عشنا معًا في رحاب بيت النبي صلى الله عليه وسلم مع حبيبته الطاهرة المحبة أمنا عائشة رضي الله عنها في مقالة "الثلوج الدافئة" ورأينا من بعيد صورة الحياة الجميلة التي تكون بين حبيبين يفهم كل منهما الآخر ويحبه ويقدره ويسعى لإسعاده دون أن يكدر صفو تلك الحياة تلك الأسباب المادية التي نعرفها أو قد يحسب البعض أنها قد تكون سببًا في تكدير صفو حياة الأزواج من ضيق في العيش أو غيرة من الزوجة أو انشغال الزوج بأمور كبرى قد ترقى لتحمل هم العالم بأسره.

 

تلك هي أمنا التي علمتنا كيف تكون الزوجة، وذلك هو نبينا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والذي كما أسلفنا في مقالتنا السابقة أكثر رجال العالم انشغالاً فهو النبي المرسل والمنوط به حمل رسالة الهداية للبشرية كلها وليس هذا فقط وإنما الذي كان يحمل هم البشرية في نفسه كالأب المشفق على أبنائه من الوقوع في النار " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) (التوبة).

 

 ومع تلك المهمة الشاقة، ومع هذا الأمر الجلل نجده صلى الله عليه وسلم أعظم زوج وأرقى إنسان في التعامل- ليس مع زوجة واحدة وإنما مع زوجات عديدات- تشعر كل واحدة منهن- رضي الله عنهن جميعًا- أنه زوج لها وحدها، وأن الوقت القليل الذي تقضيه معه يكفيها لأن تكون أسعد نساء الأرض كلهن، فلا انشغاله صلى الله عليه وسلم  وعظم مهمته في الحياة كان دافعًا للتقصير في حق زوجاته، ولا فقر الحال وشظف العيش الذي كانوا يعانونه سببًا في أن يخترن فراقه صلى الله عليه وسلم حين نزلت آية التخيير بينه وبين أن يمتعهن في الدنيا ويسرحهن سراحًا جميلاً.

 

إذن فما الذي حدث اليوم بين الأزواج رغم سهولة الحياة نسبيًّا ورغم الثقافة والتعليم؟
إن المشكلة من وجهة نظري تتوزع بين الطرفين مناصفة حين يبدأ كل منهما في ترديد كلمة "حقي".

 

 ودائمًا تكون الردود هكذا:

الزوجة: ما أجمل هذا الكلام وما أجمل العيش في رحاب الإسلام الذي حافظ على حق المرأة في الحياة الكريمة، وما أروع الزوج الذي يحافظ على ود زوجته فهو يلاطفها دائمًا ويبدأ معها حلو الكلام وحلو الفعال ويتمنى لها الرضا ويسألها دائمًا عما يسعدها ليفعله وما يضايقها ليحمله عنها، يساعدها في شئون البيت الذي تنوء بحمله، يشاركها في تربية الأولاد ولا يلقي بالعبء عليها وحدها، دائم الخروج معها ليجدد حياتها، يسعده قربها ولا يملها، لا يكفيه الوقت الذي يقضيه معها ولا يكاد الحوار بينهما ينتهي، تجمعهما الصداقة والأخوة كما يجمعهما الحب وبيت الزوجية، ثم تتنهد لتقول: ولكن هيهات هيهات!! أين ذلك الزوج؟ إنه كلام في الكتب.

 

الزوج: كلام رائع ذلك الذي تذكرونه عن البيت الذي يجب أن يكون، ولكن أين تلك الزوجة التي تفهم متطلبات زوجها دون أن يطلب؟ أين تلك الإنسانة التي تبدأ بالعطاء وحتما سيكون رد الفعل عطاءا أكبر منه؟ أين هي تلك التي كانت تتغنى بالسعادة فترة الخطوبة، فكنت أرى منها الوجه الجميل المبتسم دائمًا والصوت المنخفض والكلام الرقيق والحب الذي كنت أقرأه في عينيها والدفء الذي كانت تمنيني به والهموم التي كانت تحملها عني بكلمات طيبة، مما كان يجعلني في شوق جارف لتلك الحياة التي سأحياها معها، وإذا بي في النهاية أكتشف أنني تزوجت جلبابًا مظهره ينمُّ عن إنسانة واعية بأمور دينها وعالمة بشئون الحياة الزوجية تتقي الله في زوجها، بينما باطنه فيه العذاب والنكد والمطالب التي لا تنتهي والوجه المكفهر الضائق دائمًا بشئون البيت والأولاد والعيش والحياة ومن يحيونها، ثم يبتسم الزوج ابتسامة سخرية ويقول: إنها حياة نقضيها وستمر وليتني ما فعلتها وتزوجت، تلك هي لب المشكلة لا أحد يحاول البدء، كل طرف يبحث عن حقه هو، كل طرف يريد من الآخر أجمل ما عنده دون أن يبحث في نفسه هل قدم هو أجمل ما عنده أم لا، كل طرف يلقي باللوم على الآخر في تدهور العلاقة وتجمدها دون أن يحاول هو أن يذيب الجليد الذي تتراكم طبقاته يومًا بعد يوم.

 

وأهمس الآن في أذن حواء، ابنة عائشة وابنة خديجة، انظري إلى فعل أمك وتعلمي منها وإلا فلن يفيدك الندم ولن يفيدك العناد إلا بعدًا من زوجك وهروبه منك ما هو إلا رد فعل لتقصيرك معه وعدم فهمك لمسائل الزوجية وعدم تعلمك من أمك أطهر نسب تنتسبين إليه.

 

أختي الحبيبة إنك إذا فهمت طبيعة زوجك سهل عليك التواصل معه والتقرب إليه وكسب قلبه، إذا أردتيه أن يستمع إليك ويتوق إلى الحديث معك فكوني مستمعة جيدة له، افتحي له قلبك، شاركيه ما يهمه، لا تباغتيه بالسؤال أين كان؟ ولماذا تأخر بمجرد وصوله إلى البيت وإنما دعيه يستريح أولاً وقابليه بوجه طلق مهما كانت همومك ومتاعبك حتى يهدأ، وسيقوم هو من تلقاء نفسه بالفضفضة إليك بكل ما كان في الوقت المناسب، لا تكوني عونًا للشيطان عليه، استقبليه بابتسامة وكلمة ترحيب وحبذا لو بسلام حار وكوب من العصير البارد أو الدافئ حسب الوقت وحسب ما يحب، فاجئيه دائمًا بتجديد نفسك كما كنت تتفننين وتبدعين في ذلك في فترة الخطوبة، كلمات الحب والتودد والدلال إياك أن تغفليها فإنها كفيلة بإذابة الحجر لا الجليد، وكوني فيها كذلك متجددة، ولا تقولي ولماذا أبدأ أنا؟ لماذا لا تكون البداية عنده؟ إنه هو من أهمل وهو من كان السبب فيما نحن فيه اليوم؟ وأصدقك القول يا أختاه إنني حين بحثت في طبيعة الطرفين وجدت أن المرأة قد جبلها الله عز وجل على أن تكون هي دائمًا مصدر الحب والحنان والود والدفء في الأسرة، بل هي صمام الأمان فيما تقدمه من عطاء إنساني يحمي كل أطراف العائلة، وإنها حين تفتح باب العطاء دون سؤال عن القابل تسعد وتسعد كل من حولها وإذا قادها شيطانها فأخذت تسأل وتطلب وتتمنع وتفتح باب العناد فإنها تشقى وتشقي كل من حولها، تعلمي من أمك عائشة وهي تسأل حبيبها "من أكثر من تحب يا رسول الله؟" فيقول صلى الله عليه وسلم: "ولم يا عائشة؟" فتقول لأحب ما تحب؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: "عائشة"، ماذا تظنين يا حبيبتي وأنت تسألين زوجك حبيبك هذا السؤال؟ من أحب الناس إليك لأحبه لحبك له، إنه حتى لو لم يكن أنت لاستحى منك ومن أدبك وقلبك وملكت عليه فؤاده.

 

احرصي دائمًا على نظافتك الشخصية وحسن مظهرك أمامه- بل خاصة أمامه- واحرصي كذلك على أن تنهي المشكلة القائمة بينكما عند بدء الحديث فيها ولا تؤجلي مناقشتها إلا إذا طلب منك ذلك ورأيت أن الأمر سيستفحل بالتمادي في الحديث ولا تحاولي أن تنتصري لرأيك وفقط دون الرجوع إلى الحق إذا تبين خطؤك وإنما لا تستحي من الاعتذار وإبداء خفض الجناح.

 

لا تسألي لماذا تكوني أنت البادئة فأنت تملكين المفتاح بقلبك الكبير وعاطفتك التي فطرك الله عليها وسعة احتمالك وصبرك، أنت المؤهلة للبدء في إذابة الجليد وأنتِ المؤهلة للحفاظ على تلك المؤسسة المهمة وهي الأسرة المسلمة، أنت المؤهلة للبدء ولكن فقط استعيني بالله واحتسبي الأجر عنده فأنت بطاعتك لزوجك وحبك له والتودد إليه في رحاب طاعة هي بعد العبودية لله عز وجل فلا تضيعي أجرك باستعجال قطف الثمرة والندية مع الزوج الذي جعله الله سبحانه قوامًا عليك، ثم إياكِ إياكِ أن تشتكيه لأحد خاصة أمك أو أحد من أقاربك اجعلي مشكلاتكما دائمًا بينكما لا تتعداكما واحرصي على أن تنهي الأمر سريعًا فلا يبيتن وهو غاضب، وتحدثي عنه دائمًا بالخير خاصة أمام الأهل والمعارف، وتحدثي عنه بفخر، فقد قالت أمك من قبل حين تحدثت مع حبيبها المصطفى "حدثني حبيبي".

 

وإليك السر الكبير في نجاح أي علاقة زوجية وهو "شاركيه همه"، لتكن قضيته هي قضيتك، ليكن انشغاله هو انشغالك، ليسعدك فرحه ونجاحه وتقدمه، وليحزنك ألمه وخفقاته وغضباته، شاركيه عبادته، إذا جلس لتلاوة القرآن أحضري مصحفًا واجلسي بجانبه، أيقظيه لصلاة الليل وقومي معه، اطلبي منه الدعاء فدعاؤه لك بركة وتودد منك إليه، واستعيني بالله أولاً وأخيرًا فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء.

 

وإليك أخي الزوج كلمة قصيرة: لا تنس أن زوجتك هي أسيرة عندك فلتحسن أسرها ولتتقي الله فيها وكلمة حب منك كفيلة بأن تذيب كثيرًا من الجليد، وكلمة عطف منك تشعرها بأنك تقدر تعبها من أجلك وتقدر حملها لعبء أولادك وتقدر تقربها لأهلك من أجلك، سوف تجعلها تبذل المزيد والمزيد كي ترضيك، إن ما تفتقده المرأة عمومًا هو التقدير والشعور بما تبذله من مجهود لا يشعر به الزوج ودائمًا ما تقول إنه لا يشعر بي وبتعبي، فما فائدة أن أقدم له وهو لا يشعر أو يقدر؟ امنحها ثقتك بعض الوقت وتقرب منها تكن لك كل الوقت واجعلها صديقة لك تسر إليها بما يهمك وتستشيرها في أمرك، إذا قدمت لك شيئًا جميلاً فأثنِ عليها بكلمة رقيقة فلن تنساها لك، أثنِ عليها إذا اهتمت بنفسها وأظهرت الاهتمام بإسعادك بتجديد بيتها، أثنِ عليها أمام أهلك وأهلها فسوف ترى منها العجب، أظهر لها الاحترام أمام الأولاد حتى يحترموها ووجههم إلى طاعتها والبر بها فسوف يعود عليك ذلك إيجابًا، اعلم أن زوجتك يرضيها منك القليل فلا تبخل عليها به وتعلم من حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يسأل أمام خيرة الصحابة وفي حديث يردد على ألسنة المسلمين من أحب الناس إليك يا رسول الله فيقول صلى الله عليه وسلم "عائشة" فيقول عمرو بن العاص: ليس عن النساء أسأل بل عن الرجال فيقول عليه الصلاة والسلام "أبوها".

 

أسعد الله بيوت المسلمين وملأها خيرًا وبركة وجعلها ذخرًا للإسلام ولأمته التي تخطو أولى خطواتها لبناء حضارة جديدة تملأ الأرض عدلاً بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا.