عرفتُه أولَ ما عرفتُه من غرسِ يده، كنتُ أدخلُ المدن والقرى فأجد إعلانات عن "الإخوان المسلمين" دعوة الحق والقوة والحرية، فخِلت أنها إحدى الجمعيات التي تُعنَى بتحفيظ القرآن، والإحسان إلى الفقراء، ودفن الموتى، والحثِّ على العبادات من صوم وصلاة، وأن هذه قصاراها من معرفة الحق والقوة والحرية.. فلم أحفل بها.

فكثير هم الذين يقرأون القرآن دون أن يفقهوه، ودون أن يعملوا به، وأكثر منهم الذين يصلون ويصومون ويحجون دون أن يكون لذلك أثر في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء كثيراً ما يوضع في غير موضعه.. ولم أحاول كما هي العادة أن أعرف شيئاً عن الإخوان المسلمين.

ثم التقيت يومًا بفتيةٍ من الريف أقبلوا عليَّ - على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنًّاً ومركزاً- يحدثونني، فوجدت عجباً؛ فتيةً من الريف، لا يكاد الواحد يتجاوز في معارفه القراءة والكتابة، يحسنون جلوسهم مع من هم أكبر منهم في أدبٍ لا تكلُّف فيه، ولا يحسُّون بأن أحدًا أعلى من أحد، ويتكلمون في المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شاب متعلم مثقف ويتكلمون في المسائل الدينية كلامَ الفاهم المتحرر من رق التقليد.

ويبسطون الكلام في ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدينية والدنيوية كلام الفاهم المتحرر من رق التقليد.. ويعرفون من تاريخ الرسول - وتاريخه هو تاريخ الرسالة- ما لا يعرفه طلاب الجامعات.. فعجبت لشأنهم وسألتهم: أين تعلمتم كل ذلك؟! فأخبروني أنهم من الإخوان المسلمين، وأن دعوتهم تشمل كل شيء، وتُعنَى بالتربية والأخلاق والسياسة، والفقر والغِنى، والاقتصاد وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشئون صغيرها وجليلها..

من ذلك الوقت تتبعت حركة الإخوان المسلمين، وصرت أقرأ مطبوعاتهم، وأتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك، ولكني عرفته من غرسِ يده قبل أن أعرف شخصيته.

كان يوم خرجت أنا وبعض زملائي لمشية العصر على حافة النيل، فوجدنا جمْعاً من الجوَّالة سألناهم عن شأنهم فعلمنا أن "حسن البنا" سيلقي خطبةً في حفل الليلة، فوافينا الحفل وسمعنا "حسن البنا"..

لقد تعلقت أبصارنا به، ولم نجد لأنفسنا فِكاكاً من ذلك، وخِلْتُ والله أن هالةً من نور أو مغناطيساً بوجهه الكريم فيزيد الانجذاب إليه.

خطب ساعةً وأربعين دقيقة، وكان شعورنا فيها شعورَ الخوف من أن يفرغ من كلامه، وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا بها ذلك الوقت.

كان كلامُه يخرجُ من القلب إلى القلب شأن المتكلم إذا أخلص النية لله.. وما أذكر أني سمعت خطيباً قبله إلا تمنَّيت على الله أن ينتهي خطابه في أقرب وقت.. كان كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه الماء، لا علوَّ ولا انخفاضَ، يخاطب الشعورَ فيلهبه، والقلبَ فيملؤه إيماناً، والعقلَ فيسكب فيه من المعلومات ألواناً.

انقضى وقت طويل دون أن ألتقي به.. ولما أذن الله بذلك التقينا.. فإذا تواضع جمٌّ، وأدبٌ لا تكلف فيه، وعلمٌ غزيرٌ وذكاءٌ فريدٌ، وعقلٌ واسعٌ مُلِمٌّ بالشؤون جليلها وحقيرها، وآمال عِراض.. كل ذلك يحفّه روح ديني عاقل لا تعصب فيه ولا استهتار.. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.. إنه كان مُلهماً وأقسم أني التقيتُ به وعاشرتُه فما سمعتُ منه كلمةً فيها مغمز في عِرض أحد، أو دينِ أحد، حتى من أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح في ذمته ودينه، وكان في ذلك ملتزِماً حدَّ ما أمره الله.

هذا هو "حسن البنا" الذي قتلوه.. لقد قتلوا أخطر داعية ظهر على الأرض منذ قرون، والآن فإن الغرس الذي عرفت فيه "حسن البنا" قد نما وترعرع، وصارت دعوته إلى كتاب الله مستقرةً في القلوب.. وصار تلاميذه يعلِّمون الناس ما علم ويلهمونهم ما ألهم، وزاد عددهم على البأساء والضراء حتى أصبحوا أقوى جداً مما كانوا وأعرف بشؤون الحياة، وأصبر على المظالم، وأعلم بأن أعداء دعوتهم أكثر من أنصارهم، فأعدُّوا أنفسهم لكفاح طويل في سبيلها.

ولقد صار (الإخوان المسلمون) اسماً لا يعبِّر عن منظمة في مصر؛ وإنما يعتبر عنواناً لنهضة الإسلام وبعثه وحيويته في جميع البلاد الإسلامية من المحيط إلى المحيط.. فاسم الإخوان في إندونيسيا والباكستان وكل البلاد العربية، وصارت دعوتهم رعباً للمستعمرين وأنصار المستعمرين والمنافقين والظالمين؛ لأن الباطل يفزع من الحق أينما كان وحيثما وُجِد.

ويقول عن أول لقاء به مع الإمام الشهيد.. وآخر لقاء به..

أول لقاء مع الشهيد..

وازددت اقتراباً من الإخوان.. بدأت أتصل بهم وأعرف بعضهم.. إلى أن جاءت ليلة.. كنت في مكتبي أراجع بعض القضايا، ودق الجرس ولم يكن من عادتي أن أفتح الباب.. ولكن لا أدري لماذا قمت.. ولماذا ذهبت.. ولماذا فتحت الباب؟ لأجد (حسن البنا).. وتعانقنا.. ودخل إلى بيتي.. وجلسنا نتحدث في شتى الشؤون، وصلينا العشاء معاً.. وخرج المرشد.. وبدأت أضع عقلي بعد قلبي في خدمة الإخوان.

آخر لقاء مع الإمام الشهيد..

كانت الساعة الحادية عشر مساءً ودق الجرس وفتحت الباب، ودخل (حسن البنا) دخل يحمل إليَّ آخر أنباء مفاوضاته مع الحكومة، ولا أعلم لماذا كنت منقبضاً.. لماذا كنت ضيق الصدر.. لماذا تجمعت فوق طرف لساني كلمة (القتل).

كنت أحس أن هذا الرجل سيقتل.. ستغتاله يد أثيمة.. فإن الحكومة – أية حكومة – لا يمكن أن تعجز عن قتل رجل أعزل إلا من الإيمان.

وأراد أن ينصرف.. وصافحته.. وإذا بي أعانقه وأقبله.. ولا أكاد أمسك دموعي أو أخفيها وابتسم – رحمه الله – وقال: "قل لن يصيبنا إلى ما كتب الله لنا" (التوبة: 51).

وابتلعه الظلام.. وفي اليوم التالي ابتلعه الظلم.. فقد اغتالت الحكومة المصرية في 12 فبراير 1949م مواطناً مصرياً اسمه (حسن البنا).. وتعهدت هذه الحكومة لا بإخفاء معالم الجريمة فحسب ولكن بمكافأة القاتل!!