من تراث الراحل الشيخ/ خيري ركوة

الحلقة الثانية: أثر الابتلاء على النفوس

عود على بدء؛ حيث الحديث حول بدايات الدعوة الإسلامية في الفترة المكية، والتي يمكن أن نسميها بفترة المخاض بما حملته من آلام، غير أن آلامها كانت بلا شك هي الدافع الرئيسي لميلاد نور عمَّ كافة أرجاء المعمورة؛ وهو ما يدفعنا إلي البحث فيما للابتلاء بالشدائد من آثار ومعطيات للنفس، والتي يمكن إيجازها في التالي:

1- فهي تنفي عنها الخبث الذي يلوث الظاهر والباطن.

2- وإنها تظهر الكامن من قواها الخيرة.

3- وتحدث التيقظ والتجمع في قوى النفس لحمل الأمور.

4- وتمدها باشتداد العود ليبقى ويصمد.

5- ويعطي النفس صلابة وصقلاً نتيجة المران بما تتعرض له من الشدائد.

إن الذين تتكرر ملاقاتهم للشدائد والمخاوف تصبح أمامهم هذه المخاوف لا شيء ذا بال؛ وهو ما يعبر عنه بأنهم قد كسروا حاجز الخوف، أو انكسر حاجز الخوف أمامهم، أما الذين لا يتعرضون للمخاوف تراهم يهلعون من سماعهم الحديث عما يخوف، فمن هنا يعيشون في رعب قبل تعرضهم له.

يُروى أن الإمام "أحمد بن حنبل"- رضي الله عنه- لما أدخل السجن في فتنة (خلق القرآن)، وعلم أنهم سيجلدونه لكي يقر بما يريد السلطان، شغله التفكير في هذا الأمر، وكان بجواره في السجن أحد الشطار "لص" مسجون، فقال هذا الشاطر: ما لي أراك مغمومًا يا إمام؟ فقال: أخاف ألا أتحمل لسع السياط، فأحمل على ما أكره، فقال له الشاطر: يا أحمد لا تخف، فإني جُلدت قبل ذلك أكثر من سبعين مرة؛ إنما هو- يا أحمد- السوط الأول، له لسعة، ثم ما بعده لا شيء فيه، لا تحس لسعًا، إن الشدائد تحدث المران، فيخفف السابق منها اللاحق، وتجربة الشاطر وغيره فيها البرهان.

6- وهي تبرز أهل الصمود وتميزهم من غيرهم، فهي كالريح تهتز الأشجار، فيتساقط عن أغصانها الورق اليابس، ويبقي الأخضر اليانع النصير تملؤه الحيوية والجمال مكتمل الغذاء والنماء يعطر الأرجاء ويسعد الأحياء.

7- وتميز أشد المتصلين بالله، وتبين دوام صلتهم بالله، فيعضد بعضهم بعضًا، ويعين بعضهم بعضًا على الطريق، فلا يشعرون بالوحشة وضراوة الغربة، وقد قال القائل:

جزى الله الشدائد كل خير      عرفت بها عدوي من صديقي

وهي الشدائد تظهر الواثقين في إحدى الحسنيين؛ النصر، أو الأجر، فإنه لا يقتحمها إلا مؤمن بأنه على سواء من الأمر، وقصد من الخير، فهو يتجه في طريق الدعوة وبلاءاتها لا يلتفت عن مقصده لنصرة دينه وإعلاء كلمة ربه، فلا يقبل المهادنة طمعًا في مغنم، ولا يركن إلى السلامة حرصًا على الراحة، ولا يتراجع عن عزيمته لقاء كسب عاجل، أو خوف امتحان آجل؛ بل هو مع من ينفرون في سبيل الله خفافًا وثقالاً، يرجون تجارة لن تبور، يرجون الله والدار الآخرة؛ فهو إما مغبَّر في سبيل الله، أو باكٍ من خشية الله، يتقحم الأهوال دفاعًا عن دينه، واثقًا في إحدى الحسنيين؛ حياة بنصر عزيز وفتح مبين، أو شهادة في سبيل الله بربح الأطهار وغنيمة الأبرار: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ (الحديد: 19).

