أ.د/ طه جابر العلواني*
تمهيد
منذ أواسط القرن الثامن عشر الميلادي والعالم الإسلامي كله يفتح النوافذ والأبواب في وجه الفكر الغربي، والمنهج الغربي، والثقافة الغربية، والعلم الغربي، والحضارة الغربية، والفنون الآداب والأذواق والتقاليد الغربية بدرجات متفاوتة.
فمنذ أن بدأ الغربيون ينشئون كنائسهم التفسيرية وجوارها أو بداخلها مدارسهم التعليمية في بيروت والقاهرة وبغداد والموصل والإسكندرية واسطنبول وغيرها من حواضر المسلمين، والحصون الفكرية والثقافية الإسلامية التي كانت متبقية لدى هذه الأمة كانت تتهاوى واحدًا بعد الآخر، والأجيال المسلمة تتعرض لعملية استلاب فكري وثقافي هائل، انتهت بأن أصبحت جميع معارفنا النظرية غربية مائة بالمائة، أو موضوعة في قالب وإطار غربيين، شمل ذلك الفكر والمنهج والمصدر والفلسفة وموضوعاتها وأهدافها وغاياتها، وكل ماله علاقة بها من قريب أو بعيد.


وحتى تلك العلوم التي نسميها بالشرعية أو الأصلية أو التقليدية أو أية تسمية أخرى لم تسلم من عملية الاستلاب والتغيير هذه، فأخضعت جوانب كثيرة منها للتطور فلسفتها ومعالجة قضاياها وموضوعاتها.


وبذلك انمحت الشخصية الإسلامية بانهيار مقوماتها الأساسية العقلية والنفسية؛ فالمقومات العقلية مبنية عند الإنسان المسلم –إضافة إلى الموهبة والاستعداد والوراثة والقدرة والمكانة الثقافية والمعرفة والتصورات والفكر والتأملات والخبرات والتجارب والدراسات والتحليلات والملاحظة – على منهج ومعرفة، فإذا وُجد المنهج والمعرفة وُجدت العقلية وصيغت وتم بناؤها.


والمقومات النفسية متمثلة – إضافة إلى الاستعداد والقدرة – في الفنون والآداب وما يتصل بها، فالفنون والآداب هي التي تسهم عادة بتكوين ذلك الذوق الذي نطلق عليه النفسية وما يتعلق بها0 ومن هنا فإن الفلاسفة لم يبعدوا كثيرًا حين صنفوا القيم إلى أنواع ثلاثة: قيم الحق، وقيم الخير، وقيم الجمال.


فإذا كانوا قد أبعدوا في شيء فإنما أبعدوا في ربط هذه القيم بمصادرها ووسائل الوصول إليها، فزعمهم بأن قيم الحق وقيم الخير تنبثق عن العقل وحده هو ذلك الزعم الخاطئ الذي نرفضه ولا نرضاه.


وقيم الجمال كذلك لا نرضى أن يكون مصدرها العقل وحده أو الذوق والرغبة والهوى، وإنما مصدر سائر القيم عندنا نحن المسلمين أمران مترابطان، يسيران جنبًا إلى جنب، دون أي فاصل بينهما: الوحي والوجود.. الوحي بكل ما أفاده من كتاب وسنة وما اعتد به من قبلهما من مصادر أخرى، وكذلك الوجود، فهذان المصدران، منهما ومن خلالهما نتعرف على مراتب القيم، نصنفها إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات كما صنفها علماؤنا، وكما هي تعبيراتهم، وهما المصدران المتلازمان اللذان لا يفترقان، ويوم يفارق أي منهما الآخر فإن ذلك يعني الخراب في هذه القيم أو في مراتبها كلها.
—----
* رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي