في ذكرى وفاة آخر خليفة للمسلمين

في مثل هذا اليوم 10 فبراير 1918م  توفي خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى الذي حينما يذكر , تذكر فترة بالغة الأهمية من حياة الأمة الإسلامية، ذلك السلطان الذي كان يقول: «القوة الوحيدة التي ستجعلنا واقفين على أقدامنا هي الإسلام.. لسنا أمة تنازع، إننا أمة قوية، بشرط أن نكون مخلصين لهذا الدين العظيم، إذا كنا نريد أن نحيا من جديد وأن نستعيد قوتنا ونبلغ عزتنا التي كنا فيها، علينا أن نرجع إلى المعين الذي أخذنا منه، فالخير كل الخير في رجوعنا إلى إسلامنا وإلى شريعتنا، والشر كل الشر في تقليدنا للحضارة الأوروبية الزائفة".

إنه صاحب مشروع الوحدة الإسلامية، والحنكة السياسية، والغيرة الإسلامية، والإصلاح التعليمي والاقتصادي؛ مما فتح عليه تكالب البعيد والقريب حتى لا يحقق مبتغاه، لينتهي حكمه بعد ثلث قرن من الزمان، فقد اعتلى عرش السلطنة العثمانية في ظروف حرجة بعد خلع عمه عبدالعزيز عن العرش، ثم انتحاره بشكل غامض، ثم جنون أخيه الأكبر مراد الخامس وسجنه، وقد تولى العرش في 31 أغسطس 1876م، وهو نفس اليوم الذي خلع فيه السلطان مراد الخامس، ثم خلع هو عن العرش في 27 أبريل 1909م، وتوفي في 10 فبراير 1918م.

ورث السلطان عبدالحميد دولة مثقلة بالضعف والديون والإفلاس والامتيازات الأجنبية المدمرة، لكنه لم ييأس أو يستسلم أو يساير أعداء دولته، فكان يتحرق للإصلاح، وتمنى أن تتركه الدول الأوروبية الحاقدة وشأنه، ليتفرغ إلى الإصلاح الداخلي، وكان يقول بكل براءة وصدق: إن توقف التآمر الخارجي المعادي كاف لتوفير المال والوقت لإنجاز الإصلاح المطلوب، وكان يكابد أيضاً في إقناع أبناء أمته ألا يكونوا مطية للأجنبي المتآمر، وأن يبقوا متمسكين بدينهم مخلصين لأمتهم عاملين بصدق من أجل النهوض والتقدم.

سياسة مالية إصلاحية

مما يحسب للسلطان عبدالحميد تمكنه من إدارة الاقتصاد العثماني بصورة رشيدة وفاعلة، سواء فيما يتعلق بالسياسة المالية أو النقدية أو التجارية أو الهيكلية؛ ففي السياسة المالية خرج بالدولة من عمق الإفلاس إلى رحاب السداد والأمان بأقل تسوية ممكنة، بعد ميراثه من أسلافه ديوناً فُرضت عليه فرضاً، فعندما تولى السلطان عبدالحميد الحكم كانت الديون العمومية تقرب من 300 مليون ليرة، وقد وُفق في تخفيضها إلى 30 مليون ليرة؛ أي إلى العشر، وذلك بعد دفع ما تطلبته حربان كبيرتان وسحق بعض تمردات داخلية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل اعتمد بعد ذلك على سياسة مالية إصلاحية من خلال الضرائب وترشيد الإنفاق ومحاربة الرشوة وتقنين الهدية.

ومما يذكر في السياسة التقشفية للسلطان عبدالحميد قيامه بتقليص كوادر القصر ونظارتي الداخلية والخارجية بصفة خاصة، وكذلك تقليص رواتب الأمراء والنظار بصفة عامة، وإحالته مصاريف القصر إلى الخزينة الخاصة بدلاً من خزينة الدولة، ووضع الميزانية تحت إشراف لجنة للإصلاح المالي للنظر فيها قبل أن تعرض على مجلس النظار.

كما يُذكر للسلطان عبدالحميد رفضه أكبر رشوة لتسديد جميع ديون الدولة العثمانية، وإنهاء مشكلاتها المالية، مقابل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وقال قولته المشهورة لـ”هرتزل”، زعيم الحركة الصهيونية، وللحاخام “موسي ليفي”: “إن أراضي الوطن لا تباع، إن البلاد التي امتلكت بالدماء لا تباع إلا بالثمن نفسه”، فما كان من تلك الحركة الخبيثة إلا أن استخدمت هذا المال الخبيث في شراء الذمم، وتدبير المؤامرة لخلعه، والقضاء على الخلافة العثمانية.

الاكتفاء الذاتي

كما اتبع السلطان عبدالحميد سياسة نقدية قائمة على الليرة الذهبية والفضية، وإلغاء نظام القوائم، فضلاً عن التوجه نحو إنشاء المصارف.

كما اتبع السلطان عبدالحميد سياسة تجارية قوامها التجارة الداخلية لتلبية حاجات الدولة، وكان الاكتفاء الذاتي من الغذاء هو عنوانها، من خلال الحفاظ على مكانة التجارة بين ولاياتها، بينما كانت التجارة الخارجية قليلة الأهمية في الحياة الاقتصادية العثمانية، وهو الأمر الذي يعكس القدرة الاستقلالية للدولة العثمانية باعتمادها على ذاتها، بينما ما زالت الدول القُطرية العربية منذ مؤامرة القضاء على الخلافة العثمانية تعتمد على غيرها في تلبية حاجاتها وفي مقدمة ذلك الغذاء.

ومما يُذكر للسلطان عبدالحميد سعيه الدؤوب لإلغاء نظام الامتيازات الأجنبية الموروث دون جدوى، حيث حالت الدول الكبرى دون تمكينه من ذلك في ظل ما أسمته بحقوقها وفقاً لهذا النظام، ذلك النظام الذي جعل الأجانب يسرحون ويمرحون في الدولة العثمانية على حساب الرعايا من تجارها، حتى سيطر التجار الأجانب على التجارة الخارجية وفقاً للامتيازات الممنوحة لهم، وهو ما أفقد الدولة العثمانية استقلال قرارها الاقتصادي في هذا الشأن، وأضعف من موقف رعاياها من التجار، وحال بينها وبين تطوير صناعاتها، في ظل رغبة الدول الكبرى أن تكون مورداً للمواد الخام وسوقاً رائجة لتسويق منتجاتها تامة الصنع، فضلاً عن حرمان خزائن الدولة من موارد مالية كانت في أمسّ الحاجة إليها، مما أوقعها في فخ الاستدانة بالنهاية.

كما اتبع السلطان عبدالحميد سياسة هيكلية غلب فيها قطاع الزراعة، في ظل ما تعرضت له الدولة من قيود الامتيازات الأجنبية، وغلّ يدها في التصنيع من قبل الدول الأوروبية، وقد شهد عهده توسعاً ملحوظاً في الأراضي المزروعة، وهو ما لم يقتصر أثره على الاكتفاء الذاتي فقط، بل امتد إلى زيادة الصادرات.

وقد اهتم السلطان عبدالحميد بسبل التمويل والتسويق للقطاع الزراعي، ويرجع إليه الفضل في إنشاء المصرف الزراعي لتوفير التمويل اللازم للمزارعين، كما كان التطور بمد السكك الحديدية مفتاحاً مهماً في تسويق المنتجات الزراعية من خلال تيسير نقلها، كما ساهم في التسويق أيضاً لإنشاء الجمعيات الزراعية، والتنسيق مع الغرف التجارية العثمانية في أوروبا.

ومما يحسب للسلطان عبدالحميد -أيضاً- في القطاع الزراعي وقوفه بقوة ضد الرغبة الاستعمارية لتحويل الدولة العثمانية إلى مستعمرة مواد أولية خادمة لمصالح الدول الغربية، بتغيير نظام الإنتاج الزراعي فيها ليكون نظام المنتج الواحد، فحرص على تفعيل الملكيات الصغيرة والمتوسطة للأراضي الزراعية، وتفعيل التنويع في المنتجات الزراعية، وهو ما وفر الأمن الغذائي في الدولة العثمانية، بل وفتح باب التنافس لمنتجاتها في عقر الدول الأوروبية.

وإذا كانت الدول الأجنبية استخدمت سلاح الامتيازات الأجنبية، حتى لا تبارح الدولة العثمانية مكانها في التصنيع، والحيلولة دون حماية صناعتها التحويلية، فإنها من جانب آخر وجهت وجهتها نحو الصناعة الاستخراجية في الدولة العثمانية لتحقيق مصالحها وتوفير احتياجاتها من المواد الأولية، بل استخدمت أساليب غير شريفة للتنقيب عن البترول، وفي مقدمة ذلك إنجلترا وألمانيا اللتان كشف السلطان عبدالحميد عن ألاعيبهما ووقف لهما بالمرصاد -وليس كما نرى من دول عربية قُطرية في واقعنا المعاصر سخرت مواردها لصالح الأجنبي- وقد كان موقف السلطان عبدالحميد هذا من أسباب عزله.

الاهتمام بقطاع الخدمات

كما كان لقطاع الخدمات دوره في عهد السلطان عبدالحميد لا سيما ما يتعلق بالمواصلات والاتصالات والتعليم والصحة، وقد استفاد السلطان عبدالحميد من الاستثمار الأجنبي في بناء شبكة متنوعة من السكك الحديدية وفقاً لمصالحه ودون التفريط في سيادة الدولة أو ثرواتها.

ومن أبرز ذلك مشروع سكة حديد بغداد الذي كان نموذجاً لمعالجة عجز التمويل، من خلال الاستفادة من التنافس بين الأوروبيين في بناء السكك الحديدية بالدولة العثمانية في ظل الضمانة الكيلومترية التي تقدمها الحكومة العثمانية، التي تكفل حداً أدنى من الإيراد للمستثمر؛ وهو ما جعل من الاستثمارات الأجنبية تتركز في السكك الحديدية التي مثلت الاستثمارات الأجنبية فيها ثلثي الاستثمارات الأجنبية في الدولة العثمانية.

وكان من نتيجة ذلك أن تضاعفت السكك الحديدية في عهده أكثر من ثلاثة أضعاف، وزاد إيرادها عشرة أضعاف تقريباً، والتوجه نحو تحقيق السلطان عبدالحميد لأهدافه من إنشاء السكك الحديدية بتعمير المناطق البعيدة، وتفعيل الزراعة فيها، ومن ثم زيادة العائد الضريبي المتولد عنها، وربط مناطق الدولة ببعضها، وسهولة نقل الجنود وتحركهم، فضلاً عن تشجيع التجارة وتيسير نقل المنتجات.

وإذا كان التاريخ يثبت أن المهندس الحقيقي لمشروع بناء سكة حديد بغداد هو السلطان عبدالحميد، فإن التاريخ نفسه يثبت أيضاً أن المهندس الحقيقي لأعظم مشروع ديني وأممي ووحدوي وخدمي، وهو مشروع سكة حديد الحجاز هو السلطان عبدالحميد، ذلك المشروع الذي تم بتمويل إسلامي خالص من حملة التبرعات التي وجهها السلطان لجميع مسلمي العالم، وبدأ بها بنفسه، ولقي قبولاً واسعاً في أرجاء العالم الإسلامي، بغرض تسهيل وصول الحجاج للديار المقدسة، لتحقيق فكرة الجامعة الإسلامية التي تبناها السلطان عبدالحميد، فضلاً عن الاستغناء عن قناة السويس التي كان يسيطر عليها الاحتلال البريطاني في مصر، إضافة إلى الأغراض العامة لإنشاء السكك الحديدية.

ولم يتوقف طموح السلطان عبدالحميد عند ذلك، بل كان يسعى لربط خط بغداد بخط الحجاز، ولكن أبت اليد الاستعمارية استكمال مشروعه الحضاري والوحدوي الإسلامي، وقضت “سايكس بيكو” على ما تبقى من هذين المشروعين.

ولم يقتصر الأمر بعهد السلطان عبدالحميد في مجال المواصلات على خدمات السكك الحديدية، بل يرجع الفضل إليه في جعل إدارة المواصلات البحرية بيد شركة عثمانية خاصة دخل فيها رأس المال الأجنبي ولكن تحت إشراف نظارة البحرية، بعد أن كانت منذ عهد التنظيمات الخيرية بيد الشركات الخاصة العثمانية والأجنبية، كما عمل على زيادة عدد السفن البخارية، واهتم بإنشاء العديد من الموانئ، وفتح المجال لتأسيس الشركات والخطوط الملاحية للقضاء على الامتيازات الملاحية البريطانية في المياه العراقية، بل درس عمل قناة جديدة منافسة لقناة السويس التي كانت ترزح تحت الاحتلال البريطاني.

كما يرجع الفضل إلى السلطان عبدالحميد في إدخال السيارة والترام وتعبيد الطرق؛ حيث كان يتم تعبيد أكثر من 800 كيلومتر في السنة وإصلاح 450 كيلومتراً أخرى.

وامتدت اهتماماته لوسائل الاتصالات وفي مقدمتها البريد الذي كان فريسة للامتيازات الأجنبية، كما أدخل التلغراف في كل أرجاء الدولة، وعمل على تصنيعه بأيد عثمانية، وأدخل الهاتف.

كما قام بمد قساطل المياه (مياه الحميدية) التي أنقذت إسطنبول من العطش، وقام كذلك بتجارب بناء الغواصات في إسطنبول من ماله الخاص.

وفي التعليم، حقق نهضة تعليمية رشيدة، من خلال الأخذ بعلوم الغرب الحديثة تدريجياً مع عدم المس بالثقافة الإسلامية.

وفي الصحة، اهتم بالصحة العامة والبحث العلمي فيها، وبناء المستشفيات، فضلاً عن دور العجزة.

ويكفي السلطان عبدالحميد أنه كان سياسياً مفكراً عاملاً؛ حيث حذر أبناء أمته من البطالة، والعيش في ثوب الوظيفة الحكومية، وضرب مثلاً بنفسه للاقتداء؛ فقد كان منذ صغره نجاراً ماهراً، ومستثمراً ناجحاً، وحثهم على العمل والإنتاج، باعتبار ذلك قوام الدول وسر نهضتها وقوتها، وفي سبيل ذلك فتح الباب للمشروعات الصغيرة والكبيرة على السواء؛ لتمارس نشاطها، وتسهم بدورها في علاج البطالة، وتلبية حاجات البلاد، والتصدير للخارج، في ظل تآمر دولي لم ينقطع، وإرادة حميدية لم تتراجع، وإدارة علمتها التجارب الصمود، وأن التمسك بالإسلام هو الخلاص للأمة، فعلم أعداؤه قدرته على النهوض بالدولة التي كانت في طريقها للسقوط، وهو يمشي بها في خطوات الارتقاء، ولكنهم نجحوا في خطتهم بما يملكون من أموال قذرة وذمم خربة، وتكللت مؤامراتهم بالقضاء على الكلمة الجامعة للمسلمين في واقع حياتهم وهي الخلافة الإسلامية.

رحم الله السلطان عبدالحميد، وتقبله سبحانه في عليين، وأعاد للأمة خلافتها ومجدها.