في 1 من مايو 1947م [رجب 1366هـ]، بعث الإمام حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين، بخطاب إلى الملك فاروق الأول، ملك مصر والسودان، وإلى رئيس وزرائه، مصطفى النحاس (باشا)، وإلى ملوك وأمراء وحكام بلدان العالم الإسلامي المختلفة؛ كما بعث به كذلك إلى عددٍ من كبار المسئولين والبارزين في هذه البلدان من ذوي الصفات الدينية والدنيوية.. وقد وضع هذا الخطاب ضمن مجموعة رسائله- رحمه الله- فيما بعد تحت عنوان: "نحو النور".

 

أكد البنا في بداية الخطاب أنه فعل هذا أداءً للواجب وقيامًا بالنصيحة، وتذكيرًا لمَن استرعاهم الله مصالح الأمة: "وبعد، فإنما حملنا على التقدم بهذه الرسالة إلى مقامكم الرفيع رغبة أكيدة في توجيه الأمة التي استرعاكم الله أمرها، ووكل إليكم شأنها في عهدها الجديد، توجيها صالحًا يقيمها على أفضل المسالك ويرسم لها خير المناهج ويقيها التزلزل والاضطراب ويجنبها التجارب المؤلمة الطويلة، ولسنا نبغي من وراء ذلك شيئًا إلا أن نكون قد أدينا الواجب وتقدمنا بالنصيحة، وثواب الله خير وأبقى".

 

وتطرق المرشد العام في خطابه إلى تبعة الراعي، باعتباره مسئولاً أمام الله تبارك وتعالى عن إقامة العدل ومتابعة شئون الأمة في حاضرها ومستقبلها.

 

ونصح من أرسل إليهم خطابه باتباع طريق الإسلام وقواعده وأصوله؛ لأنه "الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك وأن توجه إليه الأمة الحاضرة والمستقبلة".

 

وعدّد مزايا التوجه الإسلامي وفوائده، منها أنه "قد جرب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته، وأخرج للناس أمة من أقوى الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها على الإنسانية جميعًا؛ وله من قدسيته واستقراره في نفوس الناس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه، فضلاً عن الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة.. إذ إننا نبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا، ولا نأخذ عن غيرنا.. وفي ذلك أفضل معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي.

 

وفي السير على هذا المنهاج تقوية للوحدة العربية أولاً ثم للوحدة الإسلامية ثانيا، فيمدنا العالم الإسلامي كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده، ويرى فينا إخوة ينجدهم وينجدونه ويمدهم ويمدونه، وفى ذلك ربح أدبى كبير لا يزهد فيه عاقل".

 

وتحدث عن المدنية الغربية وما تشهده من إفلاس ومشكلات اقتصادية وأزمات مادية طاحنة. وأكد أن الإسلام كفيل بإمداد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر، وكفيل بإمدادها بالأمل، والعزة القومية، والقوة وروح الجندية، وصحة الأبدان والأجسام، والعلم الذى يؤازر كل ما سبق من القوى ويعضدها، فوق ما يقدمه للأمة الناهضة من مخترعات ومكتشفات. كما أكد أن الإسلام كفيل بمد الأمة بالخلق، وهو أحوج ما تكون إليه؛ إذ لا تنال الأمم مطالب العصر إلا بالخلق الفاضل القوى المتين والنفس الكبيرة العالية الطموح

 

وإذا كان ظن بعض الحكام أن التمسك بالإسلام وجعله أساسًا لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة.. فقد فنَّد البنا هذه الظنون، وأثبت أن "الإسلام الذي بُني على المزاج المعتدل والإنصاف البالغ، لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس؛ إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط".

 

وبدد في خطابه كذلك خوف بعض هؤلاء الحكام من أن الإسلام يعكر صفو العلائق بيننا وبين الغرب، مؤكدًا أن الإسلام يحافظ على التعهدات وأداء الالتزامات، وأن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها.

 

وأكد الإمام البنا في خطابه أن أصول النهضة في الشرق غير أصولها في الغرب، إذ لا يصح عندنا فصل الدين عن الدولة كما هو الحال في الغرب، فللغرب ظروفه التي دفعت إلى هذا الإجراء و"طبيعة التعاليم الإسلامية غير طبيعة أي دين آخر، وسلطة رجال الدين المسلمين محصورة محدودة.. فما كان هناك لا يصح أن يكون هنا".

 

وبطريق مباشر نصح هؤلاء الحكام والمسئولين بما يجب عمله، آمرًا إياهم بالمعروف، ناهيهم عن المنكر، بأسلوب رشيق رفيق فيه لين وتواضع، قال:

 

"يا صاحب.. بعد كل ما تقدم لا عذر لنا إن جانبنا طريق الحق: طريق الإسلام، واتبعنا طريق الشهوات والزخارف: طريق أوربا. وفي طريق أوربا زينة وبهرج، وفيه لذائذ وترف، وفيه تحلل وإباحية، وفيه ما تهوى الأنفس من متعة، وكل ذلك إلى النفس حبيب وقد قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [آل عمران: 14].

 

ولكن طريق الإسلام عزة ومنعة، وحق وقوة، وبركة واستقامة، وثبات وفضيلة ونبل، فاسلكوها بالأمة وفقكم الله: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 15) [آل عمران].

 

وإنما أهلك الأمم الترف، وإنما زلزلت أوربا المتع والمطامع: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].

 

وإن الله تبارك وتعالى قد أرسل رسوله رحمة للعالمين إلى يوم القيامة، وبعث معه كتابه الحق نورًا وهدى إلى يوم القيامة، وإن زعامة الرسول صلى الله عليه وسلم باقية بسنته، وإن سلطان القرآن قوى بحجته، وإن الإنسانية صائرة إليهما لا محالة بعز عزيز أو بذُلِّ ذليل من قريب أو من بعيد حتى يتحقق قول الله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28].

 

فكونوا أول من يتقدم باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقارورة الدواء من طب القرآن لاستنقاذ العالم المعذب المريض.

 

إنها خطوة جريئة ولكنها موفقة إن شاء الله تعالى والله غالب على أمره:  (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 5 ) [الروم].

 

وبعدما ذكّر البنا الحكام بحتمية الأخذ بالحل الإسلامى تطرق إلى الوسائل العلمية للإصلاح، لخصها في خمسين توصية شملت النواحي: السياسية، القضائية، الإدارية، الاجتماعية، العلمية، الاقتصادية.

 

ونستنبط من هذه الرسالة ما يلي:

- أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر صفة الدعاة إلى الله، وهم أولى الناس بالنصح، للحاكم والمحكوم، وقد لزم الإخوان هذه الصفة مند تأسيسهم عام 1928م وإلى اليوم، وإن كان هذا السلوك الإسلامى الرشيد، قد جلب عليهم الكثير من الأذى والضر.

 

- أن ما كتبه الإمام البنا في هذه الرسالة -الخطاب- يعد بحق وثيقة أدبية وفكرية تضاف إلى رصيد هذا الرجل العالم والداعية الفذ، فمن يقرأ الرسالة لا يستشعر أبدًا أنها كتبت منذ خمسة وستين عامًا، من حيث أسلوبها الرشيق وفقهها الواعى، وما جاء بها من نظرات وتوجيهات لازلنا -نحن- نناقشها اليوم.

 

- أن البلاءات التى ابتلينا بها -ولازلنا- على أيدى الحكام كانت بسبب انحرافهم عن منهج الإسلام في الحكم والشورى، واقتناعهم بأساليب الحضارة الغربية التى تتعارض بالكلية مع أساليب وقيم حضارتنا.

 

- أن المسلم هو أشد الناس وطنية وغيرة على وطنه وبنيه، ما يجعله يسعى للنهوض ببلده، مصلحًا شأنها - قدر استطاعته.

رحم الله الإمام الشهيد.. ووفقنا لما يحب ويرضى.