إن إعداد مَن يحملون الأمانة يتطلب هذه المؤهلات من علم بالمهمة، واستعدادٍ لها، وصبرٍ في سبيلها، وتضحياتٍ ضِخامٍ لا يبخل في سبيلها بغالٍ أو ثمين من الأنفُس والأموال والمحابِّ والرغباتِ، ولا يستثقل أو يستصعب ما يلاقي من أجلها من مغارم وشدائد وآلام؛ لأن السلعة المطلوبة نفيسة وغالية، ودرجاتها سامية وعالية.

أجل، إنها لتعلو قيمة السلعة بما بذل فيها من ثمنٍ غالٍ كبير وعزيز، فإذا ما سلمت له هذه السلعة.. الأمانة.. الدعوة.. وقد بذل في سبيل قيامها وتمكينها هذه الغوالي.. كانت أثيرة لديه، عزيزة في نفسه، مكينة في قلبه، وعندها يحس بعظم ما ناله مقابل ما بذل من عطاء نفيس.

هذا الإحساس يتمثل في صبر لا يتسرب إليه ما يعكر نصاعة الإيمان المستقر الثابت، فلا يكون مستعبدًا في إسار ربقة التوزع النفسي؛ يمسك عن الخير، ويجزع عند الشر، كهذا الإنسان المزعزع غير المستقر بثقل الأمانة التي يحملها: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ (المعارج: 19- 21)؛ بل هو الذي تحرر من كل إسار يحول بينه وبين حمل الأمانة ومتطلباتها، فإن أصابه في طريقه شدة لا يجزع، وإن مسه في طريقه خير كان رحمة للعالمين.

إن الذين يُبتلون في دينهم إنما يجربون ويختبرون، من هم إذا مسهم الشر وأصابهم؟ إنهم يعدون لحمل الأمانة وحمل ميراث النبوات، سيسيحون في الأرض يفتحونها، وتُلقي إليهم بخيراتها وغنائمها؛ فماذا هم إذا ابتلوا بذلك؟ كيف هم إذا حكموا الناس وتولوا أمرهم؟ ولمع أمام أعينهم بريق الذهب والفضة؟ إنه يراد بهم أن يصقلوا، فيرحموا الناس، ويعلموا الناس، ويتعالوا عن مغريات الحياة، فلا يفتنوا بها لتستمر سيرتهم؛ كمثل ذلك الرجل الذي وُجِدَ في أرض المعارك في بلاد الفرس حُقًّا به من نفائس المعادن، ولم يره أحد، فوضعه في كنانته، وبعد انجلاء المعركة وتوزيع الغنائم جاء به إلى "عمر" الخليفة وسلَّمه له، لم يَسل له لُعابه، ولم تراوده عليه نفسه، إنها العفة والنفوس التي ربتها المحن والابتلاءات، فصدقت ونجحت، ومثل الصحابي الذي حضر المعركة فكان النصر، ووزعت الغنائم فنودي عليه ليتسلم سهمه في الغنائم فأبى، وقال للرسول- صلى الله عليه وسلم-: ما تبعتك لأجل هذا؛ وإنما تبعتك لأصاب بسهم هنا وسهم هنا- وأشار إلى مواضع عن جسده- فأقتل، فأدخل الجنة.. ثم قاتل حتى قُتل، فوجدوا الطعنات في الأماكن التي أشار إليها، فقال عنه: "لقد صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ".

يُبتلى أصحاب الدعوات ليمحصوا، وتصبح الدعوة من نسيجهم، حميمة إليهم، وتصير هي الأمانة العظمى التي يلتفون حولها لحمايتها من المعتدين والمفترين والكذابين والمحرفين والمخذلين والمشككين.. فمن يشعر بقيمة الأمانة مثل من يبذل فيها من دمه وأعصابه وراحته وأمنه ولذائذه؟ إنه يبذل هذا وغيره لكي ترى الدعوة متمثلة، مرغوبًا فيها، مضحًّى في سبيلها؛ حتى تبقى وتعلن شاخصةً في هؤلاء القدوات، الذين تتجسد فيهم سمات الدعوة وأماراتها وأخلاقها وقيمها، فيحيا بذلك من كُتِبت له سعادة الحياة، فيتلقاها الأتقى ويتجنبها الأشقى..

وحملة الأمانة والدعوة هؤلاء إنما مهمتهم ودورهم أن تبرز الدعوة، فيرون متحركين؛ لتكون الحجة ويكون البلاغ، وقد ينعمون بلذة النصر، وقد لا يكون لهم ذلك، فإن أمر انتصار الإيمان والحق في النهاية قد تكفل به وعد الله، ولا يشك المؤمن في وعد الله؛ لكن إن يبطئ هذا النصر فلمشيئة حكيمة فيها الخير للإيمان وأهله، وليس هذا الإبطاء للنصر ولاستمرار الشدائد إهمالاً للمؤمنين أهل الحق، فلا أحد أَغْيَرُ من الله على الحق وأهله: "من آذى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب".

ويكفي المؤمنين الذين تنالهم الفتن، وينزل عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارون من الله ليكونوا أمناء على هذا الحق، ويشهد الله لهم- بعد أن علم منهم- بأن في دينهم صلابة، فيختارهم للبلاء: "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ"، "يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء".

فيا لها من مكانة بها يعرفون، وعليها يُغبطون! فهل بهذه الأوسمة هم الأعلون المكرمون؟ أم الأذلون الخانعون المحقورون؟ ﴿فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَّتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: 33)، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا﴾ (طه:75). إن ذلك شأن المبتلين من المؤمنين الذين صبروا، وما وهنوا ولا ضعفوا، أما الذلة والضعة فلأولئك الجبابرة الفاتنين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ﴾ (المجادلة: 20).

 

أجل.. أجل.. إن حديث القرآن عن تاريخ الفتنة والابتلاء في آيات يتلوها المسلمون في أول منشأ الدعوة، وفي كل وقت يضعف فيه سلطان الدعوة؛ إنما يراد بهذا الحديث أن يربط الحاضر بالماضي، وأن يبين سنن الله الجارية على أمر الدعوات وحملتها من أهل الإيمان في كونهم قلة يُكاد لها، ويتربص بها، ويسلط عليها الاضطهاد والمحاصرة، ويضيق عليها الخناق، ويصب عليهم صفوف البلاء والمحن التي لا يصبر عليها إلا أولو العزم من الأنبياء والأصفياء من أتباعهم الذين اختارهم الله أوعيةً لدعوته، شهداء على خلقه، رحمةً على عباده.

 

وهذه الفترات من الزمن في حاجة إلى النماذج القادرة على هذا التحمل والاختيار والاختبار، فليكن عرض النماذج الأولى من التاريخ البشري أن لهؤلاء المسلمين وتسلية لهم وتسرية عنهم، فإنهم ليسوا أول من تعرض للمحن والابتلاء؛ ولكنهم يشاركون مَن سبقهم من الأولين السابقين، وكما قيل: "إن المصائب إذا عمت طابت وخف وقعها"، فما يكفي في إيمان أهل الرسالة الخاتمة أن يتركوا بلا فتنة لمجرد إعلانهم الإيمان بألسنتهم، وكيف يكون ذلك، وقد سبق في الرسالات السابقة في كل رسالة أن تعرض المؤمنون للفتنة؟ منذ الرسالة الأولى حتى رسالة عيسى- عليه السلام- التي تعرض فيها المسلمون بأن نُشرت أجسامهم بالمناشير، وقسطت جسومهم بأقساط الحديد ما بين لحم وعظم.. وهل يحسب المسلمون حملة الدعوة أن ينعموا بهداية الله إلى صراطه المستقيم ودخول الجنة، ولم يحدث معهم ما حدث مع الذين من قبلهم؛ إذ مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى قالت رسلهم: متى نصر الله؟

لا.. لن يكون ذلك حتى يسلكوا الطريق الصحيح، والذي من مقتضياته أن يتعرضوا مع إيمانهم للبلاء والمحن التي تزلزل من أعلنوا الإيمان لاختيارهم وتبين الصادقين فيهم من الكاذبين: ﴿... وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 213، 214).