من صفات أهل الإيمان كما ورد في آخر آية من سورة الفتح: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) (الفتح: من الآية 29)، فلنراجع ما قاله العابدون العارفون، ولنفعل مثل ما فعلوا في جهاد مستمر حتى نبلغ الغاية من العباة ونحقق معنى العبودية.

 

1- تحقيق العبودية:

قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (الذاريات).

 

الله خالق الخلق، ولذا وجبت عبادته، والله مستغنٍ عن الخلق فوجب التجرد له، لا الخلق رازقوه بشيء ولا نافعوه في شيء بل: (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (الذاريات).

 

2- أداء واجب الشكر:

يحكي الله عن سليمان عليه السلام في سورة النمل يقول: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: من الآية 40).

 

وقال عن لقمان عليه السلام في سورة لقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12))، وقال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: من الآية 7).

 

3- بلوغ أحوال الكمالات:

أ- وذلك أن الاشتغال بالله- في حد ذاته كمال، شأنه أن يصل بالعبد إلى ذروة العزة، قال تعالى: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: من الآية 8)، وذلك أيضًا من أن الاشتغال بالله بإحسان اتباعه لنبيه، يصل إلى درجة المحبوبية عند الله تعالى، قال جل شأنه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران: من الآية 31).

 

فأما عن العزة فهي محققة له بذاته، وهي للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مكتسبة باشتغالهم به وبتحقيق العبودية له، وأما المحبوبية عند الله فحصولها متوقف على اتباع النبي فيما جاء به مما شرع الله لعباده، وإحسان هذا الاتباع.

 

وينتج عن ذلك- عن الاتصال الموصل للعزة- والاتباع الموصل لدرجة المحبوبية- أن يضاء القلب بالأنوار الإلهية.

 

وأن يشرف اللسان بالذكر والتلاوة.

وأن تتجمل الأعضاء بجمال الخدمة.

 

قال أحد العارفين: "من سرَّه أن يكون في خدمة الله سُرَّت جميع الخلائق بخدمته، ومن قرَّت عينه بالله قرَّت عيون الخلق بالنظر إليه".

 

ب- أداء العبادات أمانة، وفي أداء الأمانة كمال.

 

قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) (الأحزاب: من الآية 72)، والأمانة الدين كل الدين، والشرع كل الشرع.

 

قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) (النساء: من الآية 58).

 

ولننظر..

الله خلقنا في أحسن صورة، وضمن لنا الأرزاق بوفرة.. هل نعبده لقاء ذلك؟!

 

وعدنا الله على العبادة بالجنة، وضمن لنا فيها الاستقرار والخلود، هل نعبده لقاء ذلك؟!

 

الله غمرنا بفضله، فهو الخالق الرازق الموفق للعمل الصالح المكافئ بالجنة..

 

فأين أداء أمانة حملها الإنسان، لقاء أفضال الله وأنعمه السابقات؟!

 

روي أن أعرابيًّا دخل المسجد يصلي تاركًا ناقته خارجه دون قيد أو وثاق، وعجب الحاضرون من حسن صلاته وطول ركوعه وسجوده وطول إخباته ودعائه، وسارت الناقة مسارها، فلما انتهى خرج يتفقدها وقال: أديت أمانتك.. فأين أمانتي؟ وما لبث إلا قليلاً ينظر هنا وهنا حتى أقبل رجل يقود الناقة، وحلها له وهو يقول: (هذه أمانتك ردت عليك).

 

ولنا أن نلحظ في مجاورة هذا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال له: "احفظ الله يحفظك".

 

ج- أداء العبادات استغراق في حضرة المعبود سبحانه، ينقل العابد من دائرة الغرور إلى عالم السرور.

 

روي أن أبا حنيفة وقف يصلي، وناس من الناس قعود، فسقطت حية كبيرة تفرق لها الناس، ولم يتحرك أبو حنيفة، بل أتم صلاته فلما سئل في ذلك قال: ما دريت.

 

ولنا أن نقول: إنه الاستغراق.. حضور في رحاب المعبود سبحانه وتعالى بالكلية، لقد كان في عالم السرور.

 

ولنا أن نلحظ النسوة في سورة يوسف وشأنهن مع الفاكهة والسكاكين قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) (يوسف: من الآية 31).

 

ثم إن العابد غير المستغرق لاهٍ أو ممثلٌ، وفي الحديث الشريف تحديد واضح لدرجة قبول الأعمال: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا"، "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه الكريم".

 

وقال أحد العارفين:  "مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها".

 

قيل وما هو؟ قال: "محبة الله والإنس به".

 

لكل هذا نقول: لا يليق أن تؤدى العبادات على مستوى تنفيذ الأوامر، بل يجب أن تؤدى تلذذًا وحبًّا واسترواحًا.

 

كانت الصلاة راحةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"، وكانت قرة عينه صلى الله عليه وسلم في الصلاة: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "كنا نجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه".