أولاً: عن أول لقاء معه

 

مشاهد كثيرة ومؤثرة تلك التي جمعتني مع أستاذي الدكتور جابر قميحة، ولا أدري عندما تلقيت خبر وفاته- صباح يوم الجمعة التاسع من نوفمبر عام 2012 م- بأية هذه المشاهد أبدأ وكلها في أعماق الروح والفؤاد، ولكنني سأبدأ بأول لقاء جمعني مع أستاذ الجيل، في القاعة الرئيسة بنقابة المهندسين بالقاهرة في عام 1993 م، وقد أخذ بعقلي وقلبي وهو يلقي علينا قصيدة عن فلسطين؛ حيث كنا في اجتماع للجنة مناصرة فلسطين التابعة آنذاك لنقابة المهندسين، وكنت أمثل فيها الإسكندرية، فوجدني مجذوبًا للسلام عليه واحتضانه، والتقى صدري بصدره، ومن يومها يجمعنا حب عميق، وارتباط وثيق، كلما التقينا يقول للحاضرين: (الماضي ده سيبك منه)، وكلما أقبلت علي رأسه مقبلاً رأسه، دعا لي بدعوته الشهيرة: (حياك الله وبياك، وجعلك من كبار الملاك، ونحن دائمًا وياك، وحنمشي وياك، وهات القرش اللي معاك)، بهذه الهشاشة كان يبدأ لحظته معك، بهذه البساطة كان يجذبك إليه، حتى تجلس إليه وكأنك مع نفسك، وهو الذي في رأسه حكمة العلماء، وفي صدره خشية المتقين، وفي عقله مشروع لنهضة الأمة، وفي تاريخه تجربة طويلة؛ حيث طاف بلدان العالم معلمًا ومحاضرًا ورائدًا وأستاذًا، في الكويت والسعودية وإسلام آباد والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترك الثمار اليانعة في ربوع أمتنا الإسلامية، من تلامذة نجباء ساروا على الدرب، في مشارق الأرض ومغاربها، ومن قراء نهلوا من أبحاثه وكتاباته وكتبه في شتي المجالات: في الأدب والشعر والتراجم وقضايا الأمة والدعوة والتربية والسيرة والإعلام والسياسة، فكان بحق أستاذ الجيل ومفكر الدعوة.

 

ثانيًا: عن فلسطين التي في دمه

 

من قصائده المؤثرة تلك التي كتبها عن فلسطين، ومن كتبه الرائعة تلك التي كتبها عن فلسطين، وكأن فلسطين تجري فيه مجرى الدم، ولا أنسى يوم أن دعوناه بالإسكندرية، في مهرجان عن القدس فلبى الدعوة رغم مرضه وصعوبة انتقاله من القاهرة، وكنت أقدم هذا المهرجان، وكنت مشفقًا عليه وهو يجلس على المنصة من الإلقاء ومشقته، ولكن بمجرد الانتهاء من تقديمه، إذا بروح فتية تلقي سحرًا، في جسد شاب جلد قوي، بصوته الجهوري ووقفاته البلاغية وجمال إلقائه الذي ينفذ إليك فتبحر في عالم آخر، وعندما تكون القصيدة عن فلسطين التي في دمه، فكأن دماؤه تختلط بدمائك، وكيانه يمتزج بكيانك، عن قضية الأمة وواجب الشرفاء نحو تحريرها من الصهاينة، فلم يقل يومًا إسرائيل بل كان يلقن الحاضرين بأن يقولوا الصهاينة.

