مواقف معنوية.. لا خلاص إلا بمسلم حقيقي

ترجمة وإعداد: أحمد يوسف

ما كان يظهره الإمام حسن البنَّا للشباب من ردود أفعال ومواقف جميلة دالة على حسن روحه وقلبه، أمر يستحق الذكر.. كان معروفًا عنه أنه شخص محب صدوق مخلص في كل أحواله، فكان الشباب يأتي إليه مهرولاً من مختلف الصفوف والجامعات كالغزلان التي أرهقها العطش للماء، وكان استقباله لهم حلة من الجمال تمنيت لو أن الجميع رأوها وعاصروها، كالأم التي تستقبل أولادها العائدين من الغربة؛ عيون مليئة بالحب ونظرات مليئة بالمحبة والسلام.

 

كل من كان يأتي إلى الإمام يعانقه ويسلم عليه بحب وشفقة وحنوّ بوجهه المبتسم، وكانت معانقته كأن أمك هي من تعانقك، لن تشبع من لمسك إياه وعناقك له! يضمك قليلاً إليه ويناديك باسمك ويسألك عن حالك، وهو مبتسم في كل الأحوال. في كل أحاديثه وخطاباته وكلماته كنت أحس أني في مجتمع ممثل في جسد واحد وروح واحدة! وقفات تثير الوجد، وخشوع، وصمت عميق، ودموع من الخشية واستماع بإنصات وضحكات وابتسام. مجالسه كأن الملائكة تحفها، جو من الروح والإخلاص وأخوة الدين والروح، يتلاقون بالسلام والمعانقة، ويسألون عن أحوال بعضهم بعضًا، شباب تركوا دنيا المادة التي أذهبتها هذه الروحانية العالية، وجاؤوا بنَهم إلى عالم الإيمان. كانت مجالس أرواح وحب وعشق ينسون فيها همومهم وأكدارهم، فكانت نموذجًا مصغرًا لمجالس النبي "صلى الله عليه وسلم" مع صحابته الكرام.

 

وفي أيامنا هذه للأسف الشديد لا يجد الشباب المسكين أمثال هذه المجالس المعنوية، فهم مشتتون يعيشون في ظروف سيئة الأخلاق والدين.

 

حديثه عن الذكر

 

كان الإمام البنَّا يتحدث في خطابه بمقدار ساعة ونصف الساعة، وكان سامعه لا يمل أبدًا، كان يملك ذاكرة رهيبة، ويفسر القرآن بالقرآن، يأتي الآية ويفسرها بالآيات الأخرى ثم يذكر ما يمكن أن يستخلص منها. عندما يتحدث عن الذكر مثلاً، يسوق ألفاظ: الذكر، التذكر، الذكرى، عدم النسيان.. ويضع كل ما يتعلق بالذكر من آيات القرآن أمام عينيك؛ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152)) (البقرة). أي شرف عظيم لمن ينال هذا؟! الله عز وجل يذكرنا! الإنسان إذا ذُكر من طرف أخيه أو صاحبه امتلأ قلبه راحة وحبًّا، وأصبح فؤاده كالحديقة الغناء، وأصبح هو كالوردة والبلبل الحادي! فكيف لو ذَكَرَنا الله تعالى؟! إن من صلى على نبيه "صلى الله عليه وسلم"، ما معنى هذا؟ معنى ذكر الله لك أن يعفو عن ذنوبك، ويقبل توبتك، ويهبك البركة في عُمرك، ويهب لك ما تتمناه.

 

 ذكر في كل حال وزمان

 

وهكذا يأتي الإمام بكل الآيات الخاصة بالذكر ويضعها أمامنا، فلا تشبع من مدارستها، كأنك في هذه المجالس القرآنية تتحدث مع الله عز وجل! وكأنك في عالم آخر؛ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)) (آل عمران). فهم أصحاب العقول المستفيدون بنعمة العقل، وأصحاب العقل السليم ينظرون ويتفكرون، فلهم في خلق السماوات والأرض دلائل وآيات وإشارات، من هم؟ هؤلاء هم الذين يذكرون الله دائمًا في كل أحوالهم فيكونون في معية الله وحفظه! كان الإمام يقول: "أيها الشباب؛ انتبهوا! الإنسان يكون على ثلاثة أحوال لا غير، لو نظرنا للآية لعرفنا متى يذكرون الله؟ قيامًا؛ وقعودًا؛ وعلى جنوبهم أي وهم نائمون، الإنسان إما أن يكون واقفًا أو قاعدًا أو نائمًا، والمؤمن في هذه الأحوال الثلاث مع الله دائمًا، فأي خير هذا؟!

 

إن الله مع الذاكرين

 

ثم انتقل الإمام إلى الأحاديث النبوية الشريفة: يقول الحديث "أنا جليس من ذكرني"، كلما تذكرت هذا الحديث اندهشت! الله يقول: أنا مع من يذكرني، أنا في صحبته، أنا مع عبدي! بمعنى أن الذكر يقربك من الله عز وجل، وبفضله تكون مع الله وحده دون أحد من عباده، فإن كنتم في مجلس ذكر مع عباده فأنتم جميعًا مع الله تعالى. وهكذا كان يرى الإمام البنَّا حياة المسلم بما يفعله بمقتضى إيمانه أنه كله ذكر لله، وأن كل لحظات حياته ذكر.

 

شباب الـ"نصف كم"!

 

كان أكثر ما يلاحظ على الإمام البنَّا من الوهلة الأولى كونه موفقًا في صيد القلوب، فكأنه الصائد يصيد الطير بسهم واحد! فكان يؤثر فيما يصطاده من قلوب وأرواح كصانع الفضة في تفننه. ذات يوم رأيت شابًا يسأل الإمام: "يا سيدي، هناك بعض الشباب في الحي الذي نسكن فيه يدرسون في الثانوية والجامعة، وهم أولاد أثرياء الحي، لا يرتدون الطربوش، رؤوسهم عارية، ويتجولون بقمصان "نصف كم"، وكانوا يقولون لي: أنت تذهب إلى دروس الأستاذ البنَّا وتمدح كلامه، وتحس أن قلبك قد امتلأ بالنور وابتعد عن المعاصي والذنوب؛ فخذنا إلى هذا الرجل.. لا أدري ماذا تقولون لو أتيت بهم؟ هل أكون قد اقترفت شيئًا مخالفًا للأدب؟". فتبسم وجه الإمام بسمة جميلة كحديقة زهور وقال: "يا أخي! وما يمنعك أن تأتي بهم دون إذن؟! ائتِ بهم طبعًا".

 

كيف نبدأ حفظ القرآن؟

 

وبعد أيام جاء الشاب ومعه هؤلاء الشباب الذين تحدث عنهم وكانوا خمسة أو ستة أشخاص، واستقبلهم الإمام باهتمام ووجه مبتسم وقبّلهم من جباههم وقال: "أنا أرى في هذا الشباب نورًا، وأنتظر قدومهم دائمًا، لا تأتون بمفردكم بل أحضروا معكم شباب حيّكم وأطفاله". وبعد شهر، رأيت هؤلاء الشباب قد بدؤوا في حفظ القرآن الكريم، وكانوا يسألون: "يا أستاذ كيف نبدأ حفظ القرآن بطريقة ميسرة؟ أنبدأ من أوله أم من أي سورة؟ أيهما أنسب؟".

 

شباب في ظل العرش

 

ذهلت حين رأيت ما أظهره الإمام البنَّا لهؤلاء الشباب من اهتمام وتقريب لهم، وفي يوم من الأيام أفرد كلمته لهؤلاء الشباب وقال: "الله عز وجل سوف يُظل أناسًا بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن هؤلاء الناس الشباب، الشباب الذي ترك المعاصي والشهوات؛ وترك السيئات".

 

ورأيت هؤلاء الشباب بعد ذلك يأتون إلى الدروس ومعهم آباؤهم فكانوا سببًا في هدايتهم أيضًا. فكان الإمام البنَّا بإخلاصه وسماحته وأفقه الواسع وفضائله الجمة ومعايشته وتطبيقه لكل ما يدعو إليه سببًا في كل هذا الخير.

 

خطابه وتلاوته

 

كان الإمام يرحمه الله تعالى يملك صوتًا جميلاً هادئًا، لا تنزعج من سماعه ولا تمل، لا يعلو بصوته ولا يصيح، بل يتحدث بأناة تستطيع معها أن تفهم ما يقوله ويقصده بسهولة، وكنت أراه يبكي في بعض خطبه كلما ذكر النبي "صلى الله عليه وسلم". كان يقرأ عادةً سورة طويلة في صلاة الجمعة، يقرأ ثلاث صفحات من سورة الكهف قراءة جميلة جدًا، كان يشبه في قراءته الشيخ عثمان أفندي الساعاتي (شيخ تركي معروف)، لا يعتمد في قراءته على التنغيم، وإنما يقرأ قراءة مستقيمة جميلة يراعي فيها جمال المعنى وتدفع المستمع إلى التفكر في الآيات المقروءة، فكان يرحمه الله يعيش القرآن ويعيش به، ويُعيّشه لغيره.

 

 حماسه للشهادة

 

 أتذكر أنه في إحدى خطب البنَّا حين تطرق إلى موضوع الشهادة كاد يفقد شعوره من الحماس! كان يعطي لهذه القضية اهتمامًا كبيرًا، ويعلي بها صوته محمسًا المستمعين. لقد رأيت في هذا الرجل عشقًا للشهادة لم أرَه في أحد غيره، وكأنه كان يسير نحوها، كانت حالته تنبئك أنه سيموت شهيدًا. فأناشيد الإخوان وأسس دعوتهم تقوم على مبدأ "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، حين تسأل أحد الإخوان: ما غايتك في الحياة؛ أن تكون غنيًا؟ أن تعيش مرفهًا؟ هل تريد القصور والبيوت والعز و..؟ فيكون جوابه: لا؛ غايتي العمل في سبيل الله، وأن أموت شهيدًا في سبيله وسبيل دعوته، وهذه أسمى أمانينا، كان هذا الكلام يطبق ولم يكن مجرد شعارات فقط، وقد استشهد الإمام البنا بالفعل وبعده مئات الإخوان، وإن لم نحي نحن هذه القيم فينا وندافع عنها، فلن تقوم لنا قائمة ولن نحصل حتى على أدنى مقومات الإنسانية والحياة.

-----------------

* باحث مصري مقيم في تركيا

المصدر: مجلة المجتمع