رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله ومن والاه وبعد..
هل تعود الأمة إلى الوراء وهي في بداية نهضتها؟!

 

إن النهضة بالأمة ديدن المصلحين على الدوام، لها يعملون، ومن أجلها يقدمون التضحيات في صدق وإخلاص، ومن أجلها يتحمَّلون العناء، ويتجرَّعون العنت، وقد أقسموا على أنفسهم، وتعاهدوا مع ربهم على المضيِّ قدمًا في طريق النهضة، مهما كانت العقبات أو العوائق، وقد تحدثنا من قبل عن عائق الفرقة والتنازع، وكيفية تجاوزه؛ لتحقيق أهداف النهضة التي ينشدها الجميع لأمتنا.

 

وأمامنا في هذه الرسالة عائق طالما تعوَّذ منه معلم البشرية صلى الله عليه وسلم، كما طالب كل الناهضين بأوطانهم أن يحذروه، كما في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" (رواه مسلم).

 

وهذا أمير المؤمنين عمر يقول للشعب المؤمن: هل منكم أحد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟! قال حذيفة: فأَسكَتَ القوم فقلت: أنا، قال: أنت.. لله أبوك! قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعرض الفتنُ على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيما قلب أُشربها (أي قبلها وتأثر بها) نُكت فيه نكتةٌ سوداءُ، وأيما قلب أنكرها (أي رفضها) نُكت فيه نكتةٌ بيضاءُ؛ حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مثلِ الصّفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخرُ أسودُ مُربادًّا (شديد السواد) كالكوز مُجخِّيا (الكوز مقلوبًا والسواد ناتج من الهباب الذي يصنعه الحطب الذي يستخدم كوقود) لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه" (رواه مسلم)، وهكذا الفتنة تلتبس فيها الأمور الواضحة، ولا يحتكم فيها إلا إلى الهوى والانقياد إلى الباطل، فإذا بالبعض يجتهد من أجل حياة غير صحيحة، يجاهد في سبيلها، ويموت من أجلها موتة فاسدة.

 

ومن هنا تتفتح أبواب الفتن على القلوب، وتتوالى دون انقطاع، تارةً بالسير في تخبُّط وفساد، وتارةً بالولوغ في خطر التفرق أو تمزيق الصف، وأخرى بإسالة الدماء المعصومة، واستباحة الأعراض المصانة، وإضاعة الجهود والأموال، يقول صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" (رواه الترمذي).

 

وتأمل هذا المشهد لفتنة نائمة كيف وأدها النبي صلى الله عليه وسلم في مهدها، وقد خاب من أشعلها، عندما آمن أهل المدينة من (الأوس والخزرج) وفرحوا بالإسلام مرَّ عليهم شاس بن قيس اليهودي (رأس الفتنة) يذكِّرهم بيوم بعاث وما كان منهم من قتال بسبب خلاف قديم، حتى وقفوا يتصارعون ويتقاتلون من جديد!!، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكَّرهم بالله: "يا معشر المسلمين.. الله الله.. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألَّف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟!"، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوِّهم، وفتنة قاتلة مهلكة، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم، فأنزل الله تعالى (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران: من الآية 101)؛. فهل بعد هذا البيان الواضح تعود الأمة إلى الوراء بعد نجاحها في التغيير والإصلاح وبدء النهضة والبناء؟! وهل تعود إلى الوراء والله معها؟!، يقول تعالى عن مدبري الفتنة وسفاكي الدماء (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة: من الآية 64).

 

دروس حديث السفينة لمشهد اليوم:

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا" (رواه البخاري).

 

ما أشبه الأمة اليوم بهذا المثل النبوي، وهي في طريق نهضتها وبناء مستقبلها، بمثل السفينة السائرة في عرض البحر، لا تواجه أخطار الأمواج، وتقلبات الأجواء، وشدة الأعاصير من خارجها، فحسب، بل تواجه الخطر الأعظم النابع من داخلها، وفيه هلاكها، ومنه تدميرها، فكيف تنجح في السير وهي تخرب نفسها بنفسها؟!

 

فبعد أن اقتسموا الأمكنة فيها بالقرعة، صار نصيب بعضهم أعلاها ونصيب آخرين أسفلها؛ أصبح الناس فيها قسمين: الأول يعمل على تطهير المجتمع والدعوة إلى البناء، والثاني ينظر من خلال مصلحته الضيقة دون مراعاة للصالح العام.

 

والحل الذي قدمه النبي صلى الله عليه وسلم: أن من واجبات القسم الأول ألا يتركوا المنغمسين في الخطأ والمقصرين وضيِّقي الأفق "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا"؛ تصديقًا لقوله تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)) (الأنفال).

 

وكذلك الأمة بأسرها إن لم تأخذ بأسباب الاستقرار والبناء، وتركت العنان للمخربين والمفسدين، هلكت جميعًا، فهل من الحرية الشخصية أن يخرق الإنسان ثقبًا في نصيبه، ليأخذ الماء من قريب، ولا يؤذي من فوقه، حتى ولو كانت النية نبيلةً، أو كان العذر مقبولاً؟ فهل يعقل أن يصل به الأمر إلى أن يخرب مؤسسات بلده، أو يحرق هيبة وطنه، أو يدمِّر بيديه ممتلكاته، أو يقتل ويجرح أبناءه وإخوانه؟!

 

وأي أفق ضيق يعيش فيه غير عابئ بالضرر اللاحق بالمجموع، فتقوده المصلحة الشخصية، ويدفعه التصور الخاطئ، حينما لا يتعدى نظره موضع أقدامه، فلا يرى أحدًا غيره؛ لأنه حدَّد أفعاله في إطار ذاته ومصالحه الآنية الضيقة ولا ينتبه ولا يهتم بالمآل، وبالتالي لا يقدم من الحلول إلا ما فيه هلاك الأمة، وهو لا يدري!.

 

إنه يتخبط غير مدرك لعواقب ما يقول أو يفعل أو ما يدعو إليه أو يقوم بنشره.. يقول تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: من الآية 15)، ويقول تعالى عن نظرة دنيوية نفعية مؤقتة لأمثالهم عندما رأوا مال قارون (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) (القصص: من الآية 79)، فما كانت العاقبة والنتيجة إلا الخسف والدمار!.

 

وهكذا حال اليوم.. لا بد للشعوب بعد استرداد حريتها وكرامتها أن تأخذ الموقف الجاد، أمام من يعقدون الأمور ويبثون الفتن المكشوف منها والمستتر، فالإيجابية في مواجهة الفتن لا تعني الابتعاد عنها بالاعتزال السلبي والهروب الآثم من التصدي لها، بل بإرشاد الأمة الحيرى بكيفية الخروج منها، وتنوير الآخرين بحقائقها، وتبصير الناس بعواقبها، وبهذا وحده تكون النجاة للأوطان، ويتحقق الأمان للشعوب، وتنعم الأمة بالاستقرار، بل وينجو معنا أيضًا هؤلاء المخطئون تحقيقًا للتوجيه النبوي الرحيم.. "وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا"، وتصديقًا لقوله تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)) (هود)، ولم يقل (صالحون).

 

لا نهضة للأمة إلا بتجاوز الفتن

فالفتن كقطع الليل المظلم كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم"، وفي الحديث الذي رواه حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسًا أنا فيه عن الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعدد الفتن: "منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئًا- أي لا يتركن شيئًا- ومنهن فتن كرياح الصيف، ومنها صغار، ومنها وكبار"، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ"، يعني هذه هي الفتنة الداهية، وعَن أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ" (متفق عليه)، ولذلك يقرر القرآن هذه السنة التي لا تتبدل لعباده على الأرض في قوله تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) (العنكبوت).

 

فلا نهضة لأمتنا اليوم إلا بمواجهة الفتن، والسعي لإجهاضها، وهي لا تنتهي بل تتوالى، فواجب المصلحين الآن:

أولاً: التسلح بالتقوى والإيمان: وهي ليست كلمات تقال، بل كما يقول الأستاذ سيد قطب عن الإيمان: "إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنّا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرَّضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب، هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية"، وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعونا إلى تحقيق ذلك في ذواتنا وفي مجتمعنا، بل مع الناس والبشرية جميعًا في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ".

 

ثانيًا: الصبر والاستعانة بالله وحده: لقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة: "فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم" أخرجه ابن ماجة في الفتن.

 

ثالثًا: الوعي بحجم الفتن والتآمر الرخيص بها، وبدور كل ناهض بالأمة في التصدي لها، من غير توانٍ ولا كلل، ومن هنا يأتي الثبات أمامها، لقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء: من الآية 66)، بل وامتلاك السعادة والعيش الكريم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن" (رواه أبو داوود عن المقداد بن الأسود)، والدعاء حصن ووقاية ودفع لكل بلاء، خاصة في أوقات الإجابة، فالدعاء والبلاء يعتلجان.

 

رابعًا: الحرص على وحدة الصف، وتماسك الأمة، وهيبة الأوطان، وقوة الكلمة، وتجنب العجلة والتسرع في خطوات النهضة، أو قطف الثمار قبل نضجها، مهما كانت الظروف والملابسات والحذر أيضًا من البطء والتراخي والغفلة والتسويف؛ فهي على النقيض أيضًا مهلكة، والوسطية هي منهاج الأمة وطبيعتها.

 

خامسًا: حسن الصلة بالله تعالى والثقة في نصره القريب، والعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في أن يجنب الأمة الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالفتن خير إعداد لجنود النهضة وشعب مصر خير أجناد الأرض في تحمل الأمانة، والصدع بها، والصبر على أدائها، والثقة الحقيقية بالأجر الجزيل من الله تعالى، رغم طول الفتنة وشدتها وقسوتها، فبالصمود يصلب العود، ويشتد ويقوى، ويتم الفرز والتمييز بين النفيس والصدئ الرديء من معادن البشر، وكذلك تفعل الفتن بالأمة.

وصلى الله على قائدنا الحبيب محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.