(12) الذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا

أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: "لِيَتَّقِ امْرُؤٌ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ ورفعه الطبري وأحمد بن منيع من حديث أم سلمة.

وأخرج سعيد بن منصور عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: بَكَى مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: «إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكُمْ بَرِيءُ، إِنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ فَأَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ مِنَّا فِي شَيْءٍ».

وأخرجه ابن بطة في الإبانة عن مُجَالِدٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: بَكَى فُضَيْلٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فذكره وفي آخره: «قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ».

(13) صدق التوكل وأثره على العبد

أخرج ابن أبي الدنيا عن أَبي قُدَامَةَ الرَّمْلِيِّ، قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ، وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾، فَأَقْبَلَ عَلَىَّ سُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ، فَقَالَ:

«يَا أَبَا قُدَامَةَ، مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ».

ثُمَّ قَالَ: «انْظُرْ كَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾، فَأَعْلَمَكَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ، وَأَنَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ يَمُوتُونَ، ثُمَّ أَمَرَكَ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾، ثُمَّ أَخْبَرَكَ بِأَنَّهُ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.

ثُمَّ قَالَ: «وَاللَّهِ يَا أَبَا قُدَامَةَ، لَوْ عَامَلَ عَبْدٌ اللَّهَ بِحُسْنِ التَّوَكُّلِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ لَهُ بِطَاعَتِهِ؛ لَاحْتَاجَتْ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ فَمَنْ دُونَهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مُحْتَاجًا، وَمَوْئِلُهُ وَمَلْجَؤُهُ إِلَى الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ؟».

(14) حسن الفهم للقرآن أنجاه من القتل

حكى ابن عبد ربه في العقد الفريد عن الأصمعي قال: بعث الحجاجُ إلى يحيى بن يَعْمَرَ، فقال له: أنت الذي تقول إنّ الحسنَ بنَ عليٍّ ابنُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لتأتينّي بالمخرَجِ أو لأضربنَّ عُنقك.

فقال له: فإن أتيتُ بالمخرِج فأنا آمنٌ؟ قال: نعم.

قال له: اقرأ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ إلى قوله ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾ فمن أقربُ: عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابنه بنته، أو الحسن إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟.

قال الحجاج: فوالله لكأني ما قرأتُ هذه الآيةَ قطُّ. وولاّه قضاءَ بلده (البصرة)، فلم يزل بها قاضيًا حتىِ مات.

وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: أَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ.

قَالَ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ سُورَةَ الأَنْعَامِ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ؟ قَالَ: صَدَقْتَ.

(15) عمر بن عبد العزيز يتفاعل مع الآيات

ذكر القرطبي عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ أَمْسَكَ بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَرَأَ ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ﴾، ثُمَّ يَبْكِي وَيَقُولُ:

نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ

فَلَا أَنْتَ فِي الْأَيْقَاظِ يَقْظَانُ حَازِمُ وَلَا أَنْتَ فِي النُّوَّامِ نَاجٍ فَسَالِمُ

تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ

وَتَسْعَى إِلَى مَا سَوْفَ تَكْرَهُ غبه كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ

(16) كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ لَا يَأْمَنُ

قال البيهقي في الشعب: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: سُئِلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ فِي قَوْلِهِ ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ لَا يَأْمَنُ؟ فَقَالَ: "إِذَا نَظَرَ إِلَى الْفَضْلِ فَرِحَ، وَإِذَا رَجَعَ حَزِنَ، حَتَّى يَكُونَ فَرِحًا فِي وَقْتٍ مَحْزُونًا فِي وَقْتٍ، كَحَالِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ".

(17) ما وصل إليه شقيق البلخي بعد عشرين سنة من التدبر

أخرج أبو نعيم في الحلية أن شَقِيقًا الْبَلْخِيَّ قال: «عَمِلْتُ فِي الْقُرْآنِ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى مَيَّزْتُ الدُّنْيَا عَنِ الْآخِرَةِ، فَأَصَبْتُهُ فِي حَرْفَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾».

يقصد بالحرفين قوله ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

(18) استجابة فورية للقرآن

ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن هشام بن حسان، قال: خرَجْنَا حُجَّاجًا فنَزَلْنا مَنْزِلًا في بعضِ الطريقِ فقرأ رجلٌ كان معنا هذه الآية ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾، فسَمِعْتُ امرأةً فقالت: أَعِدْ رَحِمَكَ اللهُ. فأعادَهَا، فقالَتْ: خَلَّفْتُ لِي في البَيْتِ سَبْعَةَ أَعْبُدٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ، لِكُلِّ بَابٍ واحِدٌ مِنْهُمْ».

(19) إمام القراء يفحم أحد المعتزلة

قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: «لَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ: أُرِيدُ أَنْ تَقْرَأَ: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى)، بِنَصْبِ اسْمِ اللَّهِ، لِيَكُونَ مُوسَى هُوَ الْمُتَكَلِّمَ، لَا اللَّهُ!

فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هَبْ أَنِّي قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ كَذَا، فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾؟ ! فَبُهِتَ الْمُعْتَزِلِيُّ»!.

معلوم أن المعتزلة ينكرون الصفات ومنها صفة الكلام.

(20) بشرى عجيبة لأهل الإيمان

أخرج ابن أبي الدنيا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: «مَا يَسُرُّنِي بِهَذِهِ الْآيَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ الْآيَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ؟».

يقصد أن الأسباب التي ساقوها لدخولهم سقر تدل على أنهم لم يكن فيهم خير قط، وهي قولهم ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾، وفي هذا بشارة لمن لم يكن بهذا السوء، وإن كان عنده بعض التقصير.

وبعد؛ إخواني، متى نحسنُ التدبُّرَ والتفكُّرَ في آياتِ الكتابِ العزيزِ، حتى نقفَ على مثل هذه اللآلئِ والدُّرَر؟ ما أرى ذلك يكون إلا لمن يقرؤه قراءةَ العبدِ الخاشعِ الذي يتلقَّى تعليماتِ سيدِه للتنفيذِ والتطبيق، فيحرصُ أن يفهمَ ليكونَ العملُ على بصيرة، جعلنا اللهُ من أهلِ البصيرةِ بالقرآنِ المتدبرينَ لآياته العاملين بأحكامِه، المنتفعين ببركاتِه وأنوارِه، حتى يُشَفِّعَه فينا يومَ العرْضِ عليه والوقوفِ بين يديه.