الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتم النَّبيِّين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فإن حسمَ الصراعِ والتحدِّي بين قوى الحق وقوى الباطل في هذه الحياة لم يكنْ ولن يكونَ إلا بالقوةِ الإيمانيةِ، إضافةً إلي القُوَى الماديَّةِ الأخرى، قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.

وقد وعد سبحانه -ووعده حق- بأن يكون ميراث الأرض لعباده الصالحين، وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

وأكد سبحانه أنه إن كان الاعتمادُ علي القوةِ الماديةِ وحدَها في هذا الصراع فمصيرُها حتمًا عاجلًا أو آجلًا إلي التهاوِي والهوانِ والأحزانِ، وهو ما لا يصح أن يقع فيه المؤمنون، قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

وعلى المؤمنين ألا يقفوا عندحدود الإعداد المادي على أهميته، وأن يجتهدوا في تحقيق أسباب القوة الروحية التي هي سر فلاحهم وأساس انتصارهم، وهذه القوةُ حين تتحقق في الفردِ تكون مصدرًا لقوةِ المجتمعِ الذي يعيشُ فيه،والأمة التي ينتمي إليها.

وتأتي مواسم الخير لتكون محطات تزود من تلك القوة الإيمانية الضرورية لمسيرة نصرة الحق، وها هي أيَّام العَشْرِ الأُوَل من ذي الحِجَّة -إحدى أهم تلك المحطات الإيمانية- تهلُّ علينا، حاملة بشائر الأجر، ونسائم الفضل، يستعد لها الموفَّقون، ويَسعد بها الطَّائعون، ويَطمع في بركتها الصَّالحون، فأين أنت في هذه الأيَّام العَشْرِ المباركة؟! وماذا أعددت لاستقبالها، واغتنامها، والتزوُّد فيها؟!.

فضيلة هذه الأيَّام والعمل الصالح فيها

أخرج البخاريُّ، وأبو داود، والتِّرمذيُّ، وغيرهم، عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ». فقالوا: يا رسول الله.. ولا الجهاد في سبيل الله؟! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

وفي رواية عند الطَّبرانيّ في الكبير: «مَا مِنْ أَيَّامٍ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ».

وفي رواية عند الدَّارميّ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلاَ أَعْظَمَ أَجْرًا، مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى».

وأخرج الطَّيَالِسِيُّ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: حضرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذُكر عنده أيَّامُ الْعَشْرِ، فقال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْعَمَلُ فِيهِ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ».

ذلك بعض ما أشار إليه حبيبنا المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فضيلة هذه الأيَّام، ولمَّا كان الصَّحابة -رضي الله عنهم- قد استقرَّ عندهم أنَّ الجهاد ذِروة سنام الإسلام، وأعظم الأعمال، فقد سألوا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العمل الصَّالح في هذه الأيَّام، هل يسبق في الأجر والدَّرجة تلك الفريضة الكريمة السَّامية؟ فبيَّن النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الجهاد لا يسبق العمل الصَّالح في هذه الأيَّام؛ إلَّا في حالة واحدة، وهي: أن يَخرُجَ المجاهد مخاطرًا بماله ونفسه فينال الشَّهادة، ويفقد المال، ولا يرجع بشيء.

وقد أخرج أحمد وغيره من طُرق يُقوِّي بعضُها بعضًا، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: كنت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذُكِرَتْ الْأَعْمَالُ فَقَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ» قالوا: يا رسول الله.. ولا الجهاد؟! قال: فأَكْبَرَهُ، قال: «وَلَا الْجِهَادُ؛ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تَكُونَ مُهْجَةُ نَفْسِهِ فِيهِ».

وأخرج ابن حبَّان عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ». قال: فقال رجل: يا رسول الله.. هُنَّ أفضلُ أم عِدَّتُهِنَّ جهادًا في سبيل الله؟ قال: «هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ ...» الحديث.

قال ابن رجب في فتح الباري: هذا الحديث نصٌّ في أنَّ العمل المفضول يصير فاضلًا إذا وقع في زمان فاضل؛ حتَّى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛ لفضل زمانه. وفي أنَّ العمل في عَشْرِ ذي الحِجَّة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره. ولا يُستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو: أن يخرج الرَّجل بنفسه وماله، ثمَّ لا يرجع منهما بشيء.

وقد سُئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الجهاد أفضل؟ قال: «مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ».

وسمع رجلًا يقول: اللَّهُمَّ اعطني أفضلَ ما تُعطي عبادك الصَّالحين. فقال له: «إِذَنْ.. يُعْقَرُ جَوَادُكَ، وَتُسْتَشْهَدُ».

فهذا الجهادُ بخصوصه يفضُلُ على العملِ في العَشْرِ، وأمَّا سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال؛ فإنَّ العمل في عَشْرِ ذي الحِجَّة أفضل منها. انتهى كلام ابن رجب.

ومن ثَمَّ اجتهد الموفَّقون في صالح الأعمال في هذه الأيَّام، وكان سعيد بن جُبَير -راوي الحديث عن ابن عبَّاس- إذا دَخل أيَّامُ العَشْرِ اجتهد اجتهادًا شديدًا؛ حتَّى ما يكادُ يَقْدِرُ عليه. (أخرجه الدَّارميّ).

وكان يدعو إلى عدم إطفاء السُّرُج، كِناية عن طُول القيام، وكثرة الأعمال الصَّالحة في هذه الأيَّام المباركة.

وهل هناك أفضل وأصلح من العمل على حقن الدماء المعصومة، ورد الحقوق المغصوبة، والقصاص من القتلة المجرمين، وبسط العدل بين الناس، ورفع الظلم عن المظلومين، ونصرة الحق المضيع، وتحقيق وحدة الأمة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾؟.

فأين أنت من هذا الخير العظيم؟! وأين أنت من الخصال العشر التالية في هذه العشر المباركة؟

(1)أين أنت من التَّعرُّض لنفحات رحمة الله في أيَّام العَشْرِ؟

أخرج الطَّبرانيُّ في الكبير وفي الدُّعاء، والبيهقيُّ في الشُّعَب وفي الأسماء والصِّفات، وأبو نُعَيم في معرفة الصَّحابة، والقُضاعيُّ في مُسند الشِّهاب عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْعَلُوا (وفي رواية: اطلبوا) الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ (زاد في رواية: كلَّهوَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ».

قال الهيثميّ في المجمَع: رواه الطَّبرانيّ، وإسناده رجاله رجال الصَّحيح؛ غير عيسى بن موسى بن إياس بن البُكير، وهو ثقة.

وأخرجه الطَّبرانيّ في الدُّعاء، والبيهقيّ في الشُّعب، وابن أبي الدُّنيا في الفرج بعد الشِّدَّة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اطلبوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ»، فذَكَرَه بمثله.

وأخرج الطَّبرانيّ في الكبير وفي الأوسط عن محمد بن مَسْلمة  الأنصاريِّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا».

قال الهيثميّ في المجمَع: وفيه من لم أعرفهم، ومن عرفتهم وُثِّقوا.

وأخرج الرَّامَهُرْمُزِيِّ في المحدِّث الفاصل عن محمد بن سعيد قال: لمَّا مات محمد بن مَسْلمة الأنصاريّ، وجدنا في ذُؤَابة سيفه كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي بَقِيَّةِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّ دَعْوَةً أَنْ تُوَافِقَ رَحْمَةً يَسْعَدُ بِهَا صَاحِبُهَا سَعَادَةً لَا يَخْسَرُ بَعْدَهَا أَبَدًا».

والتَّعرُّضُ لنفحاتِ رحمةِ الله يكون بكثرةِ الدُّعاءِ والسُّؤالِ في هذه الأوقاتِ الفاضلة؛ باعتبارها أوقاتِ إجابةٍ وتفضُّلٍ من اللهِ تعالى. فهل تحرص -أيُّها الأخُ الحبيبُ- على وِرْدٍ من الدُّعاءِ فيها؟ وهل تحرصُ على أن تجعلَ لدعوتِك ولإخوانِك ولأُمَّتِك نصيبًا موفورًا من الدَّعواتِ المباركةِ في هذه الأيَّام؟ وهل تَخُصُّ بمزيدٍ من صادقِ الدَّعواتِ إخوانَك المجاهدين أَهلَ الرِّباطِ في فلسطين وغيرها من ديارِ الإسلام، وإخوانك الثائرين الأحرار في ربوع البلاد؛ أن يحفظهم الله، وينصر ثورتهم، ويقطع دابر القوم الظالمين.

أسألُ اللهَ أن يوفِّقنا وإيَّاك لما يُرضيه، وأن يستر عوراتنا، ويُؤَمِّن روعاتنا، وينصر دعوة الحق بمنه وكرمه، إنَّه على كُلِّ شيء قدير.