تقدَّم الشاب نحو المنصَّة فرأيته قوي البدن، مفتول العضلات، نظرات عينيه تدل على ذكاءٍ حادٍّ وعقل وقَّادٍ، وإن كانت ملامح وجهه تدل على انكسارٍ في نفسه وتردُّدٍ في شخصيته، احترت: ترى ما هي شكوى هذا الشاب؟!.

 

لم تطل حيرتي؛ فقد تقدَّم الشاب بخُطًى سريعة ولكن وجهه نحو المنصة، وقال: لي شكوى؛ فقد أكل هذا المتهم شبابي وقتل طموحي.

 

نادى المنادي: تكلَّم أيها الشاب ولا تتردَّد أن تفصح عما في نفسك وتشرح ما يدور في خُلدك.

 

قال الشاب: أنا واحدٌ من الآلاف من أبناء مصر الذي أراد الله لهم الفطنة والذكاء، وأراد لهم هذا النظام البائس الجهل والغباء.

 

 قال المنادي: كيف؟ وضِّح مقالتك، وأَبِنْ حُجَّتك.

 

 قال الشاب: لقد التحقتُ بالمدرسة الابتدائية في صغري، وكان مدرِّسنا دمثَ الخلق، شديدَ الاهتمام بنا عمومًا وبي خصوصًا.. كان يقول لي: "إنك ذو ذكاء حادٍّ وعقل متميِّز، وستكون من علماء مصر بإذن الله"، ورغم فقري فقد تفوَّقت، وكنت الأول على مدرستي، وفي يومٍ أسود ذهبتُ إلى المدرسة فوجدتُ مدرِّسًا آخر في الفصل، سألت عن مدرسي الأصلي فقالوا لي: لقد حوَّلته الإدارة إلى عملٍ إداري ونقلوه إلى منطقة نائية.. لماذا حولوه؟!

 

أحسست بالضياع، وزاد ضياعي مَن أحضروه يدرِّس لنا بدلاً من المدرِّس الأول؛ فقد كان لا يفعل شيئًا في الفصل سوى الشكوى من ضعف المرتبات وسوء الحال واضطراره إلى أن يعمل أعمالاً إضافيةً ليكفيَ أسرته؛ ولذلك فهو لا يُحضِّر لنا الدرس، بل يكتفي بكلمات ضعيفة ومعانٍ هزيلة لا تنفع ولا تضر، وما هي إلا شهور قليلة فقدْتُ فيها الأمل وانطفأت فيها رغبتي في العلم، ومع الفقر وضياع الرغبة خرجتُ من التعليم لأعمل عاملاً زراعيًّا أحيانًا أو عاملاً مؤقتًا في مصانع أحيانًا أخرى، وكنت حينما أتعامل مع المهندسين وأجد في نفسي كفاءةً وفهمًا أشعر بالحسرة على نفسي، وأدعو بالانتقام ممن قتل طموحي ووأد موهبتي.

 

نادى المنادي: حدِّد شكواك أيها الشاب.. مِمَّ تشكو بالضبط؟!!

قال الشاب: أشكو مَن جرَّعني كأس الجهل وحرمني نور العلم وجعلني تابعًا لا متبوعًا.

 

نادى المنادي: فهمنا طلبك وسنحقِّق في شكواك.

 

 خرج رجلٌ من أهل اليمين صائحًا: ولي شكوى في نفس الموضوع أريدكم أن تسمعوها مني.
قال المنادى: اقترب.. ماذا تريد؟.

 

تقدَّم رجلٌ في العقد الخامس من عمره، وقورٌ أشيب الرأس، تختفي عيناه خلف نظارة سميكة، تقدَّم الرجل وقال:

 

إنني أَوفَرُ حظًّا مِن سابقي؛ فأنا أكملتُ تعليمي حتى الجامعة وتخرَّجتُ بتقدير امتياز، ولكنني فوجئتُ بعدم تعييني في الجامعة بسبب تقرير الأمن ضدي؛ حيث كان لي نشاط سياسي سلمي وإسلامي معتدل.

 

ظللتُ في الشارع لعدة سنوات حتى حصلتُ على حكم قضائي بأحقية تعييني في الجامعة، وعملتُ بالجامعة وبدأتُ أبحاثي التي أردتُ بها خدمةَ بلدي، ولكن للأسف.. كلما طلبنا اعتمادًا ماليًّا قالوا لنا لا يوجد، وفي نفس الوقت نجد أموالاً طائلةً تُنفَق على رحلات ماجنة يذهب إليها الطلاب وحفلات ساقطة يجتمع لها الساقطون، ولمَّا استنكرنا الأمر قالوا لنا إن الأولوية في الميزانية لمثل هذه الأنشطة؛ حتى ينصرفَ الطلاب عن التدين وبالتالي التشدُّد وبالتالي المظاهرات.

 

يئسنا منهم، فاجتمعنا نحن مجموعةً من الأساتذة والعلماء كي نُنشئ جامعةً علميةً بجهود ذاتية، فأفشلوها خوفًا من أن تكون لها أغراض سياسية، وبعد فترة من الزمن وجدتُ النابهين من الأساتذة يهاجرون إلى الخارج، والنابهين من الطلبة لا يُقيَّدون في الجامعة بحجة أنهم إسلاميون، ولا يأتي معي في الجامعة سوى أصحاب الوسائط وأبناء علية القوم رغم ضعف مستوى الكثير منهم.

 

حاولتُ الإصلاح جاهدًا؛ طالبت باستقلال الجامعة وتحسين أوضاع الأساتذة وحرية الطلاب ودعم البحث العلمي، بعدها بشهور حوَّلني هذا المتهم إلى محكمة عسكرية بتُهَمٍ مُلفَّقة، وكانت قضيةً شغلت الرأي العام أسموها آنذاك قضية "أساتذة الجامعات"، ولأول مرة في تاريخ مصر يوضع أساتذة الجامعات والعلماء مع اللصوص والمجرمين؛ لا لذنب إلا أنهم أرادوا إصلاح بلدهم وتقدُّمَه العلمي والتكنولوجي.

 

انتهت شكوى الرجل، وبعدها نظرتُ إلى المتهم فوجدته مُكْفَهِرَّ الوجه، دامعَ العينين، ذليلَ النظرات، كثيرَ العبرات، يحرِّك رأسه يأسًا وندمًا، ولكن حيث لا ينفع الندم.

 

نادى المنادي: أريد شهودًا من ذاكرة الزمن ومن أحداث الحياة.

 

سمعتُ أصوات قرع الطبول ونفخ البوق، وبعدها ظهر على الشاشة مشهدٌ من الرجال الأجانب مجتمعين في غرفة فاخرة، ووجدت لافتةً مكتوبًا عليها "المخابرات الأجنبية"، ودار بين المجتمعين هذا الحديث:

 

قال أحدهم: إنَّ أهمَّ مقومات الحياة الآن هو العلم والتقدم التكنولوجي، وللأسف إن مجتمعاتنا وصل فيها الانحلال إلى درجةٍ أصبحت العقول الذكية عملةً نادرةً؛ فالخمر والنساء وعدم الاهتمام بإنجاب الأطفال وغياب الأسرة.. كلُّها عوامل أدَّت إلى نقص الكفاءات العلمية لدينا، وهذه مصيبة كبيرة.

 

قال آخر: والأدهى من ذلك أن المسلمين رغم تخلُّفهم فإنهم لا يزالون يملكون ثروةً بشريةً ضخمةً، وفيهم مواهب علمية وقدرات ذهنية عالية.. إن آخر إحصائية تقول إن عالمنا الغربي قائمٌ على العقول المهاجرة والتي أغلبها مسلمون.

 

قال ثالث: إذن لا بد لنا أن نفعل شيئين أساسيين: أما الأول فهو مَنْع التقدم العلمي لدى العرب والمسلمين؛ حتى لا يتفوَّقوا علينا، والأمر الثاني أنه من ينبُغُ منهم علينا أن نغريَه بالسفر إلى بلادنا ونعطيَه المال الذي حُرِم منه في بلده ونوفِّر له الإمكانيات ونعطيَه الجنسية أيضًا، فيكون منا وليس منهم.

 

قال أحدهم: وكيف نصنع هذا؟.

 

قال باطمئنان: لا تخفَ.. أصدقاؤنا في النظم العربية يفعلون ما نريد دون ما يشعرون، ولو شعروا فلن يفعلوا شيئًا؛ لأنها منظومة فساد ومصالح كاملة تحمي بعضُها بعضًا.

 

انتهى المشهد، وتأكَّدت مما كنت أقرؤه في الكتب عن مؤامرة الغرب على العقل المسلم وكيفية تدميره.

 

انطفأت الشاشة، وظننت أن الأمر انتهى عند هذا الحد، ولكن سرعان ما أضاءت الشاشة لأشاهد مشهدًا آخر رأيت فيه المتهم المزوِّر وهو مجتمع مع مجموعةٍ من طلاب الجامعة، ودار بينهم الحوار التالي:

 

قال المتهم: أريد منكم السيطرة على اتحاد الطلاب ومَنْع طلاب الإخوان المسلمين من السيطرة عليه، كما أريدكم أن تجعلوا الطلاب يعيشون حياتهم.. أنا سعيد بقصص الحب الكثيرة التي أسمع عنها، والتي تنتهي بزواج عرفي، ولكن لا تبالغوا في مثل هذه الأمور؛ حتى لا تصلوا إلى الشذوذ وعبادة الشيطان، وإن كنت أرى أن هذه حريةٌ شخصيةٌ، وعليكم بمراقبة مسجد الكلية وإبلاغي بأية ندوات أو اجتماعات فيه، ولكم مطلق الحرية في تأديب طلاب الإخوان، وكم يسعدني أن أرى دماءهم تسيل بأيديكم.

 

لا يهمكم شيء..أنتم في حمايتي.. لكم المال، التعيين في الجامعة، الوظائف بعد التخرج، وهم لهم المعتقلات، التشريد، البطالة.

 

فجأةً سمعت صرخةً مدويةً، نظرتُ إلى مصدرها فوجدت المتهم يصيح ويصرخ ويلطم ويقول: كل شيء مسجَّل عليَّ، كل نَفَسٍ محسوب عليَّ، يا ويلي.. يا مصيبتي.

 

قال الحارس: اخرس أيها المجرم ولا تتكلم إلا بإذن.

 

وبعدها وجدتُه يضربه بمطرقةٍ على رأسه أيقنت أن ستصير فتاتًا بعدها، فنظرت إليه فوجدت الدماء تسيل من رأسه على وجهه وهو يصرخ ويولول كالنساء والثكالى.

 

نظرتُ بعيدًا عنه حتى لا أرى الدماء وهي تسيل، ووجَّهت وجهي نحو الشاشة لأشاهد مشهدًا آخر أكثر إثارةً.. وجدت المتهم جالسًا على مكتبه في مقر عمله وبجواره مساعدوه وهو يأمرهم بالأوامر التالية:

 

يا فلان.. اذهب إلى الإدارة التعليمية وخذ معك أمرًا إداريًّا من وكيل الوزارة بنقل الأساتذة المُدرَجة أسماؤهم في الكشف الذي معك إلى وظائف إدارية في أماكن نائية، وقد كلَّمت وكيل الوزارة صباحًا وسيكون الأمر جاهزًا.

 

وأنت يا فلان.. أرسل إلى الجامعة اعتراضَ الأمن على مجموعةٍ من المعيدين مُدرَجةٍ أسماؤهم عندك؛ وذلك لنشاطهم الإسلامي أثناء دراستهم بالكلية.

 

ثم نظر إلى سكرتيره الخاص وقال له: اتصل برئيس الجامعة.

 

وبعد قليل رفع سماعة الهاتف قائلاً: مرحبًا يا دكتور.. أريد أن أنبِّهك إلى بعض الأمور؛ أولها أن مصادرنا الحساسة السرية والموثوق بها قد رصدت نشاطًا طلابيًّا إسلاميًّا كبيرًا في الجامعة، كما تعاطف عددٌ كبيرٌ من الأساتذة معهم، فاجتَهِدْ أن تتعامل مع هذه الظاهرة، وقُمْ بتحويل الأساتذة إلى التحقيق أو امنَعْهم من التدريس بأية صورة، وعلى فكرة.. التجديد لرئاسة الجامعة على الأبواب، أرجو أن تهتمَّ بما قلتُه؛ لأن هذه مصلحتك أولاً.

 

وانتهت المكالمة، وانتهى المشهد.

نادى المنادي: أيها المتهم.. هل لديك ما تقوله؟.

قال المتهم: إن لي كلمةً أيها القاضي، هي أنني كنت أطيع أمر رؤسائي، وما كنت أفعل شيئًا إلا بتوجيههم وأوامرهم.

 

نادى المنادي: لا تتعجَّل، سيأتي دور رؤسائك.

ومن بعيد عَلَت أصوات متداخلة وأخذت تعلو رويدًا رويدًا، فنادى المنادي: ماذا هناك؟.

قال قائل: مجموعة من الرجال يريدون أن يشكوا إليك أمرهم.

 

قال المنادي: ائت بهم.

اقتربَت مجموعةٌ من الرجال؛ أولهم كان يرتدي معطفًا أبيض، فهمت منه أنه يعمل طبيبًا، وآخر تعلو رأسَه خوذةٌ معدنيةٌ توحي بأنه يعمل مهندسًا، وثالث يحمل مجموعةً من الدفاتر فأيقنت أنه محاسب، أمَّا سمت الرابع وارتداؤه زيًّا كاملاً وحملُه مجموعةَ أوراق في يده أكَّدت لي أنه محامٍ، وأخيرهم تفرَّسْتُ فيه فعلمت أنه مدرس.

 

قال المنادي: من أنتم؟.

قالوا: نحن ممثِّلون عن المهنيين.. جئنا نشكو هذا المتهم.

قال المنادي: فليتكلَّم أحدُكم.

استعد المحامي للكلام؛ فهذه مهنته، وتقدَّم قليلاً ثم بدأ في مرافعته قائلاً:

 

لقد جئنا إليكم نشكو هذا الظالم، وخاصةً أن قضيتنا يَحَارُ في فهمها العقلاء.. إن من المعلوم أن هذا المتهم وأمثاله ينكِّلون ويسحقون كلَّ من يعارضهم، ولكننا نحن المهنيين لم نكن معارضين للنظام، بل كنا جزءًا منه؛ نقدِّم خدمات مهنية واجتماعية وثقافية لأبناء مهنتنا، وقدَّمنا كثيرًا من الأبحاث لحل مشاكل وطننا؛ فقدَّمنا حلولاً عمليةً لمشكلة رغيف الخبز، وبيَّنَّا كيف نكتفي من القمح، ووضعنا حلولاً لسدِّ الفجوة الغذائية ومقترحات لحل المشاكل البيئية وتأخُّر إجراءات التقاضي ورفع مستوى الأطباء والخدمة الصحية، وغيرها كثير، لكن هذا المتهم وأمثاله بدلاً من أن يشجِّعنا حارَبَنا وعَمِلَ على إصدار قوانين تمنع نشاطنا، بل فرض الحراسة على بعض نقاباتنا، وعرَّض أموال المهنيين للسرقة.

 

إنني حائر من أمر هذا المتهم.. لماذا يفعل معنا هذا الجُرْمَ مع أننا نَحُلُّ مشاكله؟! لماذا يحاربنا رغم تصالحه مع اليهود على الرغم من أننا فئة من الشعب؟! لقد أضاع هذا المتهم جهودًا وأبحاثًا لو استُثمرَت لنقلت بلادَنا من التخلُّف إلى التقدُّم، ولكن عقليةَ هذا المتهم هي التي أورثت بلادنا الخراب.

 

سُئل المتهم: ما الذي دفعك إلى هذا؟.

 

قال المتهم: إن النقابات المختلفة كان يسيطر عليها فئةٌ غير مرضي عنها من النظام.
نادى المنادي: ألم يصلوا إلى النقابات بانتخابات واختارهم جموع المهنيين ليقودوهم؟!
قال المتهم: بلى، ولكنني كما قلت دومًا.. إنني أنفذ الأوامر.

 

نادى المنادي: ما أبلسك وما أشقاك!!.. أورثتَ بلدك التخلف بتخُّلف عقلك وذهاب بصيرتك.. التعليم قد أفسدته، والعلماء قد ضيعَّتهم، والمهنيون قد حاربتهم.. أفعالك سببٌ مباشر للجهل الذي عاش فيه بلدُك وللتخلُّف الذي سيطر على قومك.. ليكن عقابك عقابًا شديدًا، وليكن الجزاء من جنس العمل.

 

بعدها وجدت سهامًا تُصوَّب نحو المتهم، ويخرج من هذه السهام أسلحة بيضاء على شكل أقلام مدبَّبة الأطراف، وكلَّ بضع دقائق يُقذَف بهذه السهام؛ فمنها ما يصيب عينيه، ومنها ما يدخل من أنفه ويخرج من جبهته، ومنها ما يصيب صدره وبطنه، ثم بعد بضع دقائق تخرج السهام من جسده تحمل معها بعضًا من لحمه وعظمه، ثم يلتئم جسده ويُضرب بالسهام تارةً أخرى وهو يتألَّم ويصرخ ويبكي وينوح.

 

قام الشاب الذي بدأ شكواه وهو يقول: إن مرارة الجهل التي سقيتَها لي، وحرمانَ البلاد من عقول أبنائها، وحسرات الآباء على أبنائهم، ونقلَ المدرسين بعيدًا عن أهلهم، وإهانةَ العلماء في بلادهم، ونشرَ الانحراف بين الطلاب في الجامعات، وتدنيسَ العلم والعلماء.. كلها آثامٌ قد ارتكبتَها أيها الوغد، فذُقْ شيئًا من عقابها، ولن تزيدك الأيام إلا عذابًا.

 

وبعد ما رأيتُ ما حلَّ بهذا المتهم الظالم المزوِّر من عذاب, قلتُ في نفسي: كم سيتحمَّل؟! وإلى متى سيتحمَّل؟! وماذا سيتحمَّل؟! إن كان هذا كله ما هو إلا مقدمات الحساب وبدايات العقاب، وما سيحُلُّ به أسوأ مما هو فيه, ليته أفاق قبل فوات الأوان, وتاب قبل انتهاء الزمان, ولكن هي نفسه الدنيئة التي أغوته, وشهوته العاجلة التي أضلَّته.

 

 

وبعد دقائق قضيتها مع نفسي سمعتُ صوتًا يقول:

إن لي صديقًا له شكوى، ويرجو إمهالَه دقائق حتى يأتي.

 

نادى المنادي: فليأتِ الآن، وتَعَجَّلْه؛ فالوقت عندي أثمن من الذهب, والدقائق هذه التي تتكلم عنها أصنع فيها الكثير, وأسوأُ ما فيكم أنكم لا تعرفون قيمة الوقت؛ إنه أثمن ما يملكه الإنسان.

 

جاء الشاكي قائلاً: لقد حضرت لتوِّي، وما أخَّرني إلا كثرةُ المتزاحمين؛ كلهم يريدون القصاص من هذا الظالم المزوِّر.

 

نادى المنادي: لا تعتذر؛ يمكنك إذا أردت الحضور أن تبكِّر بالمسير.. قل لي شكواك واختصر.
نظرتُ إلى الرجل فوجدتُه يميل إلى القِصَر, تبدو على وجهه نضرةُ النعمة وأثرُ النعيم، ولكن نظرة الحزن في عينيه أطفأت نور النعيم الذي على وجنتيه, فكَّرتُ: ترى ما هي شكوى الرجل؟.

 

نطق الرجل قائلاً: أنا رجل أحب بلدي, ولكني سافرت منها؛ حيث تعثَّرت معيشتي, وعملت بإحدى الدول العربية وجمعت مالاً, وحينما أحسست أن معي ما يكفيني قلت أعود إلى بلدي أُنشئ فيها مصنعًا يعمل فيه الشباب ويُنتج ما تحتاجه بلدي، وأكون وسط أهلي.
وبالفعل رجعتُ إلى وطني، ويا ليتني ما رجعت.

 

سكت الرجل ولمحتُ دمعةً في عينيه وحسرةً تعلو وجهه.. أخذ يهز رأسه واستمر في قوله فقال: بدأت أنتج بعض المنتجات المفيدة لبلدي، ولاقت نجاحًا، وأخذت أصدِّر إلى الخارج, وبعد بضع سنوات من النجاح وجدت كلَّ يوم طارقًا يطرق مكتبي ليفرض عليَّ ألوانًا من الضرائب, ويحصِّل مني أموالاً طائلةً كِدْتُ أن أغلق المصنع بسببها, ورابني في الأمر شيء، فنصحني أحد أحبائي قائلاً: "يا فلان.. إن الناجحين اقتصاديًّا في هذا البلد لا بد أن يحسنوا علاقتهم بالأمن والحزب" قلت له: "وما علاقتي بالأمن والحزب؟!".

 

قال: هذا نظام، وإلا ستجد ضرائب مختلفة على مصنعك ومخالفات عديدة وتهم كثيرة "بالعربي: فتَّح مخك", ولم ينتهِ صديقي من كلامه حتى جاءني رسول قائلاً: "فلان بيه عايزك".

 

ذهبت إلى "فلان بيه" فوجدتُه هو الماثل أمامكم هذا الظالم اللعين، قلت له: "فيمَ تريدني؟", قال لي مازحًا: "وددت التعرف عليك ومشاهدة جمالك"، ولأنني جادٌّ طوال عمري فلم أقبل مزاحه, ولكنه قال لي: "أريد شراء بعض الأجهزة من عندك", قلت له: "المعرض مفتوح طوال اليوم.. اذهب واشترِ منه ما تريد".

