دعوة لاصطفاف القلوب ونبذ الجفاء

وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة.

وقال بعضهم: إذا استقيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسي فإن لم يقضها فكر عليه واقرأ هذه الآية: "والموتى يبعثهم" وقضى ابن شبرمة حاجة لبعض لإخوانه كبيرة فجاء بهدية، فقال: ما هذا? قال: لما أسديته إلي، فقال: خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى.

قال جعفر بن محمد: إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني: هذا في الأعداء فكيف في الأصدقاء? وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم ويتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله فكانوا لا يفتقدون من أبيهم إلا عينه بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياته.

وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم ملح، هل لكم حاجة? وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه.

وبهذا تظهر الشفعة والأخوة، فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن مهران: من لم تنفع بصداقته لم تضرك عداوته. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها، أصفاها من الذنوب وأصلبها في الدين وأرقها على الإخوان".

وبالجملة، فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها، ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، بل تتقلد منة بقبوله سعيك على الأقارب والولد.

كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا بالآخرة. وقال الحسن: من شيع أخاه في الله بعث الله ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة. وفي الأثر: "ما زار رجل أخًا في الله شوقًا إلى لقائه إلا ناداه ملك من خلفه طبت وطابت لك الجنة".

وقال عطاء: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم أو مشاغيل فأعينوهم أو كانوا نسوا فذكروهم. وروي: "أن ابن عمر كان يلتفت يميناً وشمالاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه فقال: إذا أحببت أحدًا فسله عن اسمه واسم أبيه وعن منزله فإن كان مريضًا عدته وإن كان مشغولاً أعنته". وفي رواية: وعن اسم جده وعشيرته.

وقال الشعبي في الرجل يجالس الرجل فيقول أعرف وجهه ولا أعرف اسمه: تلك معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: من أحب الناس إليك? قال: جليسي، وقال: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إلي فعلمت ما مكافأته من الدنيا. وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له.

وقد قال تعالى: "رحماء بينهم" إشارة إلى الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه.
-----------

إحياء علوم الدين - كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة، للإمام أبي حامد الغزالي