نشرت جريدة الْأُمَّةِ الإلكترونية إِجَابَةً لأستاذنا الفقيه الدكتور محمد صلاح الصاوي، الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ورئيس الجامعة الدولية وجامعة مشكاة الإسلامية، عن سؤال بعنوان: هل طغاة الحكام أولى بالحق ممن ينكرون عليهم من الإسلاميين؟، وقد جاءت الإجابة طويلة بعض الشيء،  ونظرًا لأهميتها وحتى ينتفع بها أكبر عدد من القراء فقد رأيت اختصارها في النقاط التالية:


 غَالِب مَنْ يُنْسَب إليهم مثل هذا الموقف- موقف موالاة الحكام الظلمة في مقابل الإسلاميين- يُسَوُّونَ بين العلمانية وبين الانحرافات الجزئية التي طرأت على تطبيق الشريعة إبان الدول الإسلامية الغابرة!


ولنا تحفظ على هذه التسوية ابتداءً، ولكننا سننطلق في إجابتنا على هذا السؤال من التسليم الجدلي بها، سنفترض أننا نعيش واقعًا شبيهًا بما عاشتة الدول الإسلامية الغابرة، عندما تَقَلَّدَ الولاية فيها ظلمة وأئمة جَوْرٍ مُضِلٌّون، ثم نرى مدى مشروعية ما جاء في السؤال، من كون الظلمة والطغاة من الحكام والفلول أولى بالحق وأرضى لله ممن ينكرون عليهم من الإسلاميين؟ وأَنَّ مَنْ خرج عليهم من أهل الدين لا ينبغي أنْ نذرف عليهم دمعة واحدة! ولا أنْ تبقى في قلوبنا ذرة من تعاطف معهم، مهما استبد بهم الطغاة، وعربدوا في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟! ومهما كان فيهم من ديانة! وكان في الآخرين من ظلم ومن فجور؟!


وأسوق بين يدي الإجابة على هذا السؤال هذا الأثر، ثم أردفه ببعض التأملات والوقفات!  روى مسلمٌ في صحيحه أَنَّ الحجاج بن يوسف قتل عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وعَلَّقَهُ على مدخل الْمَدِينَةِ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فسَلَّمَ عَلَيْهِ،ثم قال أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُك إِلَّا صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر، وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ،....إِلى آخر الحديث  وبين يدي هذه القصة وقفات وثيقة الصلة بواقعنا المعاصر:


الوقفة الأولى: لم ير ابن عمر صواب موقف ابن الزبير في تعريض نفسه لسيف الحجاج وغشمه وظلمه، ولكن تخطئته لابن الزبير في اجتهاده لا تعني موالاته للحجاج اتقاء لشره وبطشه، أو تصديقًا له على كذبه، أو إعانة له على ظلمه، ولا تعني انتقاصه لقدر ابن الزبير أو الحط عليه، بل ظل على موالاته له، وثنائه عليه بخير ما يعلم، ورَدَّ على ما كان يتهمه به الحجاج زورًا وبهتانًا! واستعلن بذلك وهو يعلم أَنَّ مقامه هذه سيبلغ الحجاج لا محالة! وفي هذا يقول النووى رحمه الله (وَفِيهِ مَنْقَبَة لِابْنِ عُمَر لِقَوْلِهِ بِالْحَقِّ فِي الْمَلَأ، وَعَدَم اِكْتِرَاثه بِالْحَجَّاجِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَم أَنَّهُ يَبْلُغهُ مَقَامه عَلَيْهِ، وَقَوْله، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُول الْحَقّ، يَشْهَد لِابْنِ الزُّبَيْر بِمَا يَعْلَمهُ فِيهِ مِنْ الْخَيْر، وَبُطْلَان مَا أَشَاعَ عَنْهُ الْحَجَّاج مِنْ قَوْله: إِنَّهُ عَدُوّ اللَّه، وَظَالِم، وَنَحْوه، فَأَرَادَ اِبْن عُمَر بَرَاءَة اِبْن الزُّبَيْر مِنْ ذَلِكَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْحَجَّاج، وَأَعْلَم النَّاس بِمَحَاسِنِهِ، وَأَنَّهُ ضِدّ مَا قَالَهُ الْحَجَّاج .ا.هـ).


 الوقفة الثانية: أَنَّ الخلاف الفقهي حول مدى مشروعية الخروج على الظلمة وأئمة الجور وما استقر عليه السواد الأعظم من أهل السنة من النهي عن الخروج بالسيف، لا يعني أبدًا أن تتحول المشاعر إلى علاقة دافئة حميمة مع الظلمة والطغاة! وموادة لهم في الظاهر والباطن! ومشايعة لهم على باطلهم بالقول أو بالعمل! وفي المقابل معاداة للصالحين ومباينة لهم، وحط عليهم، وإغراء بهم، وفرح بما يصيبهم من العنت والبلاء بأيدي هؤلاء الظلمة والمبطلين، فتصبح المسافة بيننا وبين عبد الله بن الزبير أبعد بكثير من المسافة بيننا وبين الحجاج!! وإنَّ تقديم القضية على هذا النحو فيه من فتنة الناس في الدين والصد عن سبيل الله ما فيه!.


الوقفة الثالثة: أَنَّ الشريعة عندما نهت عن الخروج على الظلمة والطغاة لم تكن تقصد إلى مظاهرة الظلمة على ظلمهم، والاحتفاء بجورهم واستطالتهم على عباد الله، والتمكين لهم من رقاب المستضعفين وهم آمنون من سخط الله في الآخرة، كما أنهم آمنون من سخط المجاهدين والمحتسبين عليهم في الدنيا!
ولم تكن تقصد أن توطئ ظهور الأمة للطغاة، وتبيح لهم هذا التخوض الفاجر في الدماء والأموال والأعراض! ولا يمكن أن يكون مقصودها أَنَّ نعتقد أَنَّ الحجاج- الذي ألقى بعبد الله بن الزبير في مقابر اليهود- أولى بالحق! وأرضى لله منه!.


وإنما كان الذي قصدته أن تدفع بهذا مفسدة الفتن وإراقة الدماء التي تترتب على الخروج، مع بقاء الحرمة والتوقير لأهل الدين، سواء أكانوا مخطئين أم كانوا مصيبين! ومع بقاء الحط على الظالمين، والإنكار عليهم، والبراءة منهم ومن أفعالهم، سواء أكانوا حكاما أم كانوا محكومين!.


وحديثنا عن أئمة الجور إنما هو على سبيل التنزل في هذا المقام، وإلا فقد علم القاصي والداني أَنَّ خروج العلمانية والعلمانيين عن الدين أبعد بكثير من خروج الظلمة وأئمة الجور من المسلمين! وأَنَّ تبديل الشرائع أبعد عن الحق من إبقائها مع الانحراف في تطبيقها!

 


الوقفة الرابعة: لقد بلغت الفتنة في واقعنا المعاصر أن يفضي الخلاف بين الإسلاميين في ذلك إلى البراءة من أهل الدين، والحط عليهم، ومشايعة الطغاة عليهم، والفرح بما ينزله بهم الطغاة من فجائع وويلات تقشعر لهولها الأبدان! ثم نسبة ذلك كله إلى أهل السنة والجماعة! ونَعْتِهِ بأنه مذهب أهل الحق! ومثل ذلك لا يصح إلا إذا صح أَنَّ الحجاج- الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم!- أنه أولى بالحق من عبد الله بن الزبير الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحنكه بيده، وأثنى على أبيه وأمه!!


ولو كان هؤلاء المحتسبون ممن ينتحلون مذهب الخوارج في التكفير بالذنوب والمعاصي لأمكن قراءة هذا الموقف بشيء من التعسف! أَمَّا أَن يكون هؤلاء ممن ينتسبون في الجملة إلى السنة، وممن لم يعرفوا بانتحال عقائد الخوارج، ثم يظاهر عليهم العلمانية والعلمانيين فذلك أمر يعسر فهمه وتوجيهه!.


الوقفة الخامسة: كم تحزننا جرأة بعض هؤلاء على أعراض اخوانهم، في الوقت الذي يسلم فيه من أذاهم العلمانيون والحداثيون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة! وتلتمس لهم الأعذار في تسامح بالغ وتودد ظاهر! ويذكرني هذا بما روي عن سفيان بن حسين قال: ذكرتُ رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال: أغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فالسند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفتسلم منك الروم والسند والهند والترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا".

فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.