيش

 = من البدو المُعلَّى والحواضر

 

فذي بكر وذي فهر وهذي

 = هوازن إثر عبس إثر عامر

 

أمن أجل المشوخي- ويح- نفسي

 = تجمعت القبائل والعشائر؟

 

جميل أن أوحدهم كيانًا

 = فهذي الوحدة الكبرى لناظر

 

أَذُو قار ستبعث من جديد

 = فمرحى كابرًا في إثر كابر

 

وهل صار المشوخي " تل بيبِ"

 = أم ارتكب المشوخيُّ الكبائر؟

 

ولو نفخوا علي لمزقوني

 = وأصبح مسكني عمق المقابر

 

فصاح كبيرهم رحمِي بن عقلي

 = "كفاكم ما ضربتم يا عساكر

 

فلي شرف الختام مع المشوخي

 = فإني في الختام لَخَيرُ قادر"

 

وأنهضني فقلت: فذا رحيمٌ

 = سيدفع ما تبقى من مخاطر

 

فهَفَّ دماغيَ الدامي روسيهْ

 = فأحسست الوجود يلف دائر

 

ولم أدر الغداة سوى بأني

 = نزيل ها هنا والجبس داثر

 

إلى ربي القدير أظل أشكو

 = مكائدَ جابرٍ وفرار ناصر

 

*** 

   قال محروم بن مفروم: وبعدها راح المشوخي في غيبوبة عميقة، ونومة غريقة، فقلت للدكتور مكسوريان، وقد غلبتني الأحزان: إذا أفاق فاستكتبوه تفاصيلَ وصيتِهْ، فهذا أحسن لآلِه وأولادِه وصبيتِه. وأعتقد أنه لن يطلع عليه الصباحْ، إلا ومفرِّق الجماعات واللذات لاح.

 

سبحان الحي الذي لا يموت، خالق الخلق ومالك الملكوت.

-------------

* [email protected]