 

ثالثًا: عن أسرار حديثه في منزله

 

في يوم مشرق من أيام القاهرة وفي منزله المنسق كقصائده والمرتب كبلاغته، يرحب بك محتفيًا بقدومك، حتى تسبح في بحر كرمه، في نشوة عارمة وسعادة لا توصف، التقينا، لإعداد حديث معه، يحدثنا بنفسه، ونسمع منه، وأعيننا في غاية متعتها وهي تتقلب بين الكتب، في مكتبته الخاصة التي تضارع مكتبات الجامعات العريقة، لقد أسرعت إليه لمساعدته في الجلوس على المقعد، وما كنت أدري أنه هو الذي يساعدني بحركاته المبهجة وكلماته التي تفتتح اللقاء بإدخال السرور عليك دون استئذان، وكنت بعد التسجيل وبين الفينة والفينة أتمتع بمقدمة حديثه، فإنني أقدمها بين يديك للتأمل وهي تحتاج إلى شروح، ولكنها تغرس في النفس معانِ لا تزول، قال في مقدمة حديثه:
(أحمد الله سبحانه وتعالى، الذي تستدفع به المحن، وتستجلب به النعمة والمنة، والقريب من عابديه، الداني من سائليه، الواعد بالجنة من يطيعه، والموعد بالنار من يعصيه، وأصلي وأسلم، على حبيبنا وزعيمنا وقدوتنا، ونور أبصارنا وبصائرنا، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك).

 

رابعًا: مواقف من طفولته استمرت معه في شبابه

 

ولد عام 1934 م بالمنزلة، لأبوين لا يعرفان الكتابة والقراءة، وأبوه هو: المتولي محمد على محمد قميحة، وكان يلقب ابنه جابر بآخر العنقود؛ حيث كان محبوبًا من الأسرة، وكما يقول هو: (كنت دلوعة الأسرة)، حفظ في كتّاب القرية القرآن الكريم، ثم التحق من سن الخامسة بالمدرسة الإلزامية، ثم الابتدائية، ثم الثانوية، وكان ترتيبه الأول في كل مراحل التعليم، خاصة اللغة العربية، ومن مواقف الطفولة والشباب:

 

- كان شغوفاً بالقراءة منذ نعومة أظفاره، وعن شغفه بالقراءة وهو طفل صغير، روى لي قائلاً: (رزقني الله حب القراءة فأنا مريض بالقراءة، كان أبي يخاف عليّ، وينزع الكتاب مني ويقول: (كفاية عينك حضييع كده)، ومع ذلك كان يفرح حينما أقرأ له، وأنا مازلت صغيرًا)، وعندما أصبح شاباً تكونت لديه مكتبة عامرة، يقول: (كانت أمي تسألني: هل قرأت هذه الكتب؟ فأقول: نعم، ثم تسألني: هل فهمت هذه الكتب؟ فأقول: نعم، فتقول: ما دمت قد فهمتها فلماذا لا تبيعها إلى محل البقالة تستفيد من ثمنها؟ ما دمت فهمتها فلماذا تحتفظ بها؟ ومازلت عاجزًا عن إجابة سؤال أمي هذا؟، وكنت أقول لزوجتي: (كلما أقتني كتابًا جديدًا، كأنني تزوجت حورية!! وأدعو الله أن يجعلني إن كنت من أهل الجنة في مكتبة بين الكتب!).

 

- عندما بلغ عشر سنوات، حكى لي وكأنه عاد إلى طفولته ببهجتها وعفويتها، وحديثه يظهر على أسارير وجهه في براءة، وكلماته التي تغير فيها صوته، ومالت الحروف إلى مخارج صوت الأطفال، لن أستسهل في وصف المشهد، بل أتركك مع حديثه كما يرويه، ولك أن تتخيل ذلك، عن موقف الطفل ذي العشر سنوات يقول: (في يوم فوجئت بما بهرني، لا يقل العدد عن 500 من الجوالة ومعهم طبولهم وأبواقهم، في عرض عسكري، وفي زي موحد، ومعهم رايات فيها سيفان ومصحف، أمامهم من يمسك مصحف كبير، أصابني الذهول، وسرت أتابعهم، من متعتي أريد أن يستمروا، وفوجئت بكلمة (قف) وأنا أسمع (الله أكبر ولله الحمد) فتجعلني أكاد أطير، وأخشى من انتهاء العرض، وبخطواتي الصغيرة أجري معهم، وعدت إلى البيت حزينًا وسعيدًا، سعيد برويتهم وحزين لانتهاء العرض)، وهكذا انطبع في ذهن الطفل الصغير أول رؤية لجوالة الإخوان المسلمين، وكان يقول مبتسمًا وكأنه ينظر إلى حاله وهو صغير: (كنت أصغر جوالِ، وأقصر جوالِ، وأنحف جوالِ، في صف الإخوان).

 

- وتعود الذاكرة بأستاذنا مرة أخرى إلى زمن الطفولة، ومشاعره مع أول رؤية للإمام حسن البنا؛ حيث يقول: (اصطحبني أبي في سهرة، أمام مدرسة عبد السميع، في ميدان واسع، وفجأة لا أنسي هذه اللحظة, وجدت آلاف الحناجر تردد: (الله أكبر ولله الحمد)، (الله غايتنا والرسول زعيمنا)، ورأيته: (رجل عليه هيبة، ومعه أكبر أعيان البلد، كان الإمام حسن البنا في وجهه نور، وصعد المنصة، ولمدة 4 ساعات: شبه الإسلام بسفينة (المنزلة منطقة بحارة) وجعل الأمة هي جسم السفينة، والحكومة هي الدفة، والشراع هي قوة الإيمان)، ثم يقول: (وكان وهو يتحدث كأنه ينظر إلىّ كأنما يخصني أنا بخطابه فصرت مجذوباً إليه)، يقول عن هذا بعد تجربته وخبرته في شبابه: (من دراستي آمنت بأن الله منح من أخلص له ما أسميه (البلاغة الإيمانية) غير البيان البليغ الذي لا يؤثر في الناس، وأنا أعرف البلاغة الإيمانية، بأنها طاقة إيمان وحرارة إيمان، زاد وفاض حتى تسلل إلى قلوب الجميع، فشعر كل واحد به، فكأن إيمان الإمام البنا وزع على الحاضرين )، ومن ثم ألف كتابه: (الإمام الشهيد حسن البنا بين السهام السوداء وعطاء الرسائل).

 

- حينما استشهد الإمام البنا في عام 1949 م، كان عمر أستاذنا الجليل خمسة عشر عامًا، يقول عن وصف هذه اللحظة: (لم أحدثه ولكن دخل في أعماقي، وحينما استشهد بكيت بكاءً مرًا، ومن ارتفاع صوتي جاءني أبي فوجدت دمعتين في عينيه، وكنت أتعلل له بالسعال، فقال لي: يا ابني لا كحة ولا سعال أنت بتبكي بسبب قتل(الشيخ حسن البنا) وارتميت على صدره وزاد بكائي، وهو يربط على كتفي، قائلاً: (البلد ما لهاش حظ في الناس الكويسين)، وبعد فترة جاء جاكسون، يقول نفس كلام أبي، في كتابه حسن البنا الرجل القرآني: "كان يجب أن يموت لأن هذا الشرق ليس له حظ في القيادات الشامخة".

 

-  وبعد عامين من استشهاد الإمام البنا يظهر ولأول مرة في حياة أستاذنا الجليل، كتابة الشعر، فكانت أولي قصائده عن الإمام البنا، تحت عنوان: رأيته ... أمامه من القلوب ألف ألف تسمع، ثم يقول فيها:

 

 قل يا إمامنا حسن فكل ما تقوله حسن

 وإنك البناء في السراء والمحن

 

والقصيدة بأكملها في ديوانه: (على هؤلاء بشعري بكيت)، ومن هنا بدأ الشعر في حياة الشاعر الكبير الدكتور جابر قميحة، ولذلك كان له رأي خاص في الشعر، وكان دائمًا ما يردده: (كل شيء إرادي ما عدا الشعر، الشعر هو الذي ينظمنا ولا ننظمه، لا أكتب الشعر حتى ألهمه، فإن طلب مني أحد أن أكتب شعرًا، قلت له: أمهلني، ثم ألهم القصيدة).

