في مثل هذه الأيام من عام 1951م "19 من أكتوبر"، تم الإعلان- رسميًّا- عن انتخاب الأستاذ حسن الهضيبي مرشدًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين، استقال رحمه الله على إثر ذلك من القضاء الذي التحق بسلكه عام 1924م، وقد تدرج في مناصبه حتى صار مديرًا لإدارة النيابات، فرئيسًا للتفتيش القضائي، فمستشارًا بمحكمة النقض، وكان قد تخرج في مدرسة (كلية الحقوق) عام 1915م، عمل بعدها محاميًا قبل أن يعمل في القضاء.

 

وإذا كانت جموع الإخوان وقتها- إلا قلة قليلة من القريبين للإمام البنا- لم تكن تعرف الإمام الهضيبي ولم تسمع عنه من قبل، إلا أن الواقع يؤكد أنه لم يكن غريبًا عن الدعوة، بل كان واحدًا من أبنائها المجيدين، المتميزين فكريًّا وعقليًّا، غير أنه لطبيعة عمله في القضاء ظل بعيدًا عن التنظيم حتى تولى منصب الإرشاد، وإن كانت ثمة علاقة وطيدة وثقة كبيرة تربطه بالمرشد المؤسس الإمام حسن البنا، وكانت هذه العلاقة القديمة التي بدأت عام 1942م  تقريبًا، لا يعرفها سوى اللصيقين بالرجلين، كابنه الأستاذ إسماعيل الهضيبي الذي أكد أن والده كان يلتقي الإمام الشهيد دائمًا في خطب الجمعة، وأن الأخير كان دائم التردد على منزلهم، خصوصًا بعد قرار حل الجماعة في 8 من ديسمبر 1948م، وأنه حضر قبل استشهاده بأيام قليلة وقال له: إنهم سيقتلونني!!

 

كما أكد الأستاذ جمال فوزي- الحارس الشخصي للإمام الهضيبي فيما بعد- أن الإمام البنا أرسله أكثر من مرة برسائل سلمها للأستاذ الهضيبي، والتقى الاثنان (البنا والهضيبي) ذات مرة بمنزل فوزي لمدة تزيد على الساعة.

 

وروى الأستاذ حمزة الجميعي أن الإمام الشهيد حسن البنا كان يلتقي الإمام الهضيبي ويقضي معه أيامًا عديدة في قريته "عرب الصوالحة" في شبه "أسرة" إخوانية يتدارسان فيها الإسلام وقضايا المسلمين، ومشكلات الدعوة الإسلامية، ويتناقشان معًا حول قضايا الساعة.

 

وكان الإمام البنا يطلع الإمام الهضيبي على مختلف الأنشطة داخل الجماعة، والجهود التي يبذلها في الأقاليم، والمشكلات التي تواجهه، وهناك ما يدل على أن الإمام الشهيد حسن البنا قد أفضى للإمام الهضيبي برأيه في كثير من الشخصيات الإخوانية داخل الجماعة، وكأن الرجل- الإمام البنا- كان يعد الأستاذ الهضيبي ليكون خليفته إذا ما قدّر الله ذلك.

 

وفي الشهور العصيبة التي عاشها البنا بعد الحوادث الفردية التي قام بها أفراد من النظام الخاص على غير ما أراد الإمام الشهيد كحادث الخازندار وحادث النقراشي، والمواجهة الشرسة التي قامت بها حكومة السعديين، واعتقال جميع الإخوان الذين يحيطون بالإمام الشهيد وتركه وحيدًا محرومًا من أقرب الناس إليه تهيئة لمسرح جريمة اغتياله- كان الشخص الوحيد الذي يلتقيه ليستشيره ويستنصحه هو الإمام حسن الهضيبي، وكان كثيرًا ما يتم لقاء الرجلين في جمعية الشبان المسلمين تحت سمع وبصر رجال الشرطة وجواسيسها. أما عن أول لقاء جمع الإمامين، فيتحدث عنه الهضيبي قائلاً:

 

"وازددت اقترابًا من الإخوان، بدأت أتصل بهم وأعرف بعضهم، إلى أن جاءت ليلة، كنت في مكتبي أراجع بعض القضايا، ودق الجرس ولم يكن من عادتي أن أفتح الباب، ولكن لا أدري لماذا قمت، ولماذا ذهبت، ولماذا فتحت الباب؟.. لأجد حسن البنا.. وتعانقنا.. ودخل إلى بيتي.. وجلسنا نتحدث في شتى الشئون وصلينا العشاء معًا.. وخرج المرشد.. وبدأت أضع عقلي بعد قلبي في خدمة الإخوان".

 

أما عن آخر لقاء له مع الإمام الشهيد فيقول: "كانت الساعة الحادية عشرة مساءً ودق الجرس، وفتحت الباب، ودخل حسن البنا يحمل إلى آخر أنباء مفاوضاته مع الحكومة، ولا أعلم لماذا كنت منقبضًا.. لماذا كنت ضيق الصدر.. لماذا تجمعت فوق طرف لساني كلمة (القتل).

