رغم ما تموج به ساحتُنا العربية اليوم من تيارات فكرية وسياسية وعقائدية تتباين رؤاها وغاياتها وتتصارع مذاهبها الفلسفية، فقد سقط الكثير منها ولم يعُد يُسمع له صوتٌ، على حين ارتفع وبتميُّز صوتُ تيار الفكر الإسلامي، التيار الذي يضمُّ الدكتور محمد عمارة وصفوةً من أعلام هذا التيار العقلاني، وذلك أنَّ صوت العقل والحق لا يُهزَم أبدًا، رغم أساليب مناوئيه الخادعة والمضللة.

إن الدكتور عمارة صاحب مشروع فكري طموح، يجتهد بهمة وتواصل وعطاء متدفِّق، وقد قدم من أجل مشروعه حتى اليوم مؤلفاتٍ تقترب من المائتين، بين تأليف وتحقيق وحوار ومناظرة وإسهام مع الآخرين.. هذه المؤلفات أغلبها يختص بهويتنا: اللغة، الدين، التاريخ، وفق منهج ورؤية عصرية تشكِّل إحدى دعائم الأمة وعمودها الفقري.

هذا المؤلف حين يخوض في محيط تاريخنا لا يقدمه بأنساق تتماشى وروح العصر فحسب وإنما يبحر بعقلية العربي المسلم مستعرضًا همومه وتطلعاته والعمل على بناء شخصيته قوية واعية، من خلال تفجير طاقاته الإبداعية الكافية، وصولاً إلى مواجهة الغرب ومخططه الماكر لاحتواء عقله!!

إن الدكتور محمد عمارة عُرف منذ بواكير شبابه بحسِّه الثوري.. ثورةً على التقاليد البالية.. ثورةً على أنساق الحكم يومها.. وثورةً على استكانة المجتمع للظلم، فإنسان الثورة لديه ينطلق من داخل النسق الإسلامي لتحريره من الظلم بتغيير واقع متردٍّ بآخر يحقق العدالة الاجتماعية وبصياغة عقلانية تنأى عن الفكر الضالِّ والمشوّش والغوغائي الذي لا يقيم مجدًا لمجتمع أو أمة.

وهو أيضًا التراثي، فالتراث في فكِرِه قسمةٌ من قسماتنا الحضارية لا بد من الكشف عنها وبعثها من قِبَل المتخصصين تحقيقًا ودراسةً ونشرًا.

وهو الداعي إلى حرية الإنسان، لا كحق فحسب بل فريضة، لضرورتها في حياته من واقع الرؤى الإسلامية.

وهو الصوت العالي بدعوة الإسلام دينًا ودولةً.. تلك التي أصلها من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية ومواقف الخلفاء الراشدين.. بل ودفع بآراء المستشرقين المتخصصين في فقهنا الإسلامي.

الواقع أن مَن يقرأ مشروعه يقدِّر لهذا الباحث والمجتهد الكبير جهدَه المبذول، من أمانة علمية ودقة وموضوعية في التقصِّي والاستنتاج وصولاً إلى الحقيقة.

ويلاحظ أن المشروع الفكري للمفكر الإسلامي الكبير عمارة اعتمد بدعائم تختلف شكلاً، بَيد أنها تلتقي جميعًا في فكره ورؤاه؛ لأنها جزءٌ من شخصيته؛ لذا منحها من وقته وفكره وجهده الكثير.

أما الدعامة الأولى فهي العقل، وهو لديه أساس العلم والهداية والتعمير ومناط التكليف، وينظر نحو موقف شريعتنا من العقل: "لقد تميَّزت شريعة الإسلام وامتازت عن الشرائع الأخرى بقسماتها العقلانية وإعلائها سلطان العقل، لا في أمور الدنيا فحسب، بل وفي الكثير من أمور الدين"، ويراه مع النقل يشكلان اكتمال الصورة العقلانية في الإسلام.

ويرى أن عبادة الله سبحانه ومعرفتنا به وبسننه في الكون إنما تأتي عن طريق العقلاء، وفي عشقه للتراث والفكر والحرية وجدنا تيار العقلانية المؤمنة في الإسلام (أهل العدل والتوحيد) وفرسان الكلمة الحجَّة والثورة على الظلم الاجتماعي والسياسي، أقرب التيارات الفكرية إلى عقله وقلبه، فرسالته لنيل الماجستير حملت عنوان (المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية) أما الدكتوراه فكانت (نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة).

لقد أعجب مفكرنا عمارة بهذا العقلاني الذي وقف طويلاً يتحدى ويصرع خصومه من أعداء الإسلام ممن لهم باعٌ طويلٌ في الفكر والمنطق وهم أصحاب مؤسسات لاهوتية ضخمة؛ لذا نراه يسير على نهجهم لتفنيد فِرَى ودعاوى أعداء الإسلام وأهله بالحوار بالمنطق والحجة لسانًا وقلمًا.
 
إن المعتزلة.. هذه الفرقة أهمَّته لثرائها الفكري، وجد في أصحابها: "وهم الذين نهضوا بالعبء الأكبر في نشْر الإسلام والدفاع عن عقيدته، وخاصةً بين أبناء الأمم والممالك التي شاع فيها قدرٌ من التراث العقلاني"، والحق لم يكن إعجابًا فحسب، بل تشبَّع بفكرية سلاطين العقل، حتى لأحسبه أحد أحفادهم ممن تصدَّى لجيوش الفكر التغريبي والإلحادي.

أما الدعامة الثانية فهي الاجتهاد والتجديد؛ إذ يعتبر الدكتور عمارة شخصيةً مهمةً في المجالات الفكرية، وقد برزت مكانته المؤثرة في المحيط الإسلامي من خلال ميادين الاجتهاد والتجديد والتطوير وتمكنه من أدواتها.

لقد نادى بضرورة الاجتهاد في النصوص، لكن بعيدًا تمامًا عما هو من أصول العقيدة؛ لكونه من الثوابت المقدَّسة، وذلك لدواعي احتياجات الناس، وتسهيل مصالحهم لمستجدَّات العلم المتطور بسرعة؛ مما جعل قضايا تضمر وأخرى تظهر، وإهمال التجديد في ديننا- وهو أحد سماته- يعني جمودنا بل مواتنا!!

وفي سرِّ نكبة المسلمين بغلق باب الاجتهاد يرى أن ضِيق أفق فكر فقهائنا وراء إصابتنا بالتراجع والتقهقر: لقد أصابت فكرنا السياسي- وما زالت تصيبه- الكثيرُ من الأمراض والتشوُّهات في أنْ فقدَ الفقهاء والمثقفون الاستقلالَ، ومنذ ذلك التاريخ توالت العقبات التي توضع في طريق العقل والاجتهاد، فبدأت العبودية للنصوص المأثورة، وظهرت المقولة القائلة بأنه لا اجتهاد مع النص.

وعليه نجد الدكتور عمارة لا يقف من التجديد كفريضة فقط لتآلف هذا الدين وامتداده وصلاحيته لكل زمان ومكان، بل كضرورة لحياة الأمة، وطالب بالاجتهاد في أساليب الاجتهاد التي لم تعُد أنساقها القديمة تصلح لمقتضيات العصر حلاًّ لمشكلاته وسرعة تطوره.

كما رأى أن التقليد للتراث يعادل التقليد للغرب الذي يعمل على إذابة هويتنا بتجديدها على طريقته.. دفعنا بتلاميذه من أبناء جلدتنا للأسف لتفعيلها نيابةً عنه.

والتجديد عند مفكرنا عمارة كما يرى: "أن طوق النجاة لهذه الأمة إنما يكمن في الإبداع والاجتهاد والتجديد الذي يصيغ بها مشروعه الحضاري، المتمثل في ضيق الأفق وضيق الصدر الفكري، إلى حدِّ تكفير المخالفين.. إن هذا البلاء هو أعدى أعداء الإبداع والاجتهاد والتجديد".

أما الدعامة الأخرى في مشروعه فهي موقفه من الفكر العلماني، فالدكتور عمارة له موقفه الرافض بشدة لهذا الوافد، الذي رأى فيه المفكرون وأرباب الثقافة الإسلامية ريحًا سامةً دخيلةً تجتهد لاقتلاع سنديانة مواريثنا وقسماتنا، ولقد قاوم هذا الفكر المستورَد الوافد بمعية الحملة الفرنسية على مصر (1213هـ- 1798م) لتحضنه الطبقة المثقفة الرائدة التي فتنت به وسهلت دخوله، سيما في ظل ما كان يعيشه عالمنا العربي والإسلامي من عقلية القرون الوسطى، من فئة قبضت بالقوة العسكرية على زمام الحكم، ولجهلها باللغة العربية وفقْه الدين وقفت حائلاً أمام تجديدنا الفكري وإبداعنا الحضاري، الذي هو أحد قسماتنا الحضارية، حتى لكأن قيامها استكمالاً لفكر النصوحيين مستمرٌّ في ذلك حتى الهجمة الاستعمارية والأوروبية على بلادنا.

ومنذ دخول هذا الفكر الوارد في بلادنا تصدَّى له الغيورون من مثقفينا؛ دفاعًا عن العقيدة والقومية، فقد وجدوا فيه خطرًا يهدد حضارتنا فنشطوا لفضحه، وللدكتور عمارة باع طويل في مقاومته وتحجيم دوره، عبر مؤلفات عديدة نذكر منها على سبيل المثال:

الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، ونهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، وأزمة الفكر الإسلامي المعاصر والغرب، والإسلام والرد على شبهات العلمانيين، والإسلام بين التنوير والتزوير، وصراع القيم، وسقوط الغلو العلماني.

لقد رأى هذا المفكر في العلمانية الوجه الآخر للمستعمر الذي يعمل بهمَّة ونشاط عبر قنوات جمَّة لإلحاقنا بحضارته بعد احتلال عقولنا وحول فروقه الجوهرية.. ففارق بين تنوير علماني يسقط الوحي من مصادر المعرفة ومراجع العلم، وبين تجديد إسلامي يقيم المعرفة والعلم على ساقي الوحي والوجود ويحقق تكاملهما وتوازنهما.

وأما غيرته الدينية فإنه يرى في العلمانية أحد أخطر مصادر تغريبنا: وإذا كان تيار التغريب هذا قد مثَّل تحديًا كبيرًا وخطيرًا وعامًّا للإسلام وأهله، ولحضارتنا العربية الإسلامية المتميزة- رغم انفتاحها وتفاعلها مع كل الحضارات- فلقد كانت العلمانية واحدةً من أخطر الجهات في ذلك الصراع الذي مارسه التغريب ضد الإسلام.

هذه إطلالة لموقفه إزاء العلمانية، انطلقت من الغرب (أوروبا) كنتيجة حتمية لصراع الكنيسة وسطوتها الرافضة للعقل والإبداع الإنساني، وليس في أرض الإسلام الذي يُعلي من سلطان العقل كالدكتور عمارة محاور.

لعل الحوار من البديهيات بالنسبة له، فطبيعي من يمتلك عقلاً متوهِّجًا لا بد وأن يحس لغة الحوار وأدواته؛ لذا نجد هذا المفكر لم يقف منافحًا عن الإسلام وأهله بقلمه وحسب، وإنما استغلَّ- وهو من يقدِّر العقل كأروع نعمة وهبها الله للإنسان- ملكة الحوار لديه؛ دعمًا لمشروعه النهضوي الإسلامي عبر مواجهات عديدة جمعته بأئمة الفكر العلماني في بلادنا، خاصةً عندما نعتوا هذا الفكر الدخيل بالتنويري والنهضوي، مسقطين حسابات ديننا ومواريثنا الحضارية، فكان أن انتصر في هذه المناظرات للدين والحضارة العربية، وبرهن على صلاحيتها لكل أمة وعصر، فمثل بذلك أحد فرسان علم الكلام المعتزلة.

وهو يرى أن سبيل الكشف عن حقائق الإسلام في هذا الميدان وغيره من الميادين إدارة الحوار الموضوعي والجادّ، والصبر مع مختلف الفرقاء هو السبيل لاستعادة وحدة العقل العربي والمسلم حول ثوابت المشروع الحضاري الإسلامي وسدّ ثغرات الاختراق أمام الغرب والتغريب.

ونلحظ أن مفكرَنا الجليل عمارة لا يتخذ من قدرته الهائلة على الحوار- نتيجةَ تسليحه بعقلانيته المؤمنة وخزينه الثري من الموروث التاريخي والثقافة المعرفية الشاملة- وسيلةً للتغلُّب على خصومه.. بل إن فلسفته لمواجهتهم تأتي دفاعًا عن الدين وتأليفًا للقلوب من أجل التصدي لأعدائنا الخارج، وفي هذا يصرِّح: إن المهمة الأولية والملحَّة هي أن يفهم كل منا الآخر؛ حتى يكون الحوار مجديًا وموضوعيًّا، وحتى يُفضي هذا الحوار إلى بلورة مشروع حضاري لإنهاض الأمة ضد تحديات كثيرة فرضها ويفرضها عليها أعداء كثيرون.

والدكتور عمارة طالما شجَّع على حرية الفكر والحوار حتى مع من اختلف معهم، وهو يرى أنه ليس لأحد سلطان لتقييدهما أو تحجيمهما، يتمثَّل هذا في قضية شهيرة لأحد أساتذة الجامعة من أصحاب الحقد على الإسلام، فعندما رأى الدكتور عمارة أن القضاء بدأ يفصل فيها، قال: إنها قضية فكرية مجالها الحوار الفكري، والمختصُّون بها هم المفكِّرون والباحثون.. هي ليست قضية قانونية يختص بها المحامون ودوائر القضاء، هذا يمثل أحد مواقفه من الفكر.

وبعد.. فما ذكرنا إنما هو إلمامةٌ تُلقي حزمةً من الضوء على فكر الباحث الإسلامي الكبير محمد عمارة، أحد أهم رموزنا الفكرية المؤثرة في محيط ثقافتنا العربية والإسلامية.

يرحم الله العالم الجليل د. محمد عمارة