 

خامسًا: عن علمه ودراساته وآرائه وفكره

 

- كان الأول على مدرسته والأربعين على مستوي القطر المصري آنذاك، مما أهله ذلك في التقدم إلى كلية دار العلوم، مدفوعًا بحبه للإمام البنا، فقد أسر لي بقوله: (كنت أريد أن أكون تلميذًا وفيًّا للإمام حسن البنا)، وحقق الله حلمه وأمنيته، فقد كانت المسابقة قاسية التي تقوم بها دار العلوم للقبول بها، فقد تقدم 600 طالب، لم يقبل منهم إلا 300 فقط؛ حيث كان ترتيبه الأول في التعبير والأدب والشعر بنسبة 96%، ومن ذكريات مواقف المسابقة، أنه كان بصريًّا بمعني يقرأ القصيدة ثلاث مرات ثم يتصور الصفحة، وكأنه كان يقرأها، وهذا إلهام من الله للمخلصين من دعاته، فقد سأله الدكتور عمر الدسوقي: أتحفظ شعرًا فقال: اختر أنت لي؟ فسأله: هل تحفظ المعلقات؟ فقال: نعم، فاختار له الأستاذ أصعب معلقة (عبيد بن الأبرص) الذي فوجئ بإلقائها كاملة، فسأله: من أنت؟ فقال الشاب جابر قميحة: أنا طالب أمام أستاذه.

 

- عندما تخرج من دار العلوم عام 1957 م، عيِّن مدرسًا ثم موجهًا للغة العربية، ثم أعير إلى الكويت، ومن جامعة الكويت حصل على رسالة الماجستير بعنوان: الفن القصصي في شعر خليل مطران، عام 1974 م، وكان يقول عن خليل مطران: مع أنه كان مسيحيًّا إلا أنه كان يردد في شعره الكثير من المعاني الإسلامية، وعندما سألناه عن سبب اختياره لخليل مطران، قال: كان السبب عبد الناصر! كيف؟ فقال: هو الوحيد من صور شخصية عبد الناصر وجريمة الأمة في السكوت عليه وعبر عن مسئولية الأمة في النهضة والصحوة؛ وذلك في قصيدته: النيرونية، يقول فيها خليل مطران:

 

 من يلم نيرونا إني لائم أمة لو قهرتـه لارتد قهـرًا

 كل قوم خالق نيرونهم قيصر قيل له أو قيل كسرى

 

ولذلك كان الدكتور جابر قميحة يلقن تلاميذه رأيه بوضوح قائلاً: (الشعب هو الذي يصنع نيرونه أو فرعونه، (فاستخف قومه فأطاعوه)، لو أن الحاكم لم تقدم له وردة، وقدمت له مقاومة عندما يتنكب الطريق، لرأينا كلمة (اتق الله) فقد قيلت للنبي صلى الله عليه وسلم وقيلت لعمر بن الخطاب، ولكن الأمر يحتاج إلى تربية الشعب تربية طيبة، فأشد الأمراض على نفسية الأمة النفاق، ومن ثم لم يكن غريبًا عليه أن تأتي مؤلفاته حول هذا المعني في هذه الكتب: في صحبة المصطفى، أدب الخلفاء الراشدين، المعارضة في الإسلام بين النظرية والتطبيق، وكان له رأي خاص في كلمة المعارضة: (لا مانع أن نستعير كلمة مستحدثة لموجود قديم، فالمسلمون لم يعرفوا مصطلح حرب الأعصاب، ما المانع من أن نستعمله اليوم لموجود قديم).

 

- وفي عام 1979 م، حصل الباحث جابر قميحة على درجة الدكتوراه في: (منهج العقاد في التراجم الأدبية)، في كلية دار العلوم التي تخرج منها، ومن ثم التحق في السلك الجامعي مدرسًا بكلية الألسن بجامعة عين شمس بالقاهرة، ومن هنا برع الدكتور فيما أطلق هو عليه: (فن التراجم)، فكانت من مؤلفاته: أولاً عن الشخصية التي أثرت على مسيرة حياته (الإمام البنا) ثم هذه الكتب في التراجم: ملحمة الكلمة والدم الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود، التراث الإنساني في شعر أمل دنقل، صوت الإسلام في شعر حافظ إبراهيم، وكان من آرائه الجامعة في التراجم: أنها تضيف عمرًا إلى العمر، بمعني حياة جديدة، من العمر المعنوي، وكان يردد قول الشاعر 

 

  ومن وعي التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره وقد حقق في حياته ذلك عبر الرحلة العلمية التي منحه الله إياها، فقد أعير لمدة خمس سنوات إلى الجامعة الإسلامية بإسلام آباد، ثم بعدها وجهته وزارة التعليم العالي بمصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمدة سنة، لتدريس الأمريكان اللغة العربية، ثم كانت المرحلة الأخيرة من أسفاره العلمية لمدة ثمان سنوات في جامعة الإمام فهد بالظهران بالسعودية؛ حيث تفرغ بعدها للدعوة والكتابة، ويقول عن ذلك: (وأنا سعيد بعملي وأدعو الله أن يمكنني من أداء رسالتي؛ حيث أشرف على عدة رسائل ماجستير ودكتوراه، وأسأل الله أن يكون ذلك في ميزان حسناتي).

 

سادسًا: عن جهوده في خدمة الدعوة

 

- في عام 1965 م تخرج من كلية الحقوق، ثم حصل في عام 1967 م، على دبلوم الشريعة الإسلامية، وكان من خير أقدار الله تعالى أن كانت الدراسات العليا في الأدب وليس في القانون، فتوالت جهوده في خدمة الأدب العربي، فكان من مؤلفاته الأدبية: التقليدية والدرامية في مقامات الحريري، كلمات في التراث العربي، آثار التبشير والاستشراق على الشباب المسلم، الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وخيانة التطرف، ولكن دراسته القانونية والشرعية، أكسبته، أن يطوع الأدب والشعر لخدمة الدعوة، فوجه كتابًا

 

لإعلاميين والدعاة: أثر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في اللغة العربية، وكان يلقن ذلك لتلامذته من الدعاة والعلماء والإعلاميين قائلاً: لا يجني على اللغة العربية إلا أهلها.

 

- كان شاهد عيانٍ على أكبر حدثين في تاريخ الدعوة، وكتب عنهما وسجلهما على الحقيقة والمشاهدة والرؤية في مجلة المجتمع الكويتية وصحيفة آفاق عربية:
الحدث الأول: مظاهرة عابدين في عام 1954 م؛ حيث يقول: (ذهبنا باكرًا إلى جامعة القاهرة، وسرنا أكثر من 36 ألف أخٍ إلى قصر عابدين، ولصوتي الجهوري كنت في الصف الأول، نردد (انتصر الشعب فجاء نجيب)، وعند الكوبري استقبلنا الجنود بضرب النار، حتى إن الذي بجواري خرجت أمعاؤه، أما أنا فقد أنقذني قدر الله من القتل، وبعد عدة مغامرات وصلنا إلى القصر، نردد مع الآلاف: "إسلامية إسلامية، لا شرقية ولا غربية"، وكانت المصاحف كالطيور، ورفعنا مناديل بدماء الجامعة، وعجز نجيب عن صرف الجماهير الحاشدة، فنادى الشهيد عبد القادر عودة من بين الصفوف، الذي وقف بجواره يقول للإخوان: (الإخوان يريدون محمد نجيب ما دام يتبع الحق، ويؤيدون مصر دستورية، (ثم أشار فقط وكأني أنظر إليه الآن) قائلاً: (الآن انصرفوا دون هتاف) وأشهد الله خمس دقائق على الأكثر، ولا يوجد أحد داخل سور عابدين، ولا بجواره، وانتهي الموقف، ورأيت بعدها وقد غمرتنا الفرحة بموقف الإخوان، الأخ حسن عبد الغفور يبكي، فسألته مندهشًا، عن بكائه في يوم فرحة فقال: لقد حكم عبد القادر عودة على نفسه بالإعدام، إن عبد الناصر من النوع الذي لا يعرف السماحة ولا يعرف إلا نفسه، وما قاله قد تحقق بالفعل).

 

والحدث الثاني: ما أسماه، مسرحية أو تمثيلية حادث المنشية، الذي كان ذريعة عبد الناصر في محنة الإخوان والدعوة، وقد كتب عدة مقالات مستدلاً في ذلك من كتابات ومصادر غير إخوانية.

 

- شارك في عدة مؤتمرات عالمية بأبحاث دعوية، منها مؤتمر الإسلام اليوم، في إسلام آباد، مع كبار دعاة الأمة، ومؤتمر الشباب بأمريكا، ورغم الجليد كان يقول للحاضرين: من أوصلك إلى هنا يا حسن البنا؟، كما شارك في عدد من اللقاءات الدعوية العالمية، وكان من فهمه العميق لجماعة الإخوان المسلمين: أنها ثلاثية بمعنى (جمعية وجماعة وتيار)، وبعد الاتساع اليوم هي تيار عالمي، ويقول: (فنحن نعيش اليوم عصر التيار الإسلامي، والتيار لا يستطيع أحد أن يتحكم فيه، لأنه أكبر من طاقات البشر، فهو في كل أنحاء العالم اليوم في المشرق والمغرب)، حتى أن أحد تلامذته من إندونيسيا كانت رسالته في الدكتوراه عن حسن البنا، وكأني في عجب وهو يتساءل: (من الذي أتي بحسن البنا إلى إندونيسيا؟.

 

- احتسب عند الله كل لحظاته للدعوة، فرغم السن والمرض وصعوبة الحركة، كانت بهجتنا كل يوم أحد، وهو يشارك فضيلة المرشد، في لقاء أسبوعي، حول الرسالة الأسبوعية، وكلما سبح فضيلة المرشد حول خواطره ونقل الحضور إلى عالم روحاني غير الدنيا، يرجع إلى الدكتور قميحة فيشارك بخبايا لغوية وأدبية وبلاغية لها سحر وبيان، فكأن اللقاء من الجنة، أو في الجنة، ومما يزيده بهاءً وبهجة، مظاهر الحب العجيب والمتبادل بين فضيلة المرشد الدكتور محمد بديع وبين الدكتور جابر قميحة، أو بين الدكتور جابر وفضيلة الأستاذ عاكف المرشد السابق بالخيرات، كما يطلق عليه الدكتور بديع، ومن طرائف هذا اللقاء هذا التحليل الرائع من الدكتور قميحة وهو يقول عن النظام البائد، أنه كان يردد: (لا يوجد شيء اسمه الإخوان)، فكان يروي لنا أن عليًا بن الحسين طاف بالكعبة والناس حوله تقبله وتلتحم به، وقد تكاثرت حوله، والخليفة قد طاف ولم يصنع معه أحد شيئًا، فأراد تحقير ابن الحسن، فقال سائلاً: مَن هذا؟ فقال الفرزدق:

 

 هذا الذي تعرفه البطحـاء وطأته    والأرض تعرفه والحل والحرم

 وليس قولك من هذا؟ بضائره      العجم تعرفه من أنكرت والعجم

 

ولذلك كان له رأي يجهر به، في ظل النظام السابق وظهر في كل مقالاته، عن النظام المستبد البائد بلا رجعة، مستدلاً بحديث السائل عن الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فكان يعقب على الحديث بقوله: "نحن نعيش عهد تضييع الأمانة، وأن يتولى الحكم غير أهله، لا علم له، ولا خبرة له، ولا ضمير له، كل همه شعارهم المعروف: الفساد للركب، ويحرصون على قولهم: لا يوجد شيء اسمه الإخوان!.

 

ومن مشاركاته التي كان يصدع بها في مؤتمرات الإخوان يعبر فيها عن إرادة الأمة في أن الإسلام هو الحل، وربما تكون هديته للشعوب الثائرة الأبية اليوم في العالم:
هذىِ الحشودُ تعالىَ اللهُ جمَّعهـا

 

على شِعـارٍ غَـدَا للنصـرِ عنوانًا

نادَوْا "هو الديـنُ حَلٌّ لا مثيلَ له

فزلزلوا مِن بناءِ البغي أركانًـا

الحلُّ في الدينِ لا فيِ غَيرهِ أبدًا

شَرعٌ تجلَّى لنا رَوْحًـا وريحانًا

من سنّةِ المصطفى كانتْ مناهِلُـهُ

وكانَ دستورُهُ نـورًا وقُرآنًـا

بَنَى الحضاراتِ صرحًا شامخًا أبـدًا

عِلْمًا وعَـدلاً وإِنصافًا وعِرفانًا

شتَّان بين شعارِ صُنْـعِ خَالِقنـا

وبين ما ابتدعـوا شتانَ شتانًـا

فالحكـمُ لله حـقٌّ ليس يُنكرهُ

إلا جَهولٌ مَضَى فيِ الإثمِ خَسرانًـا

مِن عُصبةٍ حُكِّمُوا فينا بِظُلمِهُمُـو

والظلمُ صيَّرهم صُمَّاً .. وعُمْيانـا

قد ضَلَّ سَعْيهمو، وازدادَ بَغْيهمو

واستمرءُوا النهبَ حيتانـا وغيلانـا

من نِصفِ قَرنٍ وهذا الشعبُ في محـنٍ

ولا سميعَ لما قاسى ومـا عانى

ذاقتْ به مِصرُ ذُلا ضاريًـا نَهِما

ومنْ صِنوفِ الأسى والهمِ ألوانـا

كأنما مِصرُ إرْثٌ من جُدودِهِمُـو

أفْضَى لحكامنا نَهْبـا وعدوانا

وقد يئـولُ إلى الأبنـاءِ بَعدهمـو

وبعدهم لحفيـدٍ غُيـِّب الآنـا

لَهفيِ على مِصْرَ كانت قِمةً فغدتْ

في ظِـل حُكمهموُ تحتـلّ قِيعانـا

لَهفيِ على مِصْرَ كانتْ جنة فغدتْ

من المظالـمِ أشواكا ونيرانا

لَهفي على مِصْـرَ والتطبيعُ يخنقها

فأصبحَ الحكمُ للتفريـط عنوانـا

للعَم "باما" علينـا سطوةٌ غلبتْ

إنْ شـاءَ يأمُرنا أو شـاءَ ينهانـا

لَهفيِ على مِصْرَ نامتْ عن ثَعالبهـا

وقد شبعْن وصـار الشعب جوعانـا

جوعٌ وفقرٌ وتشريـدٌ ومَضيعة

وبالطوارئِ حق الشعبِ قـد هَانـا

من أجل هذا رفعنا رايـةً هَتفتْ

الحلُّ فىِ الدينِ كي نرقى بِدُنْيانا

ما غيرُ إسلامِنـا عزٌّ لحاضرنـا

نفديـه بالدمِّ شريانا فشريانـا

ما غيرُ إسلامنـا نبنىِ به غَدَنا

حتـى يعيـش بـه الإنـسـان إنـسـانـا

سابعًا: وفي الختام تبقي وصاياه

 

- لقد رحل الدكتور قميحة تاركًا للأمة مشروعه الذي لم يكتمل، وربما يحمل لواءه أحد تلامذته النجباء فيكمل هذا المشروع الذي أصدر منه مرحلتين فقط في كتابين عن الأدب النصي للمرأة المسلمة، الكتاب الأول: خطبة السيدة عائشة تدافع عن أبيها، والكتاب الثاني: حديث الإفك على لسان عائشة.

 

-  أما وصية الوداع فقد أجملها في إيجاز، حينما سئل: ماذا تقول عن نهضة المسلمين اليوم؟ في كلمة واحدة؟ كانت الإجابة أسرع من الريح: (العودة إلى أصفى المنابع: القرآن القرآن، من هنا المنطلق ففيه الاعتزاز الديني والقومي والوطني).

 

 وأختم بأمنية الدكتور جابر التي كان يريدها من تلامذته وقرائه وإخوانه ومشاهديه:

 

( أريد أن أقول ويصل قولي، أريد أن أتكلم وتصل كلمتي، أرجو أن تعيشوها كما عشتها، فأكثر كلمة في القرآن (قل)، لكي يعطينا الله جوهر الإعلام المتجدد، (قل) فأنت تقول والذي يسمع يقول، (فالكلام بين مرآتين متطابقتين)، أتمنى أن يقول الإخوة ما وجدوه في كلامي حقًّا).

 

-----------

* www.gamalmady.com- [email protected]