في ذكرى استشهاد الإمام المؤسس*

عندما حذرته حماته قائلة: "اليهود هيقتلوك يا شيخ حسن" تبسم ضاحكًا وكأنه يؤكد حديثها، وقال: "دولة بكاملها تتآمر لقتلي رغم أني أمشي بمفردي وطفل صغير عمره 10 سنوات يمكنه قتلي؟!"، ولما ناولته ابنته وفاء مسدسه المرخص في أيامه الأخيرة رفضه قائلاً: "هل تتصوري إذا حاول أحدهم قتلي أن أمد له يدي لأقتله!!".

والدموع تملأ عيناها تتذكر "سناء حسن البنا" الأيام الأخيرة ولحظة استشهاد والدها يوم (السبت 12 فبراير 1949)، وقالت: "عندما دخلت عليه بعد استشهاده وكشفت عمتي فاطمة وجهه رأيته كالبدر، وعلى وجهه ابتسامة عذبة، لدرجة أني لم أصدق أنه توفي، وكنت أقول لصديقاتي: إن أبي سيعود مرة أخرى.

نعود إلى ذكرياتك عن يوم الحادث.

في يوم الحادث أرسلوا له "الليثي" لمقابلتهم ووعدوه بحلول جديدة، فذهب إلى جمعية الشبان المسلمين، وكانوا قد أحضروا كل شيء فأطفئوا أنوار الشارع وأفرغوها من المارة، ولم يتركوا غير تاكسي واحد، وكما روى لنا زوج عمتي أنه لم يجد كلامًا مختلفًا عن الاجتماعات السابقة، فصلى بهم العشاء جماعة وخرج عائدًا إلى المنزل.

لكنه لاحظ ظلام الشارع والتاكسي الوحيد الذي وقف قريبًا، ولأول مرة غيّر من عاداته فأخذ يراقب ويلاحظ الشارع من حوله فدخل زوج عمتي عبد الكريم قبله إلى السيارة، وكان قد اعتاد أن يدخل أولاً ثم يتبعه عم عبد الكريم؛ فأطلقوا النار على من دخل أولاًً، فحاول أبي الإمساك به ووضعه على المقعد الخلفي للسيارة، أما السائق فكان نائمًا في الدواسة لعمله المسبق بما سيحدث، وقال أبي لعمي: "فصبرٌ جميل"، وعندما حاول الدخول إلى الجمعية مرة ثانية لطلب الإسعاف التفوا حوله وأطلقوا عليه الرصاص فاستقرت الرصاصة في الرئة؛ لأنه كان خارج السيارة، فقام الليثي وشاب آخر بتسجيل رقم السيارة، الذي اختفى بعدها ولم يعثر عليه حتى هذه اللحظة.

وبعدها طلب والدي من السائق أن يأخذهما للإسعاف، فأعطاهما طبيب شاب هناك دواءً أحمر ليبقى يقظًا، لكن المشفى رفض استقبالهما، فذهبا إلى قصر العيني كما كان مدبرًا لهم، حيث تركوهما في الغرفة لأكثر من ساعتين، وهما ينزفان رغم أن حالة والدي لم تكن خطيرة، فالإنسان من الممكن أن يعيش برئة واحدة، وبعدها أخبروه أنهم سيجرون عملية جراحية طلب أن يجريها له طبيب التجميل الذي أجرى له عملية "الفتاء"، فقال له الطبيب: "كلنا أولادك يا أستاذ".

فأخرجوا عمي عبد الكريم إلى الخارج على الأرض أمام الغرفة، وقال إنه سمع الأطباء يقولون: "دور على الوريد"، وعلمنا بعدها أنهم قطعوا الوريد من الرقبة لذلك نزف كمية كبيرة من الدم.

وكيف استقبلتم نبأ استشهاده؟

طلبوا جدي بعد تشريح الجثة لدفنه في مقابر العائلة، لكنه رفض وأصر أن يأخذه إلى المنزل حتى يراه أولاده وإخوته، فطرق الباب قائلاً: "افتحي الباب يا أم وفاء"، فقالت والدتي: "يبقى قتلوه"، لأنها سمعت صوت جدي، يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وأخذنا الجيران بعيدًا في حجرة أخرى، لكن عندما حضرت عمتي فاطمة تسربت ودخلت خلفها.

وحاصر البوليس السري المنزل ومنعوا دخول أي رجل وقبضوا على كل من حاول الاقتراب، حتى أولاد خالتي لم يُدخلوهم إلا بعدما تأكدوا من جدي أنهم أقاربنا، فأدخلوهم وأخرجوهم بعد دقائق قليلة، ولم يسمحوا سوى لاثنين هما مكرم عبيد باشا، وطبيب والدتي؛ حيث كان محددًا لها إجراء عملية في القلب يوم استشهاده، ولكنها رفضت الذهاب معه.

وبعدما قام جدي وأخي سيف بتغسيله، رفض العساكر حمل نعشه، فحملته جدتي ومن حضر من نساء الحلمية، ووقتها دعت عمتي على عائلة فاروق قائلة: "ربنا يفضح عرضك على نصارى"، وهو ما تحقق بعد تنصر أمه، وتزوجت أخته وابنته من نصارى.

ومن يومها والمنزل محاصر، وعرقلوا كل أمور حياتنا، فسيف درس في دار العلوم اقتداءً بالوالد، إلى جانب كلية الحقوق حتى يتحصل منها على مصدر دخل، فعرقلوا تعيينه في جامعة القاهرة على الرغم من تفصيل إعلان التوظيف عليه، لكن المباحث رفضت إتمام التعيين، والحال نفسها في السلك الدبلوماسي والقضائي.

وأنا نقلتني وزارة التربية والتعليم إلى أسيوط وعذبوني إلا أني وقفت في وجههم حتى حصلت على حقي.

المعايشة

ما الذي دفعكم إلى هذه المثابرة رغم العراقيل؟

هذا ما اكتسبناه وتعلمناه من الوالد الذي استشهد للدفاع عن الحق، فهذه الحياة التي عشناها ولم يقلها لنا أحد، ووالدتي كانت مثلنا، فكلما كانوا يأتون لتفتيش المنزل ويأخذون أشياء منه، كانت تقول لنا أمام الضباط اكتبوا ما أخذوا من المنزل حتى يعيدوه؛ لأنها تخص الشهيد حسن البنا، وهذا تراث المنزل وعليكم إعادته.

في عام 56 عندما كانوا يشدون الطرح من على رأس الأخوات رفضت خلعها، وقلت إن من يحاول ستكون نهاية عمره قبل أن يخلعها من رأسي، فالقوة في الحق تثير الرعب في الظالم، كما كنا نتحدث معهم عندما اعتقلوا سيف وزوجي، وعندما توفت زوجة كاتب النيابة قال لنا: "انتم دعيتوا علي؟".

وهل كنتم تشعرون بالأزمات التي يتعرض لها الإمام؟

بالطبع كنا نعايشه فيها، فقبيل استشهاده عاش المنزل كله في قلق لفترة، بسبب ما تردد من مهاجمتهم للبيت، وبعض الليالي قضيناها لدي جدتي، ذات مرة جاء أحد الإخوة من الصعيد ببندقية وشومة وجلس في بير السلم ليقتل من يحاول الدخول إلى المنزل.

الأيام الأخيرة

وماذا تتذكرين من هذه الفترة؟

في أحد الأيام ذهب للصلاة في المسجد، وكنا ننتظره دائمًا خوفًا عليه على الشباك، وجدنا ملثمين ينتظرون على ناصية الشارع، فأرسلت والدتي وفاء والخادمة، لتذهب كل واحدة منهما في اتجاه المسجدين القريبين من المنزل لتحذيره، وما إن رأوهما خرجتا من المنزل حتى هربوا، فالرعب ملأ المنزل من يوم 8 ديسمبر عند صدور قرار حل المركز العام، ومن يومها ومنزلنا مُراقب وحتى قيام ثورة 25 يناير.

والجميع كان متوقعًا اغتياله؛ فمجرد خروجه وتأخره كنا نشعر أنهم قتلوه، فكان يخرج ليتوسط لدى الشيخ المراغي لإخراج الإخوان أو مقابلة الملك، لأنه دائمًا ما ردد: "أسمع صراخ أطفال الإخوان في أذني"، وعندما لم يجد جدوى من تلك الزيارات، أعلن أنه سيعتزل كل شيء وسيذهب "للشيخ النبراوي" في مزرعته، لكنهم قبضوا عليه واعتقلوا أولاده وحرقوا مزرعته.

بيت مصري

وبماذا تصفين البيت الذي نشأتِ فيه؟

كان منزلنا منزلاً مصريا كسائر البيوت المصرية، إلا أننا كنا نتمتع بالسمت الإسلامي، فتبادل الهدايا والكعك في الأعياد والطعام بين الجيران أمر طبيعي.

ما صفة حسن البنا الأب؟

كان أبًا حانيًا جدًّا؛ فكان من المعروف في منزلنا أن أمي هي الشديدة التي تعاقب، أما أبي فكنت أستجير به حتى لا أتعرض للضرب، فأهرب وأختبئ بجانبه تحت مكتبه عندما أخطئ وتحاول أمي معاقبتي، فكنا نريد إرضاءه ولا نريده أن يتضايق من أحدنا، ليس خوفًا؛ بل حبًّا واحترامًا له، ولا نذكر يومًا أنه تعامل مع أحدنا بقسوة.

عقابان فقط

نفهم من هذا أنه لم يعاقبكم مطلقًا؟!

عاقبني والدي مرتين فقط؛ أولهما عندما رأيته يومًا من الشباك قادمًا مع الإخوان، فخرجت إلى الشارع مسرعة كأي طفلة لاستقباله ونسيت ارتداء الصندل الذي أحضره لي للعب، فنظر نظرة واحدة إلى قدمي فعدت إلى المنزل وقد فهمت من نظرته الخطأ الذي قمت به،

وبعدما خرج الضيوف نادى عليَّ وأمرني أن أرفع رجلي على ترابيزة السفرة وضربي بالمسطرة عشر مرات لكل قدم، وكنت أضحك، ومن وقتها لم أكررها ثانية.

والمرة الثانية عندما شتمت خادمة صغيرة، فأخرج قلم رصاص من جيبه ووضعه في ثقب أذني وقرص عليها فظلت شهرًا تؤلمني، فكان عقابه يجعلنا لا نكرر الأمر مرة أخرى.

التدرج

وكيف حبَّب إليكم العبادات؟

التيسير والتدرج كان منهجهه في كل شيء، فمن صغري وأنا أصلي بجانب والدتي بفاتحة الكتاب وقصار السور، وفي يوم حضر والدي إلى المنزل ووجدني لا أصلي، فتعجب وسألني عن السبب، فأخبرته إني لا أحفظ التحيات، ولا أريد أن أصلي بدونها، لكنه قال لي أن أصلي بالفاتحة بدلاً من التشهد، وقال: "الفاتحة تجزئ".

وكان هذا أسلوبه حتى في الفرائض الشرعية، فكما نزلت على المسلمين مبسطة وعلى عدة مراحل، لم يكن يفرضها علينا دفعة واحدة.

الفن والسينما والمسرح.. ماذا كانت تعني لكم؟

قبل استشهاده بمدة قصيرة جدًّا تصل إلى شهر تقريبًا نزل فيلم في السينما عن فلسطين، وأحدث ضجة كبيرة، وعندما طلبنا منه أن نذهب لمشاهدته لم يرفض مطلقًا وسمح لنا بذلك، فهو لم يكن يرفض السينما على إطلاقها بل كان الأمر يعتمد على مضمون الفيلم واستخدامها جيدًا أو لا، وفي الماضي كانت أغلب الأفلام ذات مضامين غير نافعة بالمرة.

وأول من أطلق المسرحيات هم الإخوان الذين نظموا مسرحيات عرضت بدار الأوبرا، وكنا نذهب لمشاهدتها والاستماع إليها.

وهل كان مسموحًا لكم كأطفال بوسائل التسلية؟

بالتأكيد كل وسائل التسلية واللعب المشروعة كانت يسمح لنا بها، ففي صغرنا كان لدينا راديو وهو جهاز جديد في مصر، وكنا نسمع إذاعة القرآن الكريم في الصباح، ثم 8,30 صباحًا ومساءًا النشرة ولا شيء آخر باستثنائهما، إلى أن ظهرت برامج الأطفال، فكلما حضر جدي إلى المنزل ووجدنا نسمع برنامج "بابا شارو" يتعجب وينظر لأبي كيف سمح لنا بالاستماع إليه!، وفي العيد كنا نؤجر العجل في الشارع الذي نسكن فيه ونلعب مع الأطفال.

ذَكَرْتِي أنه لم يرفض المناسبات التي لا تتعلق بعقائد الآخرين، فماذا عن المولد النبوي؟

لم يكن يرفض الاحتفال به بل كان يحضر لنا الحلوى، ويقول: إننا نحتفل به إحياءً لذكرى النبي صلى الله عليه وسلم ولأخلاقه ومواقفه التي تعرض لها في مختلف الظروف للاقتداء به، تطبيقًا للشعار الذي نقول فيه "الرسول زعيمنا".

ولكنه لم يكن يجعل تلك المناسبات تمر بدون أن يعلمنا شيئًا جديدًا، ففي أحد المرات أحضر حلوى المولد النبوي ووزعها في أظرف بنيه، وطلب منّا أن نسمعه شعار الإخوان، فمن قاله سليمًا يأخذ نصيبه، ومن لم يتقنه يذهب لإجادته ويعود ليأخذ حلواه، أو حفظ حديث جديد للرسول، فكان يهدف إلى تعليمنا بذل مجهود للحصول على المكافآت وليس كأنها حق مكتسب.

الانشغال بالدعوة

كان الإمام دائم السفر فهل تذكرين هذه الأيام؟

طوال العام الدراسي كان يتمكن من تغطية محافظات الوجه البحري لقربها من القاهرة، فدوامه في المدرسة يومي الإثنين والخميس نصف يوم فقط ويسافر، فكان يسافر ويعود في نفس اليوم، أو يسافر الخميس ويعود السبت صباحًا.

ومع بداية إجازة الصيف كان يصطحبنا إلى مدينة الإسماعيلية عند أهل والدتي، فيمكث معنا عدة أيام ثم يتوجه بالقطار إلى أسوان ومنها يزور مختلف قرى ونجوع الصعيد، وكان يتعمد ألا يركب إلا في الدرجة الثالثة، حتى يتمكن من الجلوس في وسط البسطاء؛ ليعيد الإسلام الذي اختفى بفعل الاحتلال، كما كان يقول: "يهز الإسلام الموجود بداخلهم".

رويت لنا انشغال الإمام طوال العام بالدعوة، ألم يؤثر ذلك على عائلتكم؟

ذات مرة قابلتني إحدى الأخوات في السعودية، وقالت لي إن الإخوة يقولون إن الإمام قال "لأن تشقى أسرة تسعد أمة"، فقلت لها لم نشعر يومًا مع والدي بالشقاء مطلقًا، فلم يفرط في حقوقنا لمرة واحدة، فالله منّ عليه أن يوفق بين كل مشاغله، فكان بارًّا بوالديه وبأهل زوجته.

وكان لديه في مكتبه ملف لكل واحد منا، بكلِّ التطعيمات التي أخذها والأمراض التي أصيب بها، وكذلك الشهادات التي حصلنا عليها، وحتى تعليمنا كان هو يهتم به بشكل مباشر، فأنا في البداية دخلت إلى التعليم الأولي، وعندما رأى أن مستوى التعليم الحكومي أفضل أراد أن ينقلني إلى الابتدائي مع أختي، إلا أن الأمر تعذر فنقلني إلى مدرسة خاصة، بالرغم من أنها كانت ذات سمعة تعليمية سيئة على عكس الآن، وكانت ناظرة المدرسة تقدر والدي جدًّا فنجحتني المدرية حتى وصلت إلى الصف الابتدائي الأول بدون أن أدرس أي شيء، وانتقلت في الصف الثاني إلى الحكومة، ووقتها رسبت لأني لم أكن تعلمت من قبل.

فحزنت وأخذت مفتاح الدولاب المخصص لي بالمدرسة وألقيته إليه، وقلت له لا أريد أن أذهب مرة أخرى إلى هذه المدرسة، اذهب وأحضر أشيائي من هناك، فقال "متزعليش يا سناء ماما بتقول إنك شاطرة في حاجة البيت وتقعدي تساعديها"، فرفضت وقلت له "لأ خلاص هات المفتاح".

وكان دائمًا ما يعطي سيف أموالاً لشراء الكتب، فكان يشتري كتب الجيب البوليسية كـ"ارسيل لوبين" وغيرها، وعندما أراد توجيهه إلى كتب تهتم باللغة العربية أحضرها ووضعها في مكتبه حتى يقرأ، ومن وقتها صار عاشقًا للغة العربية.

وماذا عن فترة الإجازة الصيفية؟

كنا نقضيها في الإسماعيلية، نذهب إلى مدرسة أمهات المؤمنين، لتعلم الأحاديث النبوية وغيرها.

وما أن نصل هناك حتى يقول الاحتلال إن الإسماعيلية أعلنت الحرب، لما كان يعلمنا من مساوئ الاحتلال، فنأتي بالكرة الشراب ونشعل بها النار ونجمع أطفال المدينة ونلف ويهتف أخي سيف "يسقط الاستعمار".

عباءة دمور

رأينا صورًا للإمام بالجلباب مرة وبالبدلة والطربوش مرة أخرى، ألم يكن يفضل ملبسًا بعينه؟

كان يرتدي اللبس المناسب للمكان، فالجلباب والعمامة لهما مكانهما، والبدلة لها مكانها، والمسجد له ملابسه، فلم يقل عن ملبس بعينه أنه إسلامي، إلا أنه في أحد المرات دُعي إلى حفل لدى الملك وكان مطلوبًا ارتداء بدلة "ردنجوت"، فرفض لأنها لباس أوروبية في وقت المحتل فيه داخل مصر.

وكان دائمًا ما يشجع الصناعة المصرية، فمنذ أن افتتحت مصانع الغزل المصرية قاطعنا الأقطان الإنجليزية التي كانت تؤخذ من مصر وتصدر لنا مرة أخرى في صورة أقمشة، فكانت الأخوات ترتدين الخامات المصرية بالرغم من رداءتها في البداية، وكان يصنع عباءته من "الدمور" تشجيعًا للصناعة الوطنية.

الفراسة

ما أهم الصفات التي تمتع بها الإمام في دعوته؟

كان يتمتع بذاكرة حديدية منحها له الله، فيتذكر عشرات الآلاف من الإخوة، بأسمائهم وأسماء أولادهم وأعمارهم، ويسأل عليهم بعد مرور سنوات من رؤيته للأخ آخر مرة، كما تميز بالفراسة فخلال حديث الثلاثاء حيث كانت تمتلئ شوارع الحلمية أمام المركز العام بالحاضرين، وبعد إنهاء الحديث يطلب من الشباب حوله إحضار عدد ممن لاحظهم أنهم من الجدد، وكذلك من تأثروا بحديثه فيتحدث معهم وينضموا للجماعة مباشرة.

ووصل الأمر إلى حدِّ تأثيره المباشر في فتوة بولاق "أحمد نار"، عندما ذهب مرة لإلقاء خطبة هناك، وجاء الفتوة لهدم السرادق الذي كان فيه لأنهم لم يحصلوا على إذنه لإقامته، وما أن دخل حتى لاحظ الإمام وجوده وحوَّل حديثه عن الشجاعة في الإسلام وشجاعة رسول الله، فجلس ينصت له وتحدث معه بعد الخطبة ودخل في الإخوان.

المرأة

وماذا عن الصفات التي لم نقرأ عنها من قبل؟

أول صفاته في المنزل احترام أهل البيت، فلم يناد يومًا على والدتي سوى بـ"أم وفاء"، وهي أيضًا لا تقول له إلا "يا أستاذ"، كما لم نسمعه يومًا يرفع صوته على أحد، وكان يعرف ما نريده من نظرة أعيننا، وتمتع بهيبة فتلقائيًّا بمجرد دخوله علينا كان جميع مَن في البيت يقفون بمن فيهم عماتي وأعمامي باستثناء أمي وجدتي، رغم أنه لم يطلب ذلك يومًا، كما لم نسمعه يومًا يسب أحدًا.

أما المرأة فكان لها تقدير دائم حتى الخادمة يعاملها أفضل معاملة، وهو من عرَّف أمي على أبناء عمها، عندما سافر يومًا إلى قرية "صول" أصل عائلتها وعلم أنهم من عائلتها أحضرهم إلى المنزل، وطلب منها أن ترتدي ملابسها ليعرفها عليهم.

وكانت قيلولته بسيطة جدًّا، وفي أحد المرات طلب من أختي وفاء فنجان قهوة على أن تأتي بعد سبع دقائق لإيقاظه، وساعات نومه في اليوم كله لم تتعد الأربع ساعات.

رسائل عصرية

في هذه الأيام ما الرسائل التي ترين أنه كان سيوجهها؟

الرسائل تناسب العصر الحالي تمامًا كما كان في عهده، وما لم يفهمه الكثيرون أن حسن البنا لم يأت بفلسفة خاصة به كما نسمع عن البلشيفية والشيوعية وغيرها من صنع البشر، ولذلك انتهت هذه الأسماء؛ بل هو حاول إحياء دعوة الله، وما كان يطبقه السلف الصالح.

لذلك اتبع المنهج التدريجي المنطقي في تربية الفرد، فبدأ مع الرعيل الأول بتعليم سنن الوضوء وأهميتها ثم الصلاة ثم الاعتزاز بالانتساب إلى الله، وهذه هي الدعوة إلى الله، كما نزلت على الرسول.

وأكثر مثال على هذا أول مرة وأنا أقرأ رسالة "بين الأمس واليوم" يقول فيها: إن القرآن هو أصل التشريع، ونزل منجمًا يحمل كليات الشرائع الاجتماعية، كافة العبادات جاءت لتثبت هذه الشرائع وتقويها لخدمة المجتمع، فالعبادات كالصلاة ليست مجرد حركات بل لخدمة المجتمع، فالشهادة مثلاً تجعل البشر لا يظلمون ولا يطغون على بعضهم، وتؤسس للمساواة، كالصلاة التي تجعل السلطان الوحيد هو الله.

وكذلك رسائله للشباب يقول فيها: "احذروا الفرقة"، وكأنه يتحدث إليهم الآن.

--------

* سبق نشره على (إخوان أون لاين) عام 2012