1- مدخل: حسن البنا المئذنة عندما تصدح بالضياء!

ربما صح أن نقرر الآن أنه آن لحسن البنا رضي الله عنه أن يبدأ رحلة الاطمئنان، نعم!

 

لقد ظل الرجل مصرًّا على أن يفجر طاقات النور في أروقة الظلمة المطبقة في أجواء يغشاها جبال العتمة نحوًا من مائة عام تقريبًا، وقد زاد من هذه الغشاوة الكثيفة قرن سابق عليه بث فيه الاحتلال بذور معاندة روح الفكرة الإسلامية في التعليم والتربية والثقافة والسلوك حتى غدا المسلم المعاصر في غربة توشك أن تمحو شخصيته، بعدما تزلزل وجدانه.

 

إن أهم سمة ينبغي أن نبرزها، ونعلن أمرها هي هذا اليقين الصلب في صدق الفكرة، وسلامة المنهج، واستقامة الطريق، وحصول الثمرة، واقتراب النجاح!

 

كان حسن البنا وهو يخط بقلمه ويرسم بتربيته آفاق ما سوف يقابل جنود الفكرة الإسلامية العاملين لنصرتها؛ المجاهدين في سبيل رفعتها- ينطق عن وعي بارع بطبيعة الدعوة، وطبيعة ما يوضع في طريقها من عقبات!

 

لقد كان الرجل مئذنة تصدح بالضياء، فينتشر، وكان مزنة تهمي بالماء، فينسرب، وهل يستطيع أحد أن يمنع حركة الماء؟!

 

وهذا الصوت الأبيض المملوء تفاؤلاً ويقينًا في النصر فاشٍ منتشر في كتابات الرجل كلها مهما كان نوعها، ومنتشر موزع على زمان حياته كلها، يقول في مقالة له بعنوان: (سنصل) نشرت أول مرة في مجلة "النذير" بالعدد (21) في 23 من شعبان سنة 1357هـ= 17 من أكتوبر سنة 1938م (10/42 من تراث الإمام البنا): "أيها المجاهدون...: لا تيأسوا فإن فجر النصر قريب، ومن استقام على أول الطريق فلا بد أن يصل إلى غايته".

 

إن ملامح إنعاش وعي الأمة بطبيعة موقعها الحضاري، وبطبيعة العماد الذي تملكه في الواقع الإنساني، وبحدود عبقرية الفكرة الإسلامية في شمولها، وتسامحها، وإنسانيتها دفعت الكثيرين إلى أن يروا في هذا الإمام مجددًا للدين في القرن الهجري المنصرم، أو على الأقل يجعله، والجماعة التي أخرجها للنور بعضًا من مجددي الدين بعد عمر من محاولات تشويه الإسلام، تمهيدًا لإقصائه ومحوه من الوجود.

 

من أجل ذلك فإن وصف حسن البنا بأنه نقطة الضوء الذي اخترق جدران الظلمة يصبح وصفًا صحيحًا بامتياز.

 

2- مفاتيح النور مفاتيح البناء!

في تحليل سابق لواحدة من القصائد المعاصرة التي وقفت أمام رسم صورة لحسن البنا عنونت له باسم: نور من المحراب، تنبه الشاعر الدكتور جابر قميحة إلى إظهار ملامح وجه حسن البنا وهو كونه إمامًا انتدب نفسه لإحياء صوت الإسلام من جديد، وهو ما حملني على أن أسمي تحليلي وقراءتي بما أخبرتك.

 

والحق أن الدكتور فريد الأنصاري سبق إلى صناعة معجم جعله على سبيل المقدمة اللازمة لفهم رسائل النور للإمام التركي المعاصر سعيد النورسي، وهو ما قصر فيه مفكرو الإخوان المسلمين على امتداد تاريخهم المضيء.

 

ولعل أهم مفاتيح فهم الدور العبقري الذي أحدثه هذا الإمام هو وعيه بطبيعة الفكرة الإسلامية المكتنزة المتفهمة للطبيعة الإنسانية المركبة، وهو ما بدا واضحًا جدًا في التعريف بدعوته؛ يقول حسن البنا مخاطبًا الذين لم يعرفوا الإخوان (12/91 من تراث الإمام البنا): "الإخوان المسلمون في إيجاز جماعة فهموا الإسلام فهمًا صحيحًا؛ واعتقدوه أفضل نظام لإصلاح الأمم والشعوب في كل مناحي الحياة"؛ في هذا النص يظهر أول مفتاح من مفاتيح عبقرية حسن البنا وهو المفتاح الأول والأعلى على طريق فهم هذه العبقرية، وهو: (شمول الإسلام)، وهو ما يعني أن الإسلام فاعل في مناحي الحياة الإنسانية جميعًا، وهي الفكرة التي استمرت قائمة في الوجدان الإسلامي، والحياة الإسلامية على امتداد اثني عشر قرنًا حتى جاء الاحتلال الأجنبي إلى بلادنا فكان من آثاره المدمرة تشويه هذه الفكرة التي لم تنقطع في الزمان الممتد الذي يسبق هذا الغزو.

 

وإذا كان مفهوم الشمول هو المفتاح العبقري لتقدير منجز حسن البنا على أرض الواقع المعاصر فإنه ليس المفتاح الوحيد؛ ذلك أنه يصح أن نقرر من غير مبالغة أو شطط أن ما يعرف في أدبيات حسن البنا باسم أركان البيعة هي المدخل الطبيعي لتقدير مفاتيح إعادة إحياء الفكرة الإسلامية على نهج النبوة الكريم.

 

هذه الأركان العشرة هي المعبر عنها بالمصطلحات التالية:

1- الفهم 2- الإخلاص

3- العمل 4- الجهاد

5- التضحية 6- الطاعة

7- الثبات 8- التجرد

9- الأخوة 10- الثقة

وهذه العشرة الأركان هي عمود الفقه التجديدي الذي افتتح أمره حسن البنا في العصر الحديث.
وفضله ظاهر في استجماعها في وحدة كلية جامعة أن ظلت متفرقة مشتتة لا يجمعها إطار في حركة الإصلاح قبله، وهو الأمر الذي يجعله امتدادًا لزعماء الإصلاح المعاصرين، الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا من جانب وتجديدًا إضافيًّا لجهادهم من جانب آخر.

 

3- حاجة تراث حسن البنا إلى العناية: ملامح وآفاق

والحق يقتضى أن نقرر أن تراث حسن البنا الذي أنجزه، وخلفه للحركة الإسلامية في حاجة ماسة وملحة إلى أنواع العناية تتجاوز جمعه وتحقيقه إلى فحصه ودراسته تمهيدًا للإفادة منه بالطرق المختلفة.

 

وقد كنت أشرت من قبل من المقدمة التي كتبتها بين يدي الكتاب الذي حررت مقالاته بعنوان: (المدخل إلى رسائل الإمام البنا: دراسة تأسيسية) (طبعة المنارات، سنة 2008م)، إلى ثلاثة من المسارات يلزم السير فيها خدمة لمنجز الرجل وهي (ص 30-31):

أ- معرفة مصادر كتاباته:

وأقصد بها المادة التي أسهمت في تكوينه، وألهمته هذه الروح- المنضبطة والمجددة معًا، ومكنته من الخلوص إلى الثوابت والأصول الكبرى، والابتعاد عن الفروع والأخلاط.

 

ب- معجم مصطلحات الحركة الإسلامية من خلال تراثه:

وأقصد بذلك الدعوة إلى وضع معجم يضبط مصطلحات الحركة الإسلامية ويحررها

 

ج- تحقيق منجزه الفكري:

وأقصد التأكد من تراث الرجل الذي خلفه، والاجتهاد في نشره عن أصوله الخطيّة بعد خدمته بمقدمات علمية بين يديه، وهو ما يقتضيه تحقيق النصوص عند نشرها.

 

وقد ظهر هذا المطلب الأخير هنا، واجتهد نفر من الباحثين في خدمته، ونشره، فيما عرف بالعنوان الجامع (من تراث الإمام البنا)، وصدر في أربعة عشر جزءًا امتدَّ نشرها في المدة الواقعة بين سنة 1425هـ/2004م وسنة 1427هـ/2006م، وهي كما يلي:

- العقيدة والحديث.

- التفسير.

- خواطر من وحي القرآن.

- الفقه والفتوى.

- عظات وأحاديث منبرية.

- المناسبات الإسلامية.

- إلى الأمة الناهضة.

- الإصلاح الاجتماعي.

- الإصلاح السياسي.

- قضايا العالم الإسلامي.

- مقالات حول القضية الفلسطينية.

- في الدعوة والتربية.

- الدعوة والحكومات والهيئات.

4- قرن من العمل في كل الاتجاهات:

إن فحص مادة هذا التراث الممتد الذي أنجز جمعه وتحقيقه مركز البصائر للبحوث والدراسات بإشراف الأستاذ/ جمعة أمين عبد العزيز، يوقفنا على مجموعة من العلامات المائزة في العمل الإسلامي المعاصر، يمكن إجمالها في رءوس الأقلام التالية:

 

أولاً- تقدير منجز رواد الحركة الإسلامية المعاصرين؛ ذلك أن حسن البنا رأى في نفسه، وقيامه بواجبه بعث الأمة أن امتداد لجيل عظيم من الرواد، جاء ليبني على منجزهم، وعطائهم، وهو سلوك إسلامي يستثمر ما تراكم من اجتهاد رجالات الإصلاح الإسلامي السابقين على زمانه من أمثال: محمد عبده، ورشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وغيرهم.

 

ثانيًا- ربط الفكرة بتربية الرجال، وهو الأمر الذي نلمح آثاره في توافر المؤتمرات التي كان يعقدها لأبناء الحركة الإسلامية، وفي عطاء ديار الإخوان المختلفة في البلدان المصرية، وتحويلها لمحاضن تربوية دائمة ترعى ترقية العقل والوجدان والجسم المسلم لأفراد الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي أثمر تنوعا طال المحاضن التربوية من جوانبها المختلفة ثقافيًّا، وعباديًّا، وأدبيًّا، وجماليًّا، وبدنيًّا وجهاديًّا، وهو ملمح يعكس وعي الفكرة الإسلامية في التطبيق الإخواني بمحور تميزها المتمثل في شمولها.

 

ثالثًا- الحيوية المتدفقة

إن قراءة منجز حسن البنا المجموع في سلسلة تراثه تعكس حيوية التطبيق الإخواني وتدفقه، وتعاطيه مع الشأن المصري والعربي والإسلامي في ماضيه، وحاضره اليومي، ومستقبله المنظور القريب، والبعيد. وهو الأمر الذي تغطيه أوراق كثيرة من أوراق هذا التراث تتعاطى مع الشأن السياسي الاجتماعي والاقتصادي للداخل المصري، نقدًا وتقويمًا، واقتراحًا.

 

ومن جانب آخر فإن في هذه الأوراق أوراق كثيرة ترعى الشأن العربي والإسلامي والتخطيط لمستقبله، وتعهد أبنائه بالرعاية، والانشغال بآلامه وآماله، وليس أدل على ذلك من هذا الاحتراق بقضية فلسطين، والنظر إليها من باب كونها قضية الوجود الإسلامي الكبرى في العصر الحديث.

 

إن هذا التراث العريق الممتد ليعكس بتنوعه، وتوافره، وتغطيته مجالات الحياة المختلفة يؤكد أن بعضًا من الحصاد الذي يجنيه الإخوان اليوم، تراجع إلى زمن التأسيس القوي والتقي معًا.

 

لقد نجح البنا من القراءة العابرة لتراثه في أن يعيد تصدير فهم الإسلام على منهج النبوة الكريمة إلى العصر الحديث، وأن يربي رجالاً يتحركون بهذا الفهم الراشد الشامل المتوازن.

 

ومقتضى المروءة والنبل تفرض على الذين شغبوا على الإخوان من الفصائل الأخرى من أبناء التيار الإسلامي الذين مالوا عن منهجية التربية إلى منهجية المواجهة والعنف أو أولئك الذين انسحبوا فلم يعارضوا، وانكبُّوا على ذواتهم منسحبين من معارضة الطغيان في قمة استعلائه- أن يعودوا إلى النقطة التي فارقوا فيها مربع الإخوان المسلمين.

 

وأزيد فأقرر أن مقتضى المروءة والنبل تفرض على الذين فارقوا الإخوان لأحد السببين أو لهما جميعا أن يعودوا ليقفوا خلف صفوفهم داعمين مؤازرين!

 

والذكرى هذا العام غير الذكرى في أعوام وسنين سابقة، الذكرى هذا العام تفرض بعد هذا القدر من التوفيق الرباني أن يعاد فحص منجز الرجل، وفحص تراثه، وفحص خبرته، وفحص طريقته في تربية الرجال، وفحص اليقين الذي حازه في حركته في الحياة.

 

رحم الله حسن البنا، وألهم أبناءه حُسن الفهم، وحُسن العمل، والمنافحة عن الله تعالى، ليكون الإسلام هو قائد الدنيا نحو الخير والنور.

----------------

* كلية الآداب- جامعة المنوفية.