تمهيد:

منذ أكثر من قرن حسم الشعب الفلسطيني اختياراتِه السياسية لصالح إستراتيجية التحرير التي تقوم على المقاومة وردِّ العدوان؛ سواء تجاه الصهاينة في فلسطين، أو لمن مكن لهم من صهاينة بريطانيا؛ حيث تضافرت الأبعاد الدينية والأطماع الاستعمارية على ضياع فلسطين.

ولقد تزامنت المقاومة الفلسطينية مع بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر، وتصاعدت المقاومة مع تزايد الهجرة، ثم تحولت إلى عمل سياسي وعسكري وثورات ومظاهرات مع فرض الانتداب البريطاني، وتواصلت المقاومة الشاملة بعد قيام الكيان الصهيوني ولم تكسرها الحلول الاستسلامية منذ اتفاقية (كامب ديفيد) الأولى عام 1979م، وحتى مفاوضات الإذعان (أوسلو) و(مدريد)، وأخيرًا تلك التفاهمات التي تمت في جنيف 2003م، ولم توهن من مضائها متغيرات النظام الدولي من انهيار نظام القطبية الثنائية، وتلاشي حلف (وارسو)، وقيام ما سمي بـ"النظام الدولي الجديد" عقب حرب البترول الأولى "حرب الخليج الثانية 1991م"، كما لم تُثنِهَا حرب البترول الثانية في أفغانستان عقب تفجيرات 11 من سبتمبر، ولن تتوقف إستراتيجية المقاومة والتحرير حتى بعد سقوط النظام في (بغداد) عاصمة الرشيد، حتى تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة استقلالاً حقيقيًا على كامل أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وما هو على الله بعزيز.

وفي هذه السلسلة المتواصلة من المقالات نبين كيف أن المقاومة هي أهم ثوابت الشعب الفلسطيني، التي قد تخفت حينًا تحت مطارق الأزمات وتوالي العواصف التي تهب على أمتنا، لكنها (أي المقاومة) لا تتلاشى، ولا يتخلى عنها الشعب الفلسطيني كخيار إستراتيجي.
المقاومة الفلسطينية للاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية:

تعود بداية المقاومة الفلسطينية للوجود الصهيوني إلى أكثر من مائة عام، ففي عام 1891م قدم عدد كبير من وجهاء القدس مذكرة احتجاج إلى الصدر الأعظم في الأستانة، يطالبونه بالتدخل لمنع الهجرة اليهودية، وتحريم امتلاك اليهود للأراضي الفلسطينية، وكان انعقاد مؤتمر (بال) عام 1897م مقدمة لتأجيج المشاعر العربية والإسلامية؛ إذ وضع هذا المؤتمر الصهيوني القضية الفلسطينية في بؤرة القلق العربي والإسلامي.

ويعتبر الهجوم- الذي شنَّه الأهالي عام 1898م على مستوطنة أقيمت في منطقة (جرش)- أول عمل عسكري ضد الوجود الصهيوني، وشهد عام 1900م حملة ضخمة لجمع التوقيعات على عرائض تمنع بيع الأراضي للمهاجرين اليهود.

وتنوعت مظاهر المقاومة في تلك الفترة، فأُنشئت الجمعيات والأحزاب التي وضعت مقاومة الهجرة اليهودية على رأس برامجها، واختص بعض هذه الجمعيات في المقاومة الاقتصادية عن طريق تشجيع الاقتصاد الفلسطيني، وشراء الأراضي المهددة بالانتقال إلى اليهود، في حين اهتم بعضها الآخر بالجوانب السياسية، وعقد المؤتمرات الجماهيرية، وتنظيم المظاهرات، والقيام بهجمات على المستوطنات الصهيونية.

وتعود بداية السعي لتكوين مستوطن صهيوني في هذه البقعة من الأرض إلى سنة 1908م، حينما قدم وزير البريطاني اليهودي الصهيوني "هربرت صاموئيل" مذكرة اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا، شارحًا الفوائد الاستعمارية التي ستجنيها بريطانيا من قيام هذه الدولة في قلب العالم العربي، والقريبة من قناة السويس، وافق العديد من سياسيي بريطانيا على هذه المذكرة، أمثال: "لويد جورج"، و"بلفور".. وبذلك تكون قد التقت المصالح البريطانية والصهيونية في قيام هذا الكيان، وبدأت المباحثات في شكلها الرسمي بين الحكومة البريطانية والزعماء الصهيونيين في فبراير 1917م، وبعد عدة جلسات واقتراحات صدر تصريح "بلفور" في 2 من فبراير 1917م.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كان لابد أن تكون بريطانيا هي الدولة المنتدبة على فلسطين حتى تسهل لليهود هجرتهم إلى فلسطين، ثم تحقيق وعد "بلفور"، وفي عام 1918م أتمت بريطانيا احتلالها لفلسطين لتقيم فيه حكمًا عسكريًّا مؤقتًا.. وقبل أن تكمل القوات البريطانية احتلالها كان قد وصل إلى فلسطين اللجنة الصهيونية برئاسة "حاييم وايزمان"، ومهمة هذا الوفد تحقيق وعد "بلفور"، وفي عام 1920م أنهت بريطانيا الحكم العسكري، وأحلت محله الإدارة المدنية، وتم تعيين الوزير اليهودي البريطاني السير "هربرت صموئيل" أول مندوب سامٍ على فلسطين، وقد عمل "صموئيل" الكثير في سبيل تسهيل شئون الصهاينة.

في 24 من يوليو 1922م صدرت وثيقة صكّ الانتداب عن عصبة الأمم، وتضمنت مقدمة الصكِّ نصَّ تصريح "بلفور"، ومصادقة عصبة الأمم على انتداب بريطانيا لفلسطين.. وفي مواد النص العديد من الدعوات لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ولقد اعتبر الصهاينة النص بمثابة مصادقة دولية على وعد "بلفور"، ذلك أنَّ الوعد كان بريطانيًّا، أمَّا الصك فكان دوليًّا.

ومنذ صدور وعد "بلفور" عام 1917م، اتخذت المقاومة أشكالاً أكثر شمولاً وأكثر عنفًا، وكثرت المؤتمرات الشعبية، خاصةً بعد عقد المؤتمر الإسلامي الأول عام 1919م؛ إذ انعقد في الفترة (1919م- 1929م) أكثر من سبعة مؤتمرات تؤكد جميعها على ضرورة الوحدة العربية لدرء المخاطر الصهيونية، والسعي لنيل الاستقلال الوطني، واكتسبت المظاهرات التي اندلعت طابع العنف، وتخللتها صدامات مع الجنود البريطانيين، الذين اعتبرهم الشعب الفلسطيني مسئولين عن الوجود الصهيوني والهجرة اليهودية التي لا تتوقف، وكانت أهم تلك المظاهرات في أعوام: 1920م، و1921م، و1923م، و1924م.

وفي هذه الفترة أيضًا اندلعت عدة ثورات في فلسطين ضد الاحتلال البريطاني وضد الحركة الصهيونية، أهمها:

أ- ثورة (يافا) 1919م:

في 11 من مايو 1919م، ونتيجةً لازدياد أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، قام العرب الفلسطينيون بمهاجمة مركز الهجرة الصهيونية في (يافا)، لكن بريطانيا وقفت إلى جانب اليهود.

ب- ثورة 1920م:

وقد اندلعت احتجاجًا على وعد "بلفور"، وبدأت أحداثها في القدس، ثم امتدت إلى مختلف المدن الفلسطينية. وعلى الرغم من منع السلطات البريطانية للمظاهرات، فإنّ الفلسطينيين اعتادوا أن يستغلوا المناسبات الدينية، وخاصة موسم النبي "موسى"، ففي شهر إبريل 1920م احتفل الفلسطينيون كعادتهم بهذه المناسبة، وألقى عدد من وجهاء الحركة الوطنية خطابات حماسية، كان من أهمها: خطابات الحاج "أمين الحسيني"، و"موسى كاظم الحسيني"، و"عارف العارف"، وبعدها سارت جموع حاشدة في مظاهرات صاخبة، طافت شوارع القدس وهي رافعة صورة "فيصل بن الحسين" بصفته ملكًا لسوريا وفلسطين.

وحينما وصلت المظاهرة باب (يافا) في القدس وقع انفجار قوي، تبعه قذف الحوانيت اليهودية بالحجارة، واشتبك المتظاهرون مع اليهود، ثم مع الإنجليز الذين هرعوا لحمايتهم، وكانت تلك الأحداث بداية الهبة الشعبية التي استمرت أسبوعًا، لم تستطع السلطات البريطانية إخمادها رغم إعلان الأحكام العرفية، وترجع أهمية ثورة 1920م إلى كونها بداية الانتفاضات الشعبية الكبرى على الوجود البريطاني والتغلغل الصهيوني منذ العشرينيات من القرن العشرين وحتى الآن.

جـ- ثورة 1929م:

وشهد عام 1929م مظاهرةً عنيفة، اشتبك فيها المسلمون مع الصهاينة، الذين أرادوا اقتحام المسجد الأقصى وإقامة احتفالات دينية عند حائط البراق، وأسفرت تلك المظاهرات عن إنشاء جمعية حراسة المسجد الأقصى، التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية.

1- المقاومة الفلسطينية قبل 1948م (مقاومة التمكين لليهود في فلسطين):

دفع ازدياد الهجرة اليهودية بين عامين 1931م و1936م، وتدفق السلاح على الجماعات اليهودية، وسماح السلطات الانتداب لهم بإنشاء معسكرات للتدريب قادة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى عقد عدة اجتماعات قرروا فيها إعلان "الإضراب العام" من أجل دفع بريطانيا لوقف الهجرات اليهودية ومنح فلسطين الاستقلال، ورغم لجوء بريطانيا إلى أساليب وحشية إلا أن الإضراب استمر وتميز كأكبر إضراب في تاريخ فلسطين، وربما في تاريخ نضال الشعوب؛ حيث امتدت لمدة ستة أشهر، وفي هذه الأثناء تكونت خلايا مسلحة تعمل تحت قيادة الشيخ "عز الدين القسام" لكن اكتشفت القوات البريطانية مكان اختبائه فحاصرته وطالبته بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات حتى سقط هو وأتباعه المحاصرون شهداء، وزاد من لهيب المشاعر الفلسطينية رفض المندوب السامي البريطاني مطالب قادة الحركة الوطنية بوقف الهجرة اليهودية وتشكيل حكومة وطنية ومنع انتقال الأراضي لليهود، فاشتعل بذلك فتيل ثورة 1936م.

الشهيد "عزالدين القسام"

وعم الإضراب الشامل الأراضي الفلسطينية، ونشطت خلايا "عز الدين القسام" ومعها الجماهير الغاضبة في إثارة الرعب في المعسكرات البريطانية والتجمعات اليهودية، ومما زاد من توتر الأجواء اعتراض الصهاينة على إقامة مؤسسات للحكم الذاتي الفلسطيني.

وكانت ثورة 1937م بداية لسلسلة من الثورات العارمة عمت ريف فلسطين؛ حيث بدأت أحداث تلك الثورات بعد أن أصدرت لجنة بيل الملكية تقريرًا متحيزًا حول أسباب العنف الذي حدث إبان ثورة 1936م، فجاءت معظم توصيات اللجنة لصالح الحركة الصهيونية، وكان من بين توصياتها تقسيم فلسطين، وما إن عرف الفلسطينيون بذلك حتى قاموا بثورتهم مستفيدين من خبراتهم في ثورة 1936م، فقسموا المناطق بين القادة والتشكيلات وأقاموا جهازًا إداريًا وقضائيًا لجباية الضرائب وتنظيم التطوع والتموين وفصل الخلافات التي تحدث بين المواطنين.

ويمكن القول إن ثورة 1936م ثورة مدن دعمها الريف، في حين أن ثورة 1937 ثورة ريفية آزرها أهل المدن، والسبب في ذلك غياب معظم القيادات الوطنية خلف قضبان سجون الاحتلال البريطاني، واضطرار الحاج "أمين الحسيني" إلى مغادرة البلاد.

واتبعت السلطات البريطانية لإخماد هذه الثورة مختلف أساليب القمع التي مارستها من قبل إبان ثورة 1936م، فقصفت مناطق الثوار بالطائرات، وهدمت بالجرارات منازل المشتبه في تأييدهم للثوار؛ وهو ما أسفر عن سقوط أربعة آلاف قتيل وقرابة 12 ألف جريح.

وفي أبريل 1947م، أحالت الحكومة البريطانية ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، وأعلنت أنها عازمة على إلغاء انتدابها في مهلة أقصاها 15 من مايو 1948م، وفي 28 من إبريل شهدت منظمة الأمم المتحدة لأول مرة فتح ملف قضية فلسطين، الذي انتهى إلى قرار التقسيم إلى دولتين: يهودية وتشمل 56.4% من أراضي فلسطين، وعربية تشمل 46.6% من أراضي فلسطين، مع العلم أن العرب حينها كانوا يملكون 94.4% من أراضي فلسطين، واليهود كانوا قد استوطنوا في 5.6% من أرض فلسطين.

رحب اليهود بالقرار، وأعلن العرب الثورة المسلحة ضد تنفيذ المشروع، وبسبب هذا القرار نشبت الحرب في 15/5/1948م، كانت الحركة الصهيونية قد تمكنت من بناء قوة عسكرية كبيرة ضمن عدة منظمات عسكرية، أهمها: (الهاجاناه)، كما تمكنت بدعم من سلطات الانتداب البريطاني من إنشاء صناعة عسكرية، أما على الجانب الآخر فكان الطرف العربي مكونًا من الثوار الفلسطينيين، وجيش الجهاد المقدس، وجيش الإنقاذ، وقوات المتطوعين المصريين، الذين شكلت جموعهم حركة (الإخوان المسلمين)، التي هبت لنداء القدس غير أن سنن الهزيمة كانت أقوى من الرغبة في النصر.

وكانت نتائج النكبة مروعة إذ:

- ضاعت مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية تفوق ما نص عليه قرار التقسيم.

- قامت دولة الكيان الصهيوني فوق أنقاض الدولة الفلسطينية.

- هجرة آلاف الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، وظهور مأساة اللاجئين، واستمرار معاناتهم حتى الآن.

- تغيرت خريطة الحكم في المنطقة العربية، وقامت عدة ثورات عقب الهزيمة المُرّة، كلها كانت بحجة الدفاع عن فلسطين، إلا أن معظمها هو الذي حمى حدود الدولة العنصرية، وتكفل بسحق من دافعوا عن فلسطين قديمًا، ومن يفكر فيها بعد ذلك.

2- المقاومة الفلسطينية بعد 1948م (مقاومة مؤسسة "الدولة" الصهيونية):

دخلت المقاومة الفلسطينية طورًا جديدًا بعد حرب 1948م، فقد أصبح لزامًا عليها مقاومة دولة ذات مؤسسات أمنية وعسكرية، بعد أن كانت تقاوم عصابات صهيونية مدعومة من قبل الاحتلال البريطاني، ومن ثم فقد أضحت المقاومة أشد كلفة من ناحية ما ترتبه من تضحيات؛ إذ انتقلت من مواجهة "إرهاب العصابات" إلى "إرهاب الدولة"، ولم تكد تمر ثماني سنوات حتى شهدت المنطقة العدوان الثلاثي، بعدها طالبت مختلف القوى السياسية الفلسطينية بضرورة إعادة المقاومة المسلحة، فكان الإعلان عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، التي أعلنت عن أولى عملياتها عام 1965م.

وعادت الجماهير العربية تطالب بمحو آثار الهزيمة، ووجدت المقاومة الفلسطينية المناخ العربي العام مهيأ لمساعدتها، فتحسنت علاقة الأردن بمنظمة التحرير، وانطلقت من الأراضي الأردنية بعض العمليات العسكرية ضد الكيان الصهيوني، وقد خشيت المملكة الأردنية الهاشمية من ردود الأفعال الصهيونية إزاء هذا الوضع، فتهيأ المناخ لعمل ما يكون ذريعة لخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، فكانت أحداث سبتمبر عام 1970م، التي أسفرت عن خروج فصائل المقاومة الفلسطينية عام 1971م من الأردن على مرحلتين لتكون محطتها التالية في بيروت.

وبعد عدة عمليات ناجحة، شنتها المقاومة على الكيان الصهيوني من الأراضي اللبنانية، كان الرد الصهيوني عنيفًا، فقد اجتاح جيش الدفاع الصهيوني بيروت، واشتبك مع المقاومة، ودارت بينهما حرب شوارع، وفرض الجيش حصارًا خانقًا على تلك الفصائل، اضطرت في نهايته إلى القبول بالشروط "الصهيونية"، بعد وساطات عربية ودولية، وكانت تلك الشروط قاسية ومؤثرة على نهج المقاومة؛ لأنها أبعدت المقاومة من الخطوط الأمامية، فحلت الفصائل، وانتقلت المنظمة إلى تونس لتمارس من هناك عملاً آخر، ساحته موائد المفاوضات، بدلاً من خنادق الحروب، وإن ظل الشعب الفلسطيني في الداخل على وفائه لخيار المقاومة.