يجب أن يكون الهدف الذي يرمي إليه المصلحون في العالم الإسلامي الآن واضحًا محدودًا مرتكزًا على أصول وقواعد ذات خطوات ومراحل، وإن الأصول الأساسية في نجاح الغاية وإنتاج الإصلاح أن نرمي إلى:

"تجديد حياة الأمم الإسلامية، وتدعيم نهضتها الحديثة على أصول إسلامية خالصة، وإنقاذ العالم كله بإرشاده إلى تعاليم الإسلام".

(1) فأما تجديد حياة الأمم الإسلامية: فمن المعلوم أن هذه الأمم قد مرت عليها من الأحداث والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها ما أفقدها حريتها ومجدها ومظاهر رقيها، وقضى على دولتها وسلطانها، وجعلها آخر الأمم في كل شيء، وتفصيل ذلك يطول، والداء مشترك والشعور متحد.

كل ذلك جرى على هذه الأمم وهي مهد الحضارة، وأمُّ المدنيات، ومنبع العلوم والمعارف، ومهبط النبوات والشرائع، على أنها مع شدة الضغط وقوة القهر لا تزداد على المحنة إلا صلابة، وكأنما تزيد الحوادث حيويتها الخالدة ظهورًا وقوة.

هذه الأمم المجيدة لا بد أن تعود إليها حريتها ولا بد أن يُبعث مجدها من جديد، وتتبوأ مركزها بين الأمم، ولا بد أن تساهم بنصيب في رقي الإنسانية حديثًا، كما وضعت لها أصول الرقي قديمًا، ولا بد أن يسعد العالم بروحانيتها من بعد، كما سعد بها من قبل ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ﴾ (التوبة: 32).

(2) وأما تدعيم النهضة على أصول إسلامية خالصة: فمن المعلوم كذلك أن الأمم الإسلامية بعد الحرب العالمية وقفت على مفترق طريقين: طريق المدنية الأوروبية بزخارفها ومظاهرها ومباهجها ومفاتنها ومتعها ونسائها وفضتها وذهبها، وطريق الحياة الروحية التي نبتت في الشرق، وأورقت في الشرق، وغذَّتها الفلسفات وباركتها النبوات، وكان ختام ذلك كله الإسلام الذى جعله الله رحمته الكبرى للعالمين. فأما بعض الأمم الإسلامية فقد خفي عليها جمال دينها، وأحاطت بها ظروف أبعدتها عن أصوله وفضائله، فتنكرت لعقائدها، ولبست أرواحًا غير أرواحها، واندفعت في تيار التقليد الأوروبي لا تلوي على شيء؛ حتى صارت شبه أوروبية في كل شيء، قوم تمَّ لهم ذلك، وقوم على إثرهم يسيرون، والموجة تطغى والسيل ينهمر.

ومن وراء هؤلاء أمم محيرة لا تدري في أي الطريقين تسير؟!

على أن الدعاية الأوروبية قد نجحت تمامًا في غزو الفكرة الإسلامية، وإحلال غيرها من الفكر المدنية محلها في مظاهر الحياة العامة، ولم تُبق بين المسلمين إلا قشورًا لا تنفع؛ ففي السياسة وفي القانون وفي الخلق وفي الاجتماع زاحمت الفكرة الإسلامية أفكارًا أخرى أضعفت قوتها، وأذهبت ريحها، وصرفت الأبصار عنها.

ومهمة الإخوان المسلمين أن يردوا الأمة إلى أصول الإسلام، وأن يحرروا العقول والأفكار من هذا التعبد المخجل للأفكار الأوروبية البحتة.

إن مدنية أوروبا ليست فيها من ناحية جمال إلا ناحيتها العلمية، وهذه لا يأباها الإسلام بل يحض عليها ويأمر بها، وما عدا ذلك فنحن في غنى عنه، وفي الإسلام خير منه لو كشف المسلمون عن أسراره وفهموه فهمًا صحيحًا، ذلك ما ننادي به و﴿للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم: 4-5).

(3) وأما إنقاذ العالم بإرشاده إلى تعاليم الإسلام: فمن المعلوم كذلك أن الإسلام يوم كانت له الدولة، ويوم سعدت بقبوله الإنسانية، ويوم تولى أبناؤه الغُر الميامين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه بإحسان قيادة العالم باسمه وعلى حكمه ورسمه؛ استفاض في الناس الخير، وانتشر بينهم الإنصاف والعدل، وتحققت أحلام الفلاسفة، وتساوت طبقات الأمم أمام القانون العادل الرحيم، وتذوقت الدنيا طعم الفضيلة، عملية شائعة لا كلامية مسطورة في بطون الكتب، وكان استعمار الإسلام للدنيا أبرك استعمار عليها؛ حتى أشاد بذلك المنصفون من الأوروبيين أنفسهم.

كذلك كانت الدنيا يوم حكمها الإسلام في فترة من الدهر يريد الله أن تكون آيته في كونه وحجته على خلقه إلى يوم القيامة، فلما دالت تلك الدولة وأُلقيت إلى الغرب مقاليد القيادة فغمر الدنيا بماديته؛ تبدلت الحال غير الحال.

وها أنت ترى آثار هذه المدنية الميكانيكية المادية أتلفت على الناس أرواحهم، وأضوت أجسامهم، وأفسدت أخلاقهم، وأقضَّت مضاجعهم، وأسالت مدامعهم، وأبعدت الهوة بين نفوسهم ومنازلهم ودرجاتهم؛ فاستفاضت الأحقاد والأضغان، وكثرت المشاكل والإحن، واستعرت الخصومات والفتن، ولم يبق قلب واحد ينعم بالهدوء والسكينة في أمة من الأمم التي أُرسل عليها شواظ هذه المدنية الناري، بل اشتعلت هذه القلوب بنيران الشكوك والأوهام والمطامع والآلام، ولا يزال الناس يكرعون من هذه الكأس، ويتغنون بجمال هذه المدنية رغم انهيار أصولها وتهدم أسسها في أعز مواطنها، وهذه أصولها السياسية تنهار بالدكتاتوريات، وأصولها الاجتماعية بفشو الآراء والمذاهب المتطرفة، والاقتصادية بهذه الأزمات التي أخذت بالخناق، والفكرية بتسخير العقل البشري واستغلال نتائج العلم والعرفان- وهما أجمل ما في هذه المدنية- في القضاء على المستضعفين والعدوان على الآمنين، وما قيمة علم لا فضيلة معه.

والعلاج الوحيد لإنقاذ الإنسانية وحل مشاكلها "الإسلام" ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة: 143).

------------

من سلسلة من تراث الإمام البنا، نقلاً عن جريدة (الإخوان المسلمين) الأسبوعية، العدد (47)، السنة الرابعة، 26 ذو الحجة 1355ﻫ/ 9 مارس 1937م