 

كنت أحس أن هذا الرجل سيُقتل.. ستغتاله يد آثمة.. فإن الحكومة- أي حكومة- لا يمكن أن تعجز عن قتل رجل أعزل إلا من الإيمان.

 

وأراد أن ينصرف.. وصافحته.. وإذا بي أعانقه وأقبّله.. ولا أكاد أمسك دموعي أو أخفيها.. وابتسم رحمه الله، وقال: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا" (التوبة:51).

 

وابتلعه الظلام.. وفي اليوم التالي ابتلعه الظلم.. فقد اغتالت الحكومة المصرية في 12 من فبراير 1949م مواطنًا اسمه حسن البنا.. وتعهدت هذه الحكومة لا بإخفاء معالم الجريمة فحسب ولكن بمكافأة القاتل".

 

رفض ثم قبول

لقد رفض الهضيبي قيادة الإخوان في البداية؛ لجسامة المسئولية وخطورة المنصب؛ ولأن الجماعة كانت بحاجة إلى قيادة فتية تنظم صفها وتقوى جبهتها الداخلية التي دبت فيها الخلافات وبدت عليها الترهلات، خصوصًا بعد الأحداث الجسام المتوالية، وبعد استشهاد المؤسس الأول الذي كان لديه الإمكانات الخارقة والملكات العبقرية في تجميع شتات من حوله وإن اختلفوا في المشارب والأهواء.

 

وشاء الله أن تلتقي مجموعة من الإخوان من مختلف المحافظات بمدينة الإسكندرية وكان الوقت صيفًا، وكان الأستاذ الهضيبي يقيم في منزل بالمندرة، وكان عدد هؤلاء الإخوان غير قليل، فقد كانوا نحو العشرين من بينهم الأستاذ عبد العزيز عطية والشهيد عبد القادر عودة والأستاذ محمود عبد الحليم والشهيد يوسف طلعت والدكتور عبد العزيز كامل، وقد ذهبوا جميعًا إلى الأستاذ الهضيبي واستقبلهم هو وأبناؤه بالترحاب، ثم أخذوا في الحديث معه، فتكلم الأستاذ عبد العزيز عطية والشهيد عبد القادر عودة وشرحا الظروف المحيطة بالدعوة وشدة حاجتها إلى قيادة، وتحدث كثير من الحاضرين من مختلف المحافظات معبرين عن رغبة إخوانهم في قيادته.

 

ثم تكلم الأستاذ الهضيبي فشرح حجّته وأنه لا يستطيع أن يتسلم قيادة دعوة أقرب معاونيه فيها متفرقي القلوب والأهواء، ثم إنه مريض ولا يستطيع تحمل مسئولية دعوة كهذه وهو في الحالة التي عليها.

 

يقول الأستاذ محمود عبد الحليم الذي حضر تلك الجلسة: "وكانت بعد ذلك هدأة هي هدأة الخيبة واليأس التي أحس الجميع بمرارتها في حلوقهم، وإذا بنا نسمع ونحن في هذا الحال صوت أخ لنا ينطلق صارخًا باكيًا هو الأخ الكريم يوسف طلعت يقول للأستاذ الهضيبي: إننا نعلم ما تعانيه، ولكن الدعوة أعز علينا وعليك من أن نتركها بلا قيادة، وقد اتفقنا على أن تكون قائدها، وإذا كنا قد بايعنا على افتدائها فلتفتديها أنت كذلك، والله قادر على شفائك إذا استجبت أنت لدعوته، ولن نخرج من هذا المكان إلا بنزولك على رأي الإخوان الممثل فينا.

 

وقد كان لكلمات الأخ يوسف طلعت ولدمعه المنهمر فعل السحر في قلب الأستاذ الهضيبي وقلوب الحاضرين؛ حيث انهمرت دموعهم ووجدوا أنفسهم قد انتقلوا في جو روحي غامر لم يملك معه الأستاذ الهضيبي إلا أن يبتسم والدموع تترقرق في عينيه ويقول: "لقد نزلت على رأيكم وأسأل الله أن يعينني".

 

وقمنا جميعًا يعانق كل منا أخاه، وكانت جلسة قصيرة عابرة ولكنها كانت جلسة تاريخية فاصلة لها ما بعدها".

 

وقد قبل الهضيبي المسئولية مضطرًا؛ لرغبته في الحفاظ على تلك الجماعة الرشيدة التي يعتز بها، والتي رمتها قوى الظلم والبغي عن قوس واحدة.. وفي هذا يقول الأستاذ عمر التلمساني- المرشد الثالث-: "ولا أكتم الناس حقيقة قد لا يعرفونها، وهي أن فضيلة الأستاذ الهضيبي لم يقبل أن يكون مرشدًا للإخوان المسلمين إلا بعد رجاء منهم وإلحاح؛ نظرًا لحالته الصحية، ولضخامة المسئولية التي ألقيت على عاتقه، ولكنه إزاء حرصه على وحدة الصف الإخواني ضحى بصحته في سبيل هذه الغاية النبيلة، وهو على علم كامل بعاقبة هذا القبول".