بقلم: أ. د. عبدالرحمن البر

 

جاء في الحديث المتفق على صحته أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، فَجَاءَ الذِّئْبُ فأَكَلَ أَحَدَ ابْنَيْهِمَا، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَجَاءَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ تَخْتَصِمَانِ فِي الْبَاقِي، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَلَمَّا خَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا؟ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ، قَالَتِ الصُّغْرَى: لِمَ؟ قَالَ: لأَشُقَّهُ بَيْنَكُمَا، قَالَتِ: ادْفَعْهُ إِلَيْهَا، وَقَالَتِ الْكُبْرَى: شُقَّهُ بَيْنَنَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى، وَقَالَ لِلْكُبْرَى: لَوْ كَانَ ابْنُكِ لَمْ تَرْضِي أَنْ تَشُقِّيهِ.

 

هذه القصة الصحيحة الدالة على ذكاء سيدنا سليمان ونفاذ بصيرته تكشف عن معنى واضح مهم، وهو أن الأم الحقيقية أحرص على بقاء ولدها الذي هو ثمرة قلبها ولو كان في حضن غيرها، وأن مدعية الأمومة يهون عليها أن يُذْبَح من تدَّعي بُنُوَّتَها له ما لم يكن في قبضة يدها وفي حجرها، ذلك أن الأم الحقيقية هي التي حملتْه وهْنًا على وهن، حملته كرهًا ووضعته كرهًا، فأخذ شعبة من نفسها، وخالط حبه شغاف قلبها، ولو استطاعت لقدمت من عمرها لتزيد في عمره، ومن عافيتها لتتم عافيته، وفي الحديث عند الإمام أحمد وغيره "إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ"، أي إنه يحمل والديه على البخل والجبن من أجله، ويصيبهما الحزن لما يُلِمُّ به من مصائب، وما ينزل به من شدائد، ومن ثم كانت علاقة الأم بولدها مضرب المثل في الرحمة وقوة العاطفة، وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب للناس مبلغ رحمة الله بعباده كان المثل الحسي الذي ضربه هو رحمة الأم بولدها، فقال فيما رواه الطبراني والبيهقي: "وَاللَّهُ أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ مِنْ أُمِّ وَاحِدٍ فَرَشَتْ لَهُ بِأَرْضٍ فَيْءٍ (أي أرض زال عنها الظل)، ثُمَّ لَمَسَتْهُ، فَإِنْ كَانَتْ شَوْكَةٌ كَانَتْ بِهَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَدْغَةٌ كَانَتْ بِهَا قَبْلَهُ".

ولذلك دائمًا ما يكون الولد أحد أدوات الضغط والابتزاز التي يمارسها المفسدون في الأرض على الأب أو الأم، سواء بطلب الفدية أو بتحقيق مصالح معينة، ويكون الأب أو الأم على استعداد لتحمل أية تبعات في سبيل الحفاظ على الولد، حتى إن الأم في قصة سليمان عليه السلام قبلت أن ينسب ولدُها إلى غيرها في سبيل الحفاظ على حياته، بينما رأينا المدعية بغير حق لا ترفض أن يُشَق نصفين.

وحالة الأم الشفيقة تلك تشبه من وجه ما حالة الإخوان المسلمين في هذا الوطن العزيز الحبيب مصر المحروسة، مع الثورة المجيدة التي رَوَوْها بدماء شهداء كُثر على مدى عقود طويلة قضوا في مواجهة الاستبداد والطغيان، ودفعوا في سبيل إيقادها وإشعالها أثمانًا باهظة من زهرة أعمارهم في غياهب السجون، ومن أموالهم التي صادرها الطغاة المفسدون، ومن حرماتهم وحقوقهم الإنسانية التي انتهكها الجورة الظالمون، وجاهدوا جهادًا مريرًا طويلاً وهم يغالبون الظلم والاستبداد، حتى استيقظت معهم الأمة، وتجاوبت مع صيحاتهم قلوب وعقول الأحرار في هذا الوطن العزيز، وخرج الشعب العظيم في ثورة بيضاء أسقطت نظام الطاغوت، وكان الإخوان هم النواة الصلبة لهذه الثورة والوقود الأساسي لها، في إنكارٍ لافتٍ للذات، وحرص واضح على الاندماج مع الشعب بكل أطيافه دون تمييز، فلم يرفعوا راياتهم، ولم يعلنوا شعاراتهم، ولم يستأثروا بشيء، بل أعلنوا أنهم جزء أصيل من أمتهم لا يتقدمون عليها ولا يتأخرون عنها، وكانت المنصة التي نصبوها ووقفوا يحمونها منصة الثوار من كل الأطياف، ورفضوا بكل قوة محاولات فصلهم عن الجماعة الوطنية، وأبوا بمنتهى الإصرار أن يدخلوا في حوارات منفردة مع أي كيان، وتواصلوا على مدار الساعة مع كل القوى الوطنية في الميدان ليكون قرار الميدان واحدًا على الدوام، وكان شبابهم في الميدان يتوزعون في أرجائه ويشاركون في جميع المناقشات والحوارات والفعاليات التي تجري فيه؛ للرد على كل من يحاول بث روح اليأس أو الإحباط بين المصريين، وهو ما جعل ميدان التحرير يستعصي على كل محاولات المجرمين لاختراقه بأي شكل من الأشكال، حتى سقط الطاغية بفضل الله يوم الحادي عشر من فبراير، وبقي الإخوان حريصين كل الحرص على وحدة الصف الوطني، ودعا فضيلة المرشد العام إلى استكمال حلقات الحوار من أجل مصر، وبقي الإخوان مع باقي القوى الوطنية مصرِّين على استكمال مطالب الثورة وتحقيق أهدافها.

وإزاء هذا كله كانت بعض القوى المشاركة في الثورة واقفة في مكانها، وبدلاً من أن تنهض مع الناهضين لبناء الأمجاد بعد أن زال الفساد اكتفت تلك القوى بمحاولات النيل من الإخوان والافتراء عليهم والوقيعة بينهم وبين جماهير الأمة، واستبدلوا بالثورة الشريفة ضد نظام مبارك الاستبدادي ثورة أخرى ضد شركائهم في الكفاح من الإخوان، متناسين عمدًا أو سهوًا أنهم كانوا النواة الصلبة للثورة، وفي الوقت نفسه بقي الإخوان- كعادتهم- على تماس دائم وتواصل تام مع جماهير شعبهم وأمتهم، واستمروا- كعادتهم- في توعية الأمة بالمخاطر التي تتهددها وبالطريق الذي ينبغي أن تسلكه الأمة نحو المستقبل للنهوض والرقي، وبقيت إحدى عيونهم قائمة على حراسة الثورة، والعين الأخرى تنظر للمستقبل وتتفحص طريق النهضة، ومن جملة ذلك إقامتهم لمؤسسة شهداء ومصابي الثورة، التي تعمل في هذا الصدد بعيدًا عن صخب الإعلام والظهور الفضائي الذي أدمنه البعض بحيث لم يعد الشعب يراهم إلا على الشاشات.

ولهذا كان من الطبيعي أن تمنح جماهير الأمة ثقتها للإخوان ليكونوا نوابًا عنها في أول انتخابات حرة نزيهة، ولم يشأ الإخوان أن يبددوا هذه الثقة أو أن يدخلوا مع غيرهم في صراعات لا معنى لها، فإذا اتهمهم أحد بخيانة الثورة قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وإذا اتهمهم أحد بالتخلي عن حقوق الشهداء والمصابين قالوا: نحن قوم عمليون لا جدليون، وإذا اندفع البعض في القول بأنهم ركبوا الموجة ولم يكونوا في الثورة! قالوا:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد     وينكر الفم طعم الماء من سقم

وقالوا:

وليس يصح في الأذهان شيء    إذا احتاج النهار إلى دليل

وإذا اتهموا بعقد الصفقات أجابوا بأن صفقتهم إنما عقدوها مع شعبهم الذي انحاز إليهم ورضي بمنهجهم، وإذا احتكر فرد أو فصيل الحديث باسم الثوار لم يشغلوا أنفسهم بالرد عليه، فالمهم عند الإخوان أن تستمر الثورة في طريقها المرسوم حتى تصل إلى غايتها وتحقق أهدافها، مع يقيننا أن بعضًا من هؤلاء الزاعمين أنهم ثوار ليسوا من الثورة في قليل ولا كثير.

وكثيرًا ما يسأل بعض المحبين: لماذا تسكتون على كل هذا الظلم الذي ينزل بكم؟، ولماذا لا تردون الصاع بمثله؟ وتكون إجابتنا دائمًا: إن مصر أعز علينا من أنفسنا، وإن بقاء الثورة وحياتها أهم عندنا من أن تنسب إلينا أو نُنسب إليها، وفي سبيل ذلك نحتمل أذى شركائنا والمسيئين إلينا، تمامًا كما قبلت الأم الحقيقية أن يبقى ولدها في حجر غيرها ما دام حيًّا.

فاصلة: إذا كانت ذاكرة البعض مثقوبة ولا تحتفظ بالوقائع فذاكرة شعبنا المصري العظيم لا تسقط شيئًا، ولذلك فشعبنا يذكر الذين طالبوا بأن يمتد حكم العسكر سنوات حتى تنظم القوى السياسية نفسها، فلما كشف الشعب عن خياراته تاجروا بدعوة العسكر لتسليم السلطة للمدنيين فورًا! كما يذكر الشعب أن أحدهم في يوم 27 يناير دعا إلى فتح باب الترشح للرئاسة فورًا لتهدئة المخاوف، وبعد عشرة أيام تقريبًا يوم 8 فبراير بعد أن أعلن عن فتح باب الترشح للرئاسة قال: من العبث انتخاب رئيس قبل انتهاء الثورة!!

اللهم احفظ علينا ذاكرتنا.

----------

* عميد كلية أصول الدين والدعوة بالمنصورة وعضو مكتب الإرشاد وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين