بقلم: مصطفى محمد الطحان

بمناسبة استشهاد الإمام "حسن البنا" على يد مثلث المكر السيئ: الملك والوزارة الفاسدة والأجانب الذين كانوا يتحكمون بمصر وشعبها، بتاريخ 12 فبراير 1949م..

 نتحدث عن آراء معاصري الإمام لهذه الشخصية العظيمة.

أستاذ الجيل

كتبَ فضيلة المرشد "عمر التلمساني" عن أستاذ الجيل فقال:

"لقد كان الإمام "حسن البنا" في حياة العالم الإسلامي يمثل الرجلَ الأمةَ، عالمًا، خطيبًا قوي البيان، مؤمنًا بالله إلى أقصى حدود الإيمان، ذكيًّا خارق الذكاء، بعيدَ النظر في أعماق النفوس وآماد الأحداث، يتمتع بأعظم الحظوظ من روح الأبوة والسماحة والقدرة على تطويع النفوس وتوجيهها وتربيتها، وساعده على كل أولئك قوةُ الذاكرة بصورة لم يسمع بها أحد، ولم يُشاهد أحد لها مثيلاً في عصره، وربما في عصور سابقات.

كانت له ذاكرة غير مألوفة في قوتها، إذا سأل أخًا عن اسمه مرة وعن ابنه وأبيه وعمله ثم التقى به بعد أشهر طوال حيَّاهُ باسمه، وسأله عن والده فلان وابنه فلان، وكان ذلك مثار العجب عند الجميع.

ولو علمْتَ عددَ شُعَب الإخوان أيام حياته، ولكل شعبةٍ مسئول ثم هو بعد ذلك يعرف كلَّ مسئولٍ عن كل شُعْبَة، وهو الذي يُعرِّف الآخرين بهم، لأذهلتك هذه الذاكرة الجبَّارة التي ما ضاقت يومًا عن اسم، أو غاب عنها حدث مهما طال به الزمن.

كانت هذه الذاكرة تواتيه بالوقائع على وجهها الصحيح إذا أراد مجادلٌ أن يحاور أو يُكابر فيردُّه إلى الواقعة بزمانها ومكانها وأفرادها وملابساتها، كأنما يقرأ من كتاب، بلا تحدٍّ ولا محاولة إحراج، ولكنه الإقناع المترفِّق حتى ليظن العائدُ إلى الحق أنه هو الحق.

كما كانت هذه الذاكرة المتوقدة سببًا في إزالة الكثير من المشاكل بين الإخوان إذا ما رجعوا إليه، وإذا ما دعا الأمر إلى سرد أحداث معينة سردها كأنما تسمعها من شريط مسَّجل". (الملهم الموهوب حسن البنا أستاذ الجيل- عمر التلمساني، ص- 28).
 
الكلمة التي سبقت وقتها

وتحدَّث الكاتب الأمريكي "روبرت جاكسون" عن الإمام "حسن البنا" الكلمة التي سبقت وقتها..

تحدث بكلمات تتدفق بشعور يمتزج فيه الإعجاب والعجب بالحزن واللوعة والأسى، يقول: "هذا الشَّرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده.. إنه رجلٌ لا ضريبَ له في هذا العصر.. لقد مرَّ في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر، كان لابد أن يموت هذا الرجل- الذي صنع التاريخ وحوَّل مجرى الطريق- شهيدًا كما مات عُمَرُ وعليٌّ والحسين، كان لابد أن يموتَ باكرًا، فقد كان غريبًا عن طبيعة المجتمع.. يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأت وقتها بعد". (حسن البنا الرجل القرآني- روبرت جاكسون، ص: 5-19).

"حسن البنا" والحركات الإصلاحية

وكتب الأستاذ "أنور الجندي" عن "حسن البنا" فقال:

"لقد ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا القرن.. في الهند ومصر والسودان وشمال إفريقيا.. وقد أحدثت هِزَّات لا بأسَ بها، ولكنها لم تنتج آثارًا إيجابية ثابتة.
اختفت هذه الدعوات، وبقيت عبارات على الألسن، وكلمات في بطون الكتب، حتى قُيِّض لها أن تبعث من جديد على يد الإمام "حسن البنا"، وأن تستوفي شرائطها ومعالمها، وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضجها، وأفاد الرجل من تجارب مَنْ سبقوه، ومن تاريخ جميع القادة والمفكرين والزعماء الذين حملوا لواء دعوة الإسلام". (أنور الجندي- دار الهلال- مايو 1977م).

من الطريقة الحصافية إلى الزعامة الشعبية

وكتب الدكتور "محمد فتحي عثمان" عن الإمام "حسن البنَّا" فقال:

"إنَّ مِن المفاتيح الهامَّة للتَّعرف على حقيقة الشخصية الفذَّة، إلى جانب ما حباها الله من قدرات روحية وفكرية وتنظيمية واسعة، قابليتها للنمو والإفادة من الخبرات المتوالية التي تتاح لها.

لقد تأثر "حسن البنَّا" في حياته بالتصوف، وهو يقرر في مذكراته أنه اتصل بالطريقة الحصافية في (المحمودية) خلال صباه الباكر، وانعكس آثار الطريقة على شخصيته القيادية في توجيهه للجماعة أول الأمر؛ فكان يُوصي كثيرًا بتدريس كتاب (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي، ويقتبس منه من الذاكرة في أحاديثه المرتجلة، وكأنه يحفظه عن ظهر قلب.

وقد كان منتظرًا من شخص نشأ مثل هذه النشأة الصوفية أن يكون موصد القلب إزاء النزعة السلفية، التي تبرز مثلاً في كتابات "ابن تيمية" و"ابن القيم" لاسيما أن كتابات هذين الإمامين الجليلين لم تكن تلقى قبولاً من شيوخ الأزهر بمصر.

غير أنه قد بدا في "حسن البنَّا" تطورٌ فكريٌّ نحو السلفية خلال المرحلة الأخيرة من حياته المحدودة الأجل؛ فنراه يقول في خطابه إلى المؤتمر الخامس للإخوان (1357هـ= 1938م): "إن (الإخوان المسلمون) دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وفكرة اجتماعية... إلخ".

أي إنه في مسيرة قرابة عشر سنوات منذ بدأ دعوته بالإسماعيلية، أخذت تتبلور في فكره، وتنعكس في أحاديثه نزعةٌ سلفية واضحة تعلو نبراتها يومًا بعد يوم، وتغطي على بداياته الصوفية.

ومن جوانب التطور الملحوظ في شخصية "حسن البنَّا" ما شهدته الأعوام التالية لنهاية الحرب العالمية الأخيرة من اتجاهه إلى القيادة الشعبية العامة، وعدم انحصاره في دائرة جماعته، حتى إنه كان يخاطب جماهير الشعب من أول يوم، ويحثُّها على الالتزام بتعاليم الإسلام والعمل له تحت لواء جماعته.

على أنَّ الترشيح للانتخابات البرلمانية سنة 1944م ربَّما كان بداية متواضعة لتحرك بين جماهير الشعب استفاد من الظروف السياسية في مصر عقب الحرب العالمية الأخيرة، خاصةً بعدما اهتزت زعامة الوفد الشعبية بعد قبوله الحكم نتيجةً للتدخل البريطاني سنة 1942م، ولم تستطع الأحزاب السياسية الأخرى أن ترث الزعامة الشعبية.. هذا بينما تزايدت أعداد الإخوان ومناصريهم وبرزت مطالب قومية عامة بعد انتهاء الحرب، وتطلع الشعب لمن يقوده لتحقيق جلاء الإنكليز عن البلاد بعد أن عانى الويلات من طغيانهم أثناء الحرب، ثم جاءت قضية فلسطين وقرار تقسيمها والعدوان الصهيوني فزاد من سخط الشعب وهياجه وتطلعه لمن يقود جهاده في هذه الساحات.

هنا نجد الشخصية القيادية المتطورة لـ"حسن البنَّا" تستفيد من الفرص السانحة، وتهيء نفسها للأعباء الجديدة؛ حيث انطلق بكل قوته يقود المظاهرات الشعبية العامة التي انطلقت من الأزهر بعد قطع المفاوضات، وعرض قضية مصر على مجلس الأمن، ويخطب فيها إلى جانب كبار رجالات مصر والعروبة عام 1947م، وقد جُرِح في إحداها، وفي المظاهرة الشعبية الكبرى التي تجمعت بميدان (الأوبرا) في القاهرة تأييدًا لفلسطين في (ديسمبر) 1947م، بعد التقسيم، خطب "حسن البنَّا" إلى جانب "رياض الصلح"، والأمير "فيصل بن عبدالعزيز"، والشيخ "محمود أبوالعيون"، و"جميل مردم"، و"صالح حرب"، و"إسماعيل الأزهري"، و"القمص متياس الأنطوني" مندوب بطريركية الأقباط الأرثوذكس.

وأعلن المرشد أن الإخوان سيقدمون عشرة آلاف متطوع في سبيل فلسطين، وأبرق مؤكدًا ذلك إلى الزعماء العرب المجتمعين في عاليه في (مايو) 1948م، وتعاون الرجل مع مَن توسَّم فيهم الإخلاص والجدَ في الأمر من رجالات مصر والعرب أمثال "صالح حرب"، و"عبدالرحمن عزام"، و"فتحي رضوان"، وكانت صلته وثيقة من قديم بالحاج "أمين الحسيني" مفتي فلسطين المجاهد، ورجال الهيئة العربية العليا، وقد عمل الإخوان على تهريبه حين مروره بمصر أثناء ترحيله تحت الحراسة مِن منفًى لآخَرَ، كما عملوا على تهريب الزعيم المغربي المجاهد "عبدالكريم الخطابي" في ظروف مماثلة، وغدا "حسن البنَّا" الركن الركين في هيئة وادي النيل العليا التي تألفت للعمل الشعبي لأجل إنقاذ فلسطين.

وفي ممارسة "حسن البنَّا" للقيادة الشعبية العامة توثقت علاقاته بالصحفيين الذين غدوا يقدرون قدراته وآراءه، وإن لم يكونوا يؤيدون مبادئ الإخوان.

وعلم "حسن البنَّا" أن مسئولية هذا الدور الشعبي العام تتطلب ضمان التلاحم بين مسلمي مصر وأقباطها، حتى لا ينفذ العدو من ثغرةِ تنافُرٍ، أو تُؤتى صلاحية الإخوان للقيادة الشعبية من هذا الجانب، وقد سبق لـ"حسن البنَّا" أن كتب إلى الأنبا "يؤانس" بطريرك الأقباط سنة 1355هـ (1936م) في شأن معاونة أبناء فلسطين وجمع التبرعات لهم.

لكن أعباء القيادة الشعبية العامة صارت تتطلب اتصالاً أكبر وتعاونًَا أوثق، فتوالت الدعوات على بطريركية الأقباط لحضور مؤتمرات الأقاليم التي أُقيمت لأهداف قومية مصرية أو عربية، وأصبح هذا تقليدًا متبعًا في كثير من أحفال الإخوان، حتى ما كان منها لمناسبة إسلامية مثل بداية العام الهجري أو المولد النبوي.

واستلزمت مسئوليات القيادة الشعبية العامة قراءات سياسية واقتصادية فلم ينحصر "حسن البنَّا" في نطاق تكوينه الثقافي الإسلامي، ولم يقف عند قدراته ومواهبه في الإقناع وفي مخاطبة الأفراد والجموع؛ بل رأى أنه لابد من أن يتجاوز هذه الدائرة لأداء الواجب كما ينبغي، ولكسب احترام الآخرين من الساسة المشاركين المتعاونين على أعباء القيادة أو من الجمهور، فكتب في جريدة (الإخوان) اليومية حوالي سنة 1947م سلسلة مقالات تحت عنوان (الَّلهم هلْ بلغتُ، الَّلهم فاشهدْ)، تناول فيها مشكلات مصر السياسية والاقتصادية الهامة واتجاهات معالجتها وحلها في ضوء توجيهات الإسلام، وقد نُشِرَت هذه المقالات في صورة رسالة متكاملة فيما بعد (د. محمد فتحي عثمان- المجلة 9 آذار (مارس) 1984م).

لم يضيع دقيقة من وقته

(جاء في مجلة الدعوة، العدد- 95 (فبراير 2000م).

وتحدث الأستاذ "سعد الدين الدليلي" سكرتير الإمام "حسن البنَّا" عنه، فقال: "لقد كان الإمام الشهيد آية من آيات الله المتحركة في البساطة والإيمان والتقوى، ولم يكن يضيع دقيقةً من يومه الطويل إلا ويخطط لدعوته ويرسم لفكرته، ويُعنى بإعداد اتباعها وتهيئة أسباب نجاحها وحمايتها من كل دعاوى الباطل التي دأبت على التصدي لدعوة الحق ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8).