 

أعترف أنني كنت غبيًّا؛ لم أفهم رسالة الرجل.. أنه يريد هذه الأجهزة مجانًا "هدية يعني"، وبعدما انصرفت من عنده جاءتني في اليوم التالي لجنةٌ من التفتيش الصناعي وكلَّفتني بتعسُّفها أضعاف أضعاف ما كان سيأخذه هذا المتهم.

 

فهمت الدرس، وأرسلت له ما يريده من أجهزة, ولكنني فتحت على نفسي بابًا من الخراب؛ فهذا يريد، وذاك يريد, اضطررت إلى زيادة سعر منتجاتي, فكسد بيعها، وزاد الطين بلة أن استُورِدت بضاعةٌ بأقل من سعر منتجي، فأوقفت إنتاجي، وسرَّحت العمال، وأغلقت المصنع، وخسرت كل شيء بسبب طمع هذا المتهم اللعين ومن معه.

 

إن هذا الظالم لم يضرني أنا فحسب، بل أضرَّ المئات من العاملين في مصنعي الذين خرجوا من عندي لا يجدون عملاً، وأصبحت المقاهي والشوارع ملاذَهم.

 

آه.. لقد علمت الإجابة, عرفت السبب، كم كنت أتعجَّب من غلاء ما ننتجه على قلَّته ورخص ما نستورده على كثرته, فعلمت أن الفساد والرشاوى يتم تحميلها على أسعار المنتجات، فتكون باهظةَ الثمن مقارنةً بغيرها.. يا لكم من مجرمين!!

 

نطق رجلٌ آخر كان قد حضر, وقف بجوار الأول قائلاً: أما أنا فكنت أعلم طبيعة الفساد في البلد, هذا الفساد الذي أدَّى إلى مقتل الصناعة, وعلمت أن اتجاه الكبار إلى الاستيراد دون الإنتاج؛ لأن ذلك يضمن لهم أموالاً أكثر، وفي نفس الوقت السوق عندنا مضمونة ومفتوحة, فاتجهت إلى الاستيراد واستوردت سلعًا استهلاكية يتلهَّى بها الناس, وراجت تجارتي، وبعد فترة جاءتني شحنة من البضاعة, ووجدت رجال الميناء يقرِّرون عدم صلاحيتها, فلما سألتهم: "كيف وهي نفسها التي تأتي كل مرة وتدخل؟!" فقال لي أحد الناصحين: "كلِّم فلان بيه"، ذهبت إليه فوجدته هذا الماثل أمامكم بلحمه وشحمه.

 

قال لي متهكِّمًا: "إنت مش عايش في البلد دي ولا إيه؟!".

قلت له: "لماذا؟".

 

قال لي: "يا حبيبي.. البلد محكومة بنظام سياسي واقتصادي محترم.. فيه نظام".

قلت له: "وهل خالفت النظام؟!".

 

قال لي: "سأقول لك الأمر بصراحة.. إن كل نوع من أنواع التجارة متخصِّص فيه أحد كبار الحزب؛ ولذلك أمامك عدة حلول؛ منها أن تعتبر "فلان بك" شريكك في التجارة وتقتسم معه الربح, أو..." قاطعته: "كيف يكون شريكًا لي وهو لم يدفع لي مالاً ولم يبذل معي جهدًا؟!".

 

قال لي: "افهم كلامي جيدًا.. البلد بلدهم، والشعب شعبهم.. من الذي يشتري منك؟! أليس الشعب؟! وهم حكام هذا الشعب, افهم ولا تغلق دماغك فتغلق باب رزقك".

 

قلت له: وما الحل الثاني؟.

قال: أن تبيع البضاعة الموجودة في الميناء لفلان بك- وهو نفس الشخص المذكور سابقًا- بمبلغ معين".

 

حسبتُ المبلغ فوجدته نصف المبلغ الذي اشتريتُ به البضاعة.

 

قلت له: كيف؟!.. إن ما تقوله لا يعادل نصف ما اشتريتُه به.

قال لي: "إذن أمامك حلٌّ ثالث", قال لي: "تهمة غسيل أموال أو تمويل جماعة محظورة, أو الاتصال بمخابرات أجنبية, أو السعي إلى قلب نظام الحكم أو..".

 

قلت له: "كفى.. ما تريده سأفعله, أعطني عنوان فلان بيه وسأذهب إليه".

 

ابتسم هذا المتهم اللعين وناولني ورقةً مكتوبًا فيها عنوان فلان بك ورقم تليفونه, أخذتها ووضعتها في جيبي.

 

قال لي: خذ هذه الورقة أيضًا.

قلت له: "ما هذه؟".

قال: ستجد فيها رقم حسابي في البنك.. ضع فيه مبلغًا ماليًّا محترمًا.

قلت له: لمَ؟.

قال: "وتسألني لمَ؟! على العموم هذا المبلغ مقابل نصيحتي لك وتفريغ جزء من وقتي لمقابلتك, ولولا هذه المقابلة كنت ستفقد بضاعتك وكل أموالك دون أن تدريَ ما السبب, أوليست نصيحتي لك لها ثمن؟!".

 

وذهبت إلى فلان بك، وتحولتُ إلى أجيرٍ عنده بمالي, وهو يقاسمني ربحي، وكل فترة يبتزني هذا اللعين بطلب هدايا عينية ومادية حتى يُسكِّن عيني, حتى شكوته لفلان بك, قال لي: "هذا حقه.. إنه يسهر على حمايتنا".

 

أصابتني بعد مقولته أزمة قلبية, وصفَّيت تجارتي, وعشت بعدها فقيرًا لا أملك إلا قوت يومي, وأخذ فلان بك كل جهدي وعرقي.

 

نادى المنادي: ما أعظم جرمك أيها المتهم اللعين!!.. أصبت الصناعة بالبوار, والتجارة بالاحتكار, ولو أعلم لك عذابًا أعظم من النار لفعلته.

 

ثم سمعت صوت قرع الطبول ونفخ البوق, وظهرت على الشاشة الخلفية صور لأشخاص وأصوات لأناس يتكلمون، ورأيت هذا المشهد.

 

كان المتهم جالسًا في مكتبه ممسكًا بسماعة التليفون، وعلى الجانب الآخر من الشاشة يكلمه فلان بك:

 

اسمع.. أريدك أن تُحضر لي كل من يتاجر في الأجهزة التي سأشتريها؛ حتى لا تحدث منافسة بيننا، وحتى أستطيع أن أتحكَّم في السوق.

 

المتهم: حاضر "يا فلان بيه"؛ لعلكم ستجلسون وتتفقون مع بعضكم.

صرخ فلان بك قائلاً: "ماذا تقول؟! نتفق مع بعضنا؟! قل: أملي عليهم أوامري وشروطي, إنت مش فاهم شغلك ولا إيه؟!".

 

قال المتهم: "أنا آسف.. أيام قليلة، بل ساعات وما تطلبه سيكون جاهزًا يا فندم".

انتهى المشهد، وانتهت معه استفساراتي العديدة عن الاحتكار الذي كنا نعانيه, وكيف أن كل صنف من التجارة يتحكم فيها شخص واحد أو اثنان، وعلمت خطورة تزاوج السياسة والمال, ومصيبة أن يكون رجال الأعمال هم رجال الحكم.

 

وجاء المشهد الثاني ليقطع حبل أفكاري؛ حيث رأيت فيه ما يلي:

رأيت اجتماعًا يضم إحدى الشخصيات البارزة وهذا المتهم تقول فيه هذه الشخصية المهمة: "اسمع.. إننا درسنا السوق ووجدنا أننا يمكننا توزيع الملايين من أحزمة مقاعد السيارات وخوذ الرأس للدراجات البخارية؛ ولذلك شرَّعنا قانونًا بمعاقبة كلِّ من لا يلبس خوذة على رأسه, أو لا يربط الحزام وهو في السيارة ولو كان يسير بسرعة 1 كم, والشحنة في الطريق، وما عليك إلا أن تراقب تنفيذ الشعب لهذا القرار وتوقيع الغرامة لمن لا يلتزم؛ وذلك حتى يتسنَّى لنا توزيع البضاعة بالسعر الذي نريده, ولا نريد تهاونًا مع أي أحد, واعلم أن ترقية أي واحد مرتبطة بكمِّ المخالفات التي سيجمعها".

 

قال المتهم: "أمرك يا فندم, ولقد جرَّبتَني سيادتكم في أمور مثل هذه كثيرة, وقد كنت عند حسن ظن حضرتك؛ منها تراخيص السيارات التي لا تُعطَى إلا بنوع معين من الطفايات, وغيرها من الاشتراطات التي تقرِّرونها ونحن نتابعها, والربح لكم.. المهم ترضون عنا سيادتكم".
قالت الشخصية الهامة: شكرًا.. انصرف ولا تتوانَ عن تنفيذ ما أمرتكم به.

 

يا لكم من ظلمة فجرة!!.. أهذا هو السبب؟! كثير من القوانين التي تصدرونها وراءها تمرير صفقة أو إجبار الناس على شراء سلعة معينة؟! يا لكم من ظلمة!!

 

حتى القروش القليلة في جيوب الفقراء تحتالون لأخذها, ألم يكفكم ما أنتم عليه من ثراء؟! ألم يكفكم ما اختلستموه من بيع أراضي البلد وممتلكاتها؟!

 

يا لكم من ظلمة!! يا لكم من ظلمة.. ظللت أصرخ ويرتفع صوتي حتى قال أحدهم: اصمت.. اصمت وانظر، نظرت فوجدت بساطًا يحمل رجلاً من أهل الشِّمال وجاء به واقفًا أمام المنصة.
وقف الرجل وهو يرتعد خوفًا وفرقًا وقد نكَّس وجهه إلى الأرض كأنه لا يريد أن يعرفه أحد.
نادى المنادي: ارفع رأسك حتى نرى وجهك.

 

رفع رأسه.. يا الله..!! إنه هو، إحدى الشخصيات المشهورة وأعمدة النظام.. ترى ما الذي جاء به؟.

 

نادى المنادي: ما جاء بك؟.

قال: لم آت برغبتي, ولكن جئت رغمًا عني؛ لقد حُملتُ على البساط, ونطق البساط قائلاً: "اعترف بكل ما اقترفته من آثام"، حاولت أن أمتنع ولكن لم أستطع.

 

نادى المنادي: إذن تكلَّم.

حاول الرجل أن يمتنع عن الكلام, ولكني وجدت فمه يُفتَح رغمًا عنه ويتكلَّم رغمًا عن إرادته, فقال: إنني رغم أني مصري, وفي الشهادة أني مسلم إلا أن جذوري اليهودية غلبت عليَّ، أو قُل إن اليهود استغلوا ذلك وجعلوني أعمل لصالحهم بدلاً من مصلحة وطني، وأوصلوني إلى منصبي لأنفِّذ خططهم لهدِّ الزراعة في مصر؛ ولذلك حوَّلت اهتمام المصريين عن زراعة الحبوب إلى زراعة الفواكه والفراولة, وأجهضت كل محاولة للاكتفاء من القمح, وأقنعت النظام- والذي كان يبحث عن مجدٍ شخصي- بأن نستصلح توشكى، وهي التي لا تصلح لشيءٍ بدلاً من سيناء، والتي لكل شيء تصلح؛ وذلك حتى تظلَّ سيناء خرابًا وتستنزف موارد الدولة في مشروع فاشل.

 

أدخلتُ المبيدات المسرطنة, قضيتُ على خصوبة الأرض, أفسدتُ زراعة القطن رغم أن مصر كانت الأولى فيه عالميًّا، لقد دمرت الزراعة، ولكن لا تلوموني؛ فقد كنت أعمل من أجل عقيدتي ذات الجذور اليهودية، لكن لوموا هؤلاء الذين سلَّموا لي أمرهم ولم يبحثوا إلا عن مصالحهم.

 

صرخت بأعلى صوتي: أيها الخونة.. أيها الظالمون.. دمَّرتم الصناعة واحتكرتم التجارة وأفسدتم الزراعة.. كل ذلك من أجل أن يعيش مئات في ترف وبذخ ويعيش الملايين في فقر ومرض, يا لكم من خونة!!

 

صرخت وقلت: أنزلوا بهم أشد العقاب، أروهم سوء العذاب.

نادى المنادي: كان دورك قادمًا للحساب, ولكن ما علاقتك بالمتهم الماثل أمامنا؟.

 

قال الرجل: ومن يحميني سواه؟!

صاح المنادي: صدقت وأنت كذوب.. هيئوا المتهم لدركةٍ أخرى من العذاب.

 

نظرت فوجدت المتهم قد وُضع في قفص حديدي يضيق عليه حتى تختلف أضلعه، ويحمى عليه حتى يصير نارًا موقدة, وهو يصرخ ويستغيث، ولكن لا مغيث.

 

نظرت إليه ولحجم الخيانة التي سمعتها ورأيتها, ولعظم الجرم الذي قام به لم أشفق عليه, وقلت: ذُقْ ما جنيتَه على الملايين.. إنك كبير المجرمين.