كان يدهشني حرصه- رحمه الله- على الاحتفاظ بقصاصات صغيرة من الورق وقلم، وإذا بي أتلقى منه هذه القصاصات من الورق لأوزعها على إخواني العاملين معه، فإذا هي برامج عمل وتوجيهات وآراء وأفكار ووجهات نظر وتعليقات تشغل وقت معاونيه أيامًا وليالي؛ سعيًا وراء تطبيقها، وتنفيذ ما جاء بها!! وإذا بهذه القصاصات من الورق تحول السكون إلى حركة، والخمول إلى جدٍّ ونشاط فيتحول العاملون من حوله إلى خلية نحل!! كل قد عرف كيف يبدأ يومه وكيف ينهيه، والكل في نصاعة هذه القصاصة ودقة ما تحويه مما كتب عليها بخط يده راضٍ سعيد يؤدي دوره في خدمة الدعوة، وإعلاء كلمة الحق مطمئن القلب مجزولاً له الثواب من الله سبحانه وتعالى.

وتحضرني حادثة تبين مدى ما كان يتفوق به على غيره من النظام والتنظيم ومن القدرة على التربية والإعداد!! فلقد طلب مني يومًا أن أستعد لمرافقته في لقاء مهم، وفي الموعد المحدد توجهت إليه مؤجلاً حلق لحيتي حتى لا يضطرب موعدي معه فما أن رآني حتى بادرني بقسوة المربي قائلاً: "إذا كنتَ قرَّرت إطلاق لحيتك فبها ونعمت، وإذا لم تكن كذلك فاذهب واحلقها، فإنني أكره أن أراكم في غير الهندام الطيب الذي ألفه الناس عنكم، فإذا لم تكونوا على مستوى شباب العصر حفاظًا على مظهركم وقلوبكم، فلن يتقبل الناس منكم ما تنادون به وما تدعون إليه".

ظلت علاقتي الجديدة بالإمام الشهيد من (يناير) 1947م متصلة قريبة لا يفصل بيني وبينه إلا لقاءاته الخاصة ولحظات نومه وما أقلَّها!! ومضت بنا الأيام هكذا، قاسمته حلوَ الحياة ومرَّها، وكنا نجري حوله ولا نُدركه، ويسبقنا ولا نسبقه، ونسقط إعياءً من حوله، وننصح له بأن يرأف بنفسه، وأن يُعطي لبدنه حقَّه من الراحة فكان- رحمه الله- يقول: "راحتي في دعوتي حتى يُظهرها الله أو أَهْلك دونَها".

قوة الإخوان:

ويتابع الأستاذ "سعدالدين الوليلي"- السكرتير الخاص للإمام الشهيد-: "ولم تكن دعوة (الإخوان المسلمون) تؤدي دورها وسط تلك الظروف في بساطة ويسر، فالبلاد من حولها كانت تغلي بالأحداث، وجاءت حرب فلسطين لتزيد نار الحماس التهابًا، وألقى الإخوان بأنفسهم في أتون الحرب، وتميز دورهم عن غيرهم بحسن تربيتهم، ودقة نظامهم، وسعة فهمهم؛ لدورهم الوطني ودورهم العربي ودورهم الإسلامي، وصدق رغبتهم في طلب الشهادة، فجاء جهاد الإخوان في فلسطين صفحةً من النور بهرت كل مَن اتصل بهم أو قرأ عنهم، وكشفت الحرب عن حقيقة قوتهم والخطر الكامن على الاستعمار في ازدياد قوتهم!

وفي ضوء اكتشاف هذه القوة النامية الفتية لجماعة (الإخوان المسلمون) في ساحة الحرب على أرض فلسطين، وقف الخصوم يقارنون ويرسمون الخطط لمستقبل الشرق بصفة عامة، ولمستقبل مصر بصفة خاصة، وبدا على السطح ظواهر جديدة في حقل السياسة المصرية والساحة العربية لم تكن موجودة من قبل الحركة.

فالحركة الطلابية يتصدرها (الإخوان المسلمون)، والبطولات الرائعة وصور الاستبسال والاستشهاد تجلت في دور كتائب الإخوان التي شهدت المعارك الأولى مع العصابات الصهيونية على أرض فلسطين، وضغط الإخوان كحركة شعبية على القصـر والحكومة في ذلـك الوقت بضرورة مواجهة العصابات الصهيونية بقوات متطوعة، وليس عن طريق الجيوش النظامية التي تأتمر بأوامر القصر الذي كان لعبة في يد الاستعمار.

ولقد شدَّد الإخوان ضغطهم على القصر والحكومة في ذلك حينما تبين للإمام "حسن البنَّا" أن السلطات المصرية كان في نيتها مجرد إرسال (تجريدة) قوة نظامية صغيرة لتقوم بدور العصا لتأديب العصابات الصهيونية فحسب وليست للقضاء عليها!

ولم يستطع الاستعمار الذي كان رابضًا بجنوده على ضفاف قناة السويس، والذي أعطت دولته (وعد بلفور) وتعهدت بتنفيذه قبل أن تنتهي مدة انتدابها على فلسطين أن يسكت على ذلك المد الإخواني الكبير في مختلف الساحات المصرية والعربيـة على السواء، فأخـذ يخوِّف القصر وحكومات الأحزاب من الإخوان، وأخذ على عاتقه الإعداد والتخطيط والتدبير والتآمر على تلك القوة الجديدة التي تُنادي بصحوة المصريين والعرب ليقوموا بدورهم من أجل بلادهم ومعتقداتهم، وكان القصر والحكومات الحزبية هي اليد المنفذة لمخططات ومؤامرات الاستعمار بكل أنواعه!!

واقترب "سعدالدين الوليلي" من لحظة فراقه لمرشده، فقال: "ولا أنسى ليلة صدور قرار حل جماعة الإخوان في (ديسمبر) عام 1948م؛ حيث صدرت الأوامر إلى قوات البوليس بالاستيلاء على شُعَب الإخوان ومركزهم العام في (الحلمية الجديدة) وسَوْقِ مَن فيها إلى المعتقلات، وشاء الله أن أكون برفقة الإمام الشهيد حين دهمتنا في ساعة متأخرة من الليل قوة من رجال البوليس السياسي؛ حيث حاصرت المبنى من كل أجزائه، وقبضت على مَن فيه وملأت بنا السيارات، وانتظر الإمام الشهيد دوره في الدخول إلى السيارة، إلا أنَّ أحدًا لم يسأله ذلك، فرأيته يتشبث بالسيارة التي كنْتُ فيها ويحاول اعتلاءها ليلقى المصير الذي يلقاه إخوانه، ولكن القوةَ لم تمكنه من ذلك ومنعته من الركوب بدعوى أنه لم تصدر من المسئولين أوامر باعتقاله، فازداد تشبثًا بالسيارة واعتلى أولى درجات سُلَّمها وهو يصيح: "لا تأخذوا هؤلاء بجريرتي، فأنا أولى منهم بالاعتقال"، ولم يسمح له أحد، وتحركت السيارات بنا وتركته في وحدته ليلقى حتفه عندما يحين الوقت المناسب لتنفيذ الجريمة، ولو لم تكن الحكومة قد بيتت النية على قتله لكان من الطبيعي أن يكون- وهو رأس الجماعة- في مقدمة المعتقلين!!

عرفته من غرس يده

وتحدَّث عن الإمام الشهيد الإمامُ "حسن الهضيبي" فقال:

"عرفته أول ما عرفته من غرس يده، كنت أدخل المدن والقرى فأجد إعلانات عن (الإخوان المسلمون) دعوة الحق والقوة والحرية، فخِلْت أنها إحدى الجمعيات التي تُعنى بتحفيظ القرآن والإحسان إلى الفقراء ودفن الموتى والحثِّ على العبادات من صوم وصلاة، وأن هذه قُصارَاها من معرفة الحق والقوة والحرية، فلم أحْفَل بها، فكثير هم الذين يقرأون القرآن دون أن يفقهوه ودون أن يعملوا به، وأكثر منهم الذين يصلون ويصومون ويحجون دون أن يكون لذلك أثر في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء كثيرًا ما يوضع في غير موضعه، ولم أحاول- كما هي العادة- أن أعرف شيئًا عن (الإخوان المسلمون).

ثم التقيت يومًا بفتية من الريف أقبلوا عليَّ- على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنًّا ومركزًا- يحدثونني، فوجدت عجبًا.. فتية من الريف لا يكاد الواحد يتجاوز في معارفه القراءة والكتابة يحسنون جلوسهم مع مَن هم أكبر منهم في أدب لا تكلف فيه، ولا يحسون بأن أحدًا أعلى من أحد، ويتكلمون في المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شابٌّ متعلم مثقفٌ، ويتكلمون في المسائل الدينية كلام الفاهم المتحرر من رقِّ التقليد، ويبسطون الكلام في ذلك إلى مسائل مما يحْسَبُه الناس من صرف المسائل الدنيوية، ويعرفون من تاريخ الرسول مالا يعرفه طلاب الجامعات، فعجبت لشأنهم وسألتهم أين تعلَّمتم كل ذلك؟ فأخبروني أنهم من (الإخوان المسلمون)، وأن دعوتهم تشكِّل كلَّ شيء، وتعنى بالتربية والأخلاق والسياسة، والفقر والغنى، والاقتصاد وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشئون صغيرِها وجليلِها.

من ذلك الوقت تتبَّعت حركة (الإخوان المسلمون) وصرت أقرأ مطبوعاتهم، واتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك، ولكني عرفته من غرس يده، قبل أن أعرف شخصيته.

ففي يوم خرجت أنا وبعض زملائي لمشية العصر على حافة النيل فوجدنا جمعًا من الجوالة سألناهم عن شأنهم فعلمنا أن "حسن البنَّا" سيلقي خطبة في حفل الليلة فوافينا الحفل وسمعنا "حسن البنَّا".

لقد تعلقت أبصارُنا، ولم نجد لأنفسنا فكاكًا من ذلك، وخِلْتُ والله أن هَالةً من نور أو مغناطيسًا بوجهه الكريم تزيد الانجذاب إليه، خطب ساعةً وأربعين دقيقة، وكان شعورنا فيها شعور الخوف من أن يفرغ من كلامه، وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا بها ذلك الوقت.

كان كلامه يخرج من القلب إلى القلب، شأن المتكلم إذا أخلص النيةَ لله، وما أذكر أني سمعت خطيبًا قبله إلا تمنيت على الله أن ينهي خطابه في أقرب وقتٍ، كان كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه الماء، لا علوٌّ ولا انخفاضٌ يخاطب الشعور فيلهبه، والقلبَ فيملؤه إيمانًا، والعقل فيسكب فيه من المعلومات ألوانًا.

انقضى وقت طويل دون أن ألتقي به، ولما أذن الله بذلك التقينا، فإذا تواضعٌ جمٌّ، وأدبٌ لا تكلفَ فيه، وعلمٌ غزيرٌ، وذكاءٌ فريدٌ، وعقلٌ واسعٌ ملمٌّ بالشئون جليلها وحقيرها، وآمالٌ عِراضٌ، كل ذلك يحفه روح ديني عاقل لا تعصب ولا استهتار، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143)، إنه كان ملهمًا، وأقسم أني التقيت به وعاشرته فما سمعت منه كلمة فيها مغمز في عرض أحد أو دينه، حتى من أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح في ذمته ودينه، وكان في ذلك ملتزمًا حدَّ ما أمره الله.

هذا هو "حسن البنَّا" الذي قتلوه، لقد قتلوا أخطر داعية ظهر على وجه الأرض منذ قرون، والآن فإنَّ الغرسَ الذي عرفت فيه "حسن البنَّا" قد نما وترعرع، وصارت دعوته إلى كتاب الله مستقرة في القلوب، وصار تلاميذه يعلمون الناس ما علم ويلهمونهم ما ألهم وزاد عددهم على البأساء والضراء، حتى أصبحوا أقوى جلدًا مما كانوا، وأعرف بشئون الحياة، وأصبر على المظالم، وأعلم بأن أعداء دعوتهم أكثر من أنصارهم، فأعدوا أنفسهم لكفاح طويل في سبيلها.

ولقد صار (الإخوان المسلمون) اسمًا لا يعبر عن منظمة في مصر، وإنما يعتبر عنوانًا لنهضة الإسلام وبعثه وحيويته في جميع البلاد الإسلامية من المحيط إلى المحيط، فاسم الإخوان في (إندونيسيا) و(باكستان) وكل البلاد العربية، وصارت دعوتهم رعبًا للمستعمرين وأنصار المستعمرين والمنافقين والظالمين؛ لأن الباطل يفزع من الحق أينما كان وحيثما وجد.

هذا "حسن البنَّا" فلماذا قتلوه؟

قالوا: "إنهم قتلوه؛ لأنه شكَّل عصابة إرهابية كانت تعمل على قلب نظام الحكم، وإشاعة الفساد في البلاد" والحقيقة أنهم قتلوه؛ لأنه أصبح الرقم الصعب في العالم الإسلامي الذي لم يكن بإمكانهم إعادة تشكيل المنطقة وتقسيمها بما يناسب مصالحهم.. ما لم يتخلصوا منه (حسن الهضيبي، مجلة الدعوة- فبراير